كان الهدف الأمريكي هو هزيمة روسيا ودفعها للتفاوض عبر هجوم الربيع الأوكراني، ولكن اليوم لم يتحقق ذلك، وتبدو الحرب دخلت في مرحلة غير حاسمة، ولكنها تستنزف الطرفين وحلفاء كييف الغربيين دون نهاية تظهر في الأفق.
قبل حلول فصل الصيف، كان لدينا التصور العام لما قد تبدو عليه نهاية الحرب في أوكرانيا: أن تُدرِّب أوكرانيا قواتها وتحشدها، وتشن هجوم الصيف، وتستعيد أكبر قدر ممكن من الأراضي، وأن تدخل في النهاية في مباحثات سلام وهي تملك أقوى موقف تفاوضي ممكن وتضع حداً للحرب، حسبما ورد في تقرير لموقع Responsible Statecraft الأمريكي.
لكن الآن، بعد مرور شهرين من بدء الهجوم الأوكراني المضاد واقتراب نهاية الصيف، يبدو ذلك السيناريو مستبعداً على نحوٍ متزايد.
فالهجوم الأوكراني قد تعثَّر وفق كل المقاييس، إذ تندفع القوات التي غالباً ما تكون منهكة وقليلة الخبرة وتلقَّت تدريبها على عجل، مباشرةً نحو الدفاعات الروسية المُلغَّمة بشدة، بتكلفة بشرية مروعة.
اعتراف بفشل محاولة هزيمة روسيا وكييف تستهلك الذخيرة بمعدل أعلى من الإنتاج الأمريكي
يُنشَر كل هذا في وسائل الإعلام الأمريكية الكبرى أيضاً، بما في ذلك شبكة CNN وصحيفتيّ The Washington Post وThe New York Times. بدأت هذه المنافذ الإعلامية وغيرها، والتي كانت داعمةً للمجهود الحربي الأوكراني صراحةً، في رسم صورة قاتمة للوضع على الأرض.
فالقوات الأوكرانية تستهلك العتاد بوتيرة غير مستدامة، فتستخدم نحو 90 ألف قذيفة شهرياً بينما تنتج وزارة الدفاع الأمريكية (البنتاغون) ثلث ذلك الرقم فقط، في حين أنَّ 20% من أسلحة الناتو التي تستخدمها كييف قد تعرَّضت للتضرر أو التدمير خلال أول أسبوعين.
وفي ضوء المكاسب المحدودة الناتجة عن الهجوم، يطلب الرئيس الأمريكي جو بايدن الآن من الكونغرس مساعدات إضافية لأوكرانيا بقيمة 20.6 مليار دولار.
السؤال هو إلى أين سيذهب كل هذا وكيف سينتهي به المطاف؟
المسؤولون الأمريكيون منحوا زيلينسكي مهلة حتى الصيف
أشارت تقارير سابقة من صحيفة The Washington Post إلى أنَّ المسؤولين الأمريكيين أبلغوا الرئيس الأوكراني فلوديمير زيلينسكي بأنَّ أمامه على الأرجح فرصة حتى نهاية الصيف لإحراز أكبر قدر ممكن من التقدم قبل أن ينضب الدعم الأمريكي للمساعدات العسكرية ويضطر للتفاوض.
لكن في الوقت نفسه، يواصل البيت الأبيض إصراره على أنَّه سيدعم المجهود الحربي الأوكراني "مهما تطلَّب الأمر"، وقال مسؤول كبير لم تُكشَف عن هُويته لشبكة CNN يوم 10 أغسطس/آب إنَّنا "لا نعلم إلى متى ستستمر هذه الحرب"، لكنَّ البيت الأبيض "لن يخجل من العودة إلى الكونغرس بعد الربع الأول من العام المقبل إذا ما شعرنا أنَّنا بحاجة لفعل ذلك". ويتسق هذا مع تقييم مُسرَّب لوكالة استخبارات الدفاع في أبريل/نيسان الماضي خلُص إلى أنَّ مباحثات السلام مستبعدة هذا العام "في كل السيناريوهات التي درسناها".
تم تصوير الحرب بأنها ستمنع غزواً روسياً لأوروبا الشرقية وآخر صينياً لتايوان
وقد وصل الجمهور، جزئياً بسبب الخطاب المبالغ فيه الذي استخدمته الإدارة وحلفاء الناتو للإقناع بإلحاحية فكرة استمرار المساعدات العسكرية، إلى اعتقاد بأنَّ نتيجة الحرب لا تهم كييف وحدها وإعادة السيطرة على أراضيها المفقودة، بل تحمل أيضاً مخاطر وجودية للأمن الأمريكي، والنظام الدولي ككل، بل حتى للديمقراطية نفسها.
وعلى مدار الأيام القليلة الماضية، حثَّ المتحدث باسم مجلس الأمن القومي جون كيربي أولئك القلقين بشأن تكلفة استمرار المساعدات "إلى التفكير في ما كان يمكن أن تكون هذه التكاليف -ليس فقط من الناحية المادية، بل أيضاً من حيث الدماء- إذا ما أخضع بوتين أوكرانيا ثُمَّ وضع عينيه نصب حلفائنا بالناتو".
