تحولت غابة بيالويزا على الحدود بين بيلاروسيا وبولندا إلى "بؤرة ساخنة" لعبور المهاجرين إلى الاتحاد الأوروبي، فكيف أدى التوتر بين البلدين ووجود فاغنر إلى جعلها الغابة الأكثر خطورة؟
مجلة Foreign Policy الأمريكية تناولت القصة في تقرير عنوانه "أكثر الغابات سخونة في العالم"، يرصد كيف يدخل الآلاف من طالبي اللجوء والمهاجرون سنوياً إلى الاتحاد الأوروبي عبر بيلاروسيا، بينما يخوض بعض الأشخاص الأكثر ضعفاً -من سوريا وإثيوبيا واليمن وأفغانستان- رحلتهم خلسةً عبر 548 ميل مربع (1419.3 كم مربع تقريباً) من الأراضي العشبية الرطبة وأودية الأنهار والأشجار التي يعود عمرها إلى قرون في غابة بيالويزا.
بيلاروسيا وتدفق المهاجرين
يخوض المهاجرون هذه الرحلة بدعم ضمني من بيلاروسيا. وقد اتُّهِمَت البلاد بالتواطؤ في عمليات تهريب البشر، والإبقاء على نظام سهل لمنح التأشيرات لمساعدة المهاجرين في رحلاتهم، واستخدام حرس الحدود لدفع اللاجئين على الحدود البيلاروسية نحو بولندا إذا ما حاولوا التراجع عن فكرة عبور الحدود.
وفي حين لم تُشجِّع بيلاروسيا اللاجئين صراحةً في الآونة الأخيرة، فقد طرح رئيس البلاد ألكسندر لوكاشينكو السفر بدون تأشيرة إلى بيلاروسيا طوال معظم شهر يوليو/تموز لمواطني العديد من البلدان التي يفر منها اللاجئون، ظاهرياً من أجل المشاركة في مهرجان عالمي للفنون في مدينة فيتبسك.
لكن على كل الأحوال، ينتهي الأمر غالباً بكثير من طالبي اللجوء أو المهاجرين عالقين في تلك الغابة وقد يقضون أياماً وأسابيع بحثاً عن "ثغرة" يدخلون منها إلى بولندا أو قد يقعون فريسة إما لتجار البشر أو لقسوة الطبيعة.
ويدل على وجودهم آثار منها علب طعام وزجاجات مياه عليها كتابات بحروف سيريلية. وقفاز سميك، أحد أصابعه ممزقة. وشبشب، وغيرها. فهذه الأغراض يجرى التخلص منها على عجل، وقد عثر عليها ماريوس كورنيتا بعد ظهيرة يوم مشمس في يوليو/تموز الماضي خلال تنظيفه للمناطق المشجرة قرب غابة بيالويزا القديمة الواقعة على الحدود الشرقية لبولندا مع بيلاروسيا.
قال كورنيتا لـ"فورين بوليسي": "إنَّنا نجمع الأغراض التي يتركونها؛ لأنَّه لا يمكنهم القيام بذلك بأنفسهم، لأنَّهم يفرون حفاظاً على حياتهم".
انخفض عدد المعابر على طول هذه الحدود منذ بداية الأزمة الحدودية عام 2021، لكنَّ النشطاء وحرس الحدود البولنديين يشيرون إلى أنَّ العدد ربما يتزايد مجدداً. فقال قائد حرس الحدود البولندي إنَّ 19 ألف شخص حاولوا عبور الحدود البولندية البيلاروسية بصورة غير شرعية حتى الآن هذا العام، بزيادة عن مستوى 16 ألفاً طوال العام الماضي.
يواجه طالبو اللجوء صعوبات جديدة في بولندا. وهم يتحدثون عن تفادي حرس الحدود البولنديين الذين يمنعون المهاجرين من عبور الحدود إلى بلادهم أو حتى يعيدون إرسالهم إلى بيلاروسيا. هذا على الرغم من أنَّ قراراً لإحدى المحاكم البولندية في عام 2022 قد جعل عمليات "الترحيل الفوري" هذه دون اتباع الإجراءات القانونية أمراً مخالفاً للقانون. وهكذا أصبحت الغابات مكاناً للاختباء أثناء انتظار المهاجرين للمهربين كي ينقلوهم غرباً إلى دول أعضاء بالاتحاد الأوروبي أكثر وداً.
دخول بولندا "ممنوع"
اعتاد كورنيتا العمل في مجال البناء، لكنَّه يعمل الآن بدوام كامل لدى "مؤسسة فولنو نام" وفرعها، مؤسسة "بودلاسكي للإنقاذ الإنساني التطوعي"، والتي نشأت نتيجة لموجة الهجرة على الحدود. وقد حصل على جوائز في بولندا لمساعدته اللاجئين المصابين بالجفاف والإنهاك.
وفي وقتٍ سابق من هذا الصيف، تلقَّت مؤسسة بودلاسكي رسالة على تطبيق واتساب من سيدة في سوريا. لم تسمع السيدة أي أخبار عن زوجها، طارق، لمدة 9 أيام منذ عبوره الحدود إلى بولندا. وعندما أرسل لها آخر رسالة بموقعه من هاتفه، كان لا يزال في عمق الجانب البولندي من الغابة. توجَّه كورنيتا وأصدقائه للبحث، لكنَّه لم يكن متفائلاً. فقال: "لا يمكنك الاستمرار هناك لأكثر من أسبوع دون مياه".
تتبَّع كورنيتا أثر ذلك الموقع ليجد طارق ملقى في أدغال طويلة من العشب الرطب. ولم يكن طارق قد نجح خلال بضعة أيام في التحرك أكثر من 260 قدماً (79.2 متراً تقريباً) من آخر موقع له.
واليوم، السؤال هو ما إن كان المهاجرون أمثال طارق سيواجهون مساراً أكثر صعوبة فيما هو قادم في ظل تصاعد التوترات بين بيلاروسيا وبولندا. إذ تُعزِّز بيلاروسيا دعمها لروسيا في الحرب في أوكرانيا، التي تصفها موسكو بأنها "عملية عسكرية خاصة" بينما يصفها الغرب بأنها "غزو عدواني غير مبرر".
وتستضيف بيلاروسيا الآن قوات فاغنر الروسية شبه العسكرية، ويمازح لوكاشينكو الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بشأن رغبة مرتزقة فاغنر في زيارة بولندا. في الوقت نفسه، أدى التدفق المستمر للأشخاص عبر حدودها من بيلاروسيا إلى تركيز الحياة السياسية البولندية على قضايا حماية الحدود والهجرة. وأعلن الرئيس البولندي هذا الأسبوع إجراء الانتخابات البرلمانية البولندية في 15 أكتوبر/تشرين الأول.
وجعل حزب "القانون والعدالة" البولندي الحاكم، على وجه الخصوص، الحدود نقطة محورية في جهود إعادة انتخابه. ورسم رئيس الوزراء ماتيوس مورافيكي في يوليو/تموز الماضي رابطاً مباشراً بين المهاجