رغم مرور أكثر من عام ونصف على فرض الغرب عقوبات غير مسبوقة على روسيا بسبب الحرب في أوكرانيا، فإن السفن الروسية تتخذ من بحر قزوين مساراً لخرق العقوبات، فماذا يحدث؟
كانت الدول الغربية، بقيادة الولايات المتحدة، قد فرضت عقوبات على روسيا ربما لم تتعرض لها دولة أخرى، ولا حتى كوريا الشمالية، خلال فترة زمنية قصيرة، والهدف المعلن معاقبة موسكو وإجبارها على وقف الهجوم على أوكرانيا.
لكن الهجوم الروسي على أوكرانيا، الذي يصفه الرئيس فلاديمير بوتين بأنه عملية عسكرية خاصة، بينما يعتبره الغرب بزعامة الرئيس الأمريكي جو بايدن غزواً غير مبرر، لا يزال مستمراً للعام الثاني، ولا يبدو أنه قد يتوقف سوى بقرار روسي، فهل حققت العقوبات الغربية هدفها الآخر، وهو عزل روسيا تماماً؟
كانت صحيفة Washington Post الأمريكية قد نشرت تحليلاً بعنوان "ما مدى عزلة روسيا حقاً؟"، رصد مدى تأثير العقوبات الغربية على موسكو بشكل فعلي، بعد أن انتقلت روسيا، نتيجةً لهجومها على أوكرانيا، لدولة معزولة عن العالم. في غضون أسابيع، وتحولت من اقتصاد متكامل للغاية إلى واحدة من أكثر البلدان التي تُفرَض عليها العقوبات في العالم، وتذهب الحكومات الغربية إلى حدِّ تخريب السياسات والتقاليد القديمة لإرسال الأسلحة والمعدات الأخرى إلى أوكرانيا.
ما قصة بحر قزوين؟
وفي السياق، نشرت مجلة Foreign Policy الأمريكية تقريراً عنوانه "بحر قزوين جنة خارقة للعقوبات"، يرصد كيف أنه بينما ينشغل الجميع بمتابعة دراما البحر الأسود، يشهد بحر قزوين رحلات شحن غامضة. وهذا البحر- الأكبر في العالم- تحدّه كازاخستان وتركمانستان وأذربيجان وروسيا وإيران. وهذه الأيام، تحول هذا البحر الشبيه بالمحيط إلى مسرح لعمليات الشحن السرية ومعظمها لسفن روسية وإيرانية.
إذ شهدت الأشهر الثلاثة الماضية أكثر من 600 ثغرة في منظومة التعريف الآلي للسفن AIS من السفن الروسية وحدها، مقارنة بما يزيد قليلاً عن 100 في الشهر خلال نفس الفترة من العام الماضي. (وجميع السفن التجارية تقريباً ملزمة باستخدام منظومة التعريف الآلي؛ والثغرات في هذه المنظومة هي الفترات الزمنية التي تتوقف فيها منظومات السفن عن إرسال إشاراتها). وتجري السفن الروسية والإيرانية التي تسافر بين البلدين مكالمات موانئ مظلمة- أي دون فتح منظومة التعريف الآلي- بل إن بعضها تزيف موقعها.
وفي أحد الأيام مؤخراً، أجرت 12 سفينة مسافرة بين روسيا وإيران في بحر قزوين مكالمات موانئ مظلمة. (جميعها كانت مملوكة لكيانات روسية أو إيرانية، وترفع العلم الروسي أو الإيراني، أو كليهما).
ومن الواضح أن هذه السفن أرادت أن يعرف العالم الخارجي أقل قدر ممكن عن وجودها في تلك الموانئ، ولا توجد قوة شرطة بحرية عالمية تتأكد من التزام السفن بالقواعد واللوائح. ومن المؤكد أن العديد من السفن مشبوهة السلوك كانت تغلق نظامها الآلي لتحديد الهوية على مر السنين، ولكن حين يحدث ذلك على نطاق واسع، ومن واحدة من أقوى دول العالم، فهذا يقوض القوانين البحرية التي تتيح إمكانية الشحن العالمي.