بعبارة أخرى، سيتطلَّب إخراج الولايات المتحدة من الحرب أن تتخلّى الولايات المتحدة فجأة عن الادعاء بأنَّ السلم العالمي والديمقراطية يتوقّفان على هزيمة روسيا.
وبعد عامين من مثل هذه الأحاديث، سيتعين على البيت الأبيض فجأة إقناع الجمهور بأنَّ ما هو مُعرَّض للخطر، في حقيقة الأمر، أكثر تواضعاً بكثير مما كان يدَّعي.
لكنَّ مثل هذا الحديث المبالغ فيه أصبح الآن تفكيراً اعتيادياً في المشهد السياسي الأمريكي. إذ قُوبِلَ المرشح الجمهوري للرئاسة كريس كريستي مؤخراً باتفاق قوي من جانب مذيعي برنامج "Morning Joe" الليبراليين بشبكة MSNBC حين ادَّعى بأنَّ الولايات المتحدة، "في حال لاذت بالفرار" من أوكرانيا، فإنَّها ستُحفِّز غزواً صينياً لتايوان وتدفع بالحكومات الصديقة حالياً في الشرق الأوسط للتخلي عن الولايات المتحدة لصالح الصين.
وبالمثل، دفع معلقون ومخططون استراتيجيون وأعضاء كونغرس أمريكيون، بل حتى الإدارة الأمريكية نفسها، بفكرة أنَّ النتيجة في أوكرانيا ستحدد ما إن كانت الصين ستغزو تايوان أم لا.
هيبة أمريكا على المحك بسبب التعثر الأوكراني وتكرار أخطائها في العراق وأفغانستان
وحتى لو كان المسؤولون لا يعتقدون حقاً أنَّ الأمن الأمريكي والأوروبي على المحك، فمن الواضح أنَّ أموراً أخرى قد تكون كذلك: هيبة ومصداقية الولايات المتحدة والناتو. فمثلما أدَّى دعم أوكرانيا لإعادة تنشيط وتوحيد الحلف، على الأقل ظاهرياً، فإنَّ إنهاء الحرب بعد هجوم فاشل وعدم استعادة السيطرة الأوكرانية على أراضيها، قد يكون له تأثير معاكس.
والأسوأ من ذلك هو أنَّه يمكن اعتبار أي نجاحات روسية -حقيقية كانت أم مُتصوَّرة- غير مقبولة سياسياً، بل حتى مهينة، لقيادة الناتو، فضلاً عن كشفها للانقسامات التي جرى إخفاؤها إلى حدٍّ كبير حتى الآن. لقد كانت الخشية من فقدان الهيبة والمصداقية أحد العوامل التي دفعت لاستمرار التدخل الأمريكي في فيتنام، وكذلك في العراق وأفغانستان وحروب أخرى.
في الوقت نفسه، تشير التقارير إلى أنَّ الرئيس بايدن، عن حق أو خطأ، يرى أنَّ النتيجة على ساحة المعركة مهمة بنفس الدرجة بالنسبة لفرص إعادة انتخابه العام المقبل. لكنَّ استطلاعات الرأي الأخيرة تشير إلى أنَّ غالبية الأمريكيين، بما في ذلك 71% من الجمهوريين و55% من المستقلين، تعارض تقديم المزيد من المساعدات العسكرية لأوكرانيا، في حين أنَّ الديمقراطيين هم الأكثر دعماً.
وقد تضطر واشنطن للدفع بتسوية غير مواتية لأوكرانيا
قد يضع هذا البيت الأبيض في مأزق صعب: التحرك لإنهاء الحرب وفق شروط أقل مواتاة لأوكرانيا مما كان قد وُعِدَ به سابقاً، وعندها ستواجه الإدارة هجمة انتقادات لا تختلف عن تلك التي أعقبت الانسحاب من أفغانستان، بما في ذلك من قاعدتها الشعبية، أو أن تُبقي الحرب دائرةً على أمل تحقيق نجاح لاحق، وحينها قد يستاء المزاج العام تجاه الحرب أكثر، الأمر الذي يضر بفرص إعادة انتخاب بايدن على أي حال. بالإضافة إلى ذلك، مثلما يُذكِّرنا حشد بولندا لقواتها على حدودها مع بيلاروسيا، فإنَّ الحرب المطولة تنطوي على احتمالات لا حصر لها لذلك النوع من التصعيد الذي يمكن أن يجبر دول الناتو على اتخاذ قرار بشأن ما إن كانت ستفي بالتزاماتها في المادة الخامسة أم لا.
لكنَّ أمراً واحداً مؤكد: كلما انتظرت الإدارة من أجل وضع الأسس لإنهاء الحرب دبلوماسياً، علانيةً وخلف الكواليس، كان فعل ذلك أصعب، وسيتحمَّل الشعب الأوكراني التكلفة الأكبر.