ففي نفس ذلك اليوم الذي اختير عشوائياً، كانت 12 سفينة تجري مكالمات موانئ مظلمة، و12 سفينة أخرى كانت تنفذ عمليات نقل من سفينة لأخرى، وهي مناورة لا غبار عليها حين تكون بين سفينة كبيرة وأخرى صغيرة يمكنها زيارة الموانئ الصغيرة ولكنها أصبحت شائعة أيضاً بين السفن التي تحاول التعتيم على رحلاتها.
وهذا ليس سوى جانب واحد من الغموض الذي يكتنف الشحن في بحر قزوين هذه الأيام. ففي مايو/أيار الماضي، أحدثت 138 سفينة ترفع العلم الروسي تبحر في بحر قزوين 657 ثغرة في نظامها الآلي لتحديد الهوية.
سفن روسية وإيرانية
وفي يونيو/حزيران، حدثت 625 ثغرة مشابهة من 160 سفينة، وفي يوليو/تموز حدث ما لا يقل عن 630 ثغرة من 157 سفينة، وفقاً لبيانات شركة لويدز ليست Lloyd's List Intelligence. وهذا الرقم يساوي أربعة أضعاف عدد الثغرات في النظام الآلي لتحديد الهوية خلال مايو/أيار ويونيو/حزيران ويوليو/تموز من العام الماضي، حين عطلت السفن الروسية في بحر قزوين نظامها لتحديد الهوية 159 و135 و138 مرة على التوالي.
وفي مايو/أيار من هذا العام، أحدثت 48 سفينة إيرانية 199 ثغرة في النظام الآلي لتحديد الهوية؛ وفي يونيو/حزيران، أحدثت 48 سفينة إيرانية 218 ثغرة، وفي يوليو/تموز أحدثت 47 سفينة 192 ثغرة. وهذا يزيد قليلاً عن عدد السفن الشهرية بنفس الفترة من العام الماضي، وحوالي ضعف عدد ثغرات النظام الآلي لتحديد الهوية. وعدد كبير من السفن التي تحدث ثغرات في النظام الآلي لتحديد الهوية كانت تسافر بين الموانئ الروسية والإيرانية.
وبالمقارنة، كانت الثغرات في السفن الأذربيجانية والكازاخستانية والتركمانية التي تسافر في بحر قزوين محدودة جداً. ويبدو أنها تتبع القواعد، على الأقل في الوقت الحالي، لكنها إذا قررت إخفاء أنشطتها، فسيكون من الصعب إيقافها.
وثغرات النظام الآلي لتحديد الهوية في السفن الروسية والإيرانية ليست من النوع العرضي الناجم عن المشكلات الفنية أو الطقس فقط: فقد استمرت ما بين 149 و169 منها من أربعة إلى سبعة أيام، وما بين 50 إلى 92 استمرت من 8 إلى 14 يوماً.
بريدجيت دياكون، محللة بيانات لويدز ليست، قالت لمجلة فورين بوليسي: "كانت روسيا تروج لهذا المسار في خطابها، والروس يعرفون أنهم مراقبون بدرجة ما. وبحر قزوين مناسب جداً للتجارة مع إيران، وبإمكان الروس أن يجلبوا السفن إلى هناك من بحر آزوف. ويبدو أنهم يحاولون إخفاء عناصر من نشاطهم، أياً كان هذا النشاط. وباستخدام النظام الآلي لتحديد الهوية وحده، لا يمكننا أن نرى ما يفعلونه بالضبط، لكن بحر قزوين أكثر ازدحاماً مما كان من قبل".
وفي الواقع، لم تعد ثغرات النظام الآلي لتحديد الهوية السمة الثابتة الوحيدة التي تشترك فيها السفن الروسية والإيرانية في بحر قزوين هذه الأيام. فبين مايو/أيار ويوليو/تموز، حددت الباحثة كاثرين كامبرج، مكالمات موانئ مظلمة منتظمة وعمليات نقل من سفينة لأخرى تضم سفناً روسية أو إيرانية، غالباً بالعشرات. وخلصت بريدجت إلى أن الأمور في بحر قزوين "غريبة جداً في الوقت الحالي".
كيف تتحدى روسيا وإيران عقوبات الغرب؟
ثم هناك التزييف، أو ضبط النظام الآلي لتحديد الهوية على موقع زائف. ففي نفس اليوم الذي اختير عشوائياً والذي شهد إجراء 12 سفينة روسية وإيرانية لمكالمات مظلمة وتنفيذ 12 سفينة أخرى لعمليات نقل من سفينة لأخرى، كانت أربع سفن روسية وإيرانية تزيف موقعها بحيث تظهر راسية في ميناء خارج بحر قزوين في الوقت الذي كانت تبحر خلاله في بحر قزوين.
ورغم أن السفن التي تعبر بحر قزوين بين روسيا وإيران لا يفترض أن تقلقها عمليات التفتيش المزعجة في الموانئ الروسية أو الإيرانية، فمن الواضح أنها تعتقد أنه من الأفضل لها أن تسافر خلسة. وربما كان السبب نمو تجارتها.
فقبل هجومها على أوكرانيا، لم تكن روسيا بحاجة ماسة للتجارة مع إيران. وعام 2020، صدّرت ما يزيد قليلاً عن 1.4 مليار دولار من البضائع إلى إيران واستوردت سلعاً بحوالي 800 مليون دولار. (وهذا الرقم ليس نتيجة كوفيد-19: ففي السنوات الثلاث السابقة لهذا العام، كانت التجارة بين البلدين أقل من ذلك). ثم، عام 2021، قفزت الصادرات الروسية لإيران إلى ما يزيد عن 3 مليارات دولار ووارداتها إلى مليار دولار.
ومن بعدها، حولت حرب أوكرانيا إيران أيضاً إلى مورد أسلحة حيوي لروسيا. وفي يونيو/حزيران، قالت روسيا إنها في طريقها إلى توقيع اتفاقية تجارة حرة مع إيران ودول أخرى في أوراسيا بحلول نهاية العام، وتقول إيران إنها تعتمد على "كميات ضخمة" من مبادلات النفط والغاز مع روسيا.
لكن معظم سفن الرحلات سرية ليست ناقلات بل سفن شحن. فمثلاً، في يوليو/تموز، كانت 20 من السفن التي أبحرت بعيداً عن مجال المراقبة أثناء رحلاتها عبارة عن ناقلات تنقل نفط ومنتجات كيميائية، بينما كانت 129 منها سفن شحن، وفقاً لبيانات لويدز ليست. فما الذي تنقله هذه السفن، ولماذا تحرص أن يحيط الغموض بأنشطتها؟.
الرحلات الغامضة في بحر قزوين مثال قوي على حالة الاقتصاد الروسي اليوم. فقبل عامين فقط، كانت روسيا عضواً قوياً في الاقتصاد المعولم، وإن كانت تخضع لعقوبات غربية مختلفة. وفي يونيو/حزيران عام 2021، كانت الولايات المتحدة لا تزال تصدر ما قيمته 536.6 مليون دولار من البضائع إلى روسيا وتستورد ما قيمته 2.7 مليار دولار منها. واليوم، حُرمت روسيا من التجارة مع الاقتصادات المتقدمة في العالم. وفي يونيو/حزيران من هذا العام، استوردت الولايات المتحدة بضائع روسية بقيمة 411.7 مليون دولار وصدرت بضائع بقيمة 30.9 مليون دولار فقط.
وتمكنت الشركات الروسية بالتأكيد من تعزيز علاقاتها مع دول مثل الصين والهند وتركيا: فعام 2022، استوردت روسيا من تركيا ضعف ما استوردته منها عام 2021. لكن روسيا تحتاج أيضاً إلى أن تزيد حجم تجارتها مع دول تخضع للعقوبات مثل إيران، وتحتاج إلى أن تتصرف مثلها أيضاً.
الخلاصة هنا هي أنه من المتوقع أن تزداد، بحسب تحليل فورين بوليسي، الرحلات ومكالمات الموانئ المظلمة في بحر قزوين، والمزيد من عمليات النقل من سفينة لأخرى، والمزيد من تزييف مواقع منظومة تحديد الهوية. نعم، لقد تمكنت روسيا من احتلال أجزاء من أوكرانيا والسيطرة عليها منذ شنت الهجوم قبل 18 شهراً، لكن التجارة تحت العقوبات مسألة شاقة جداً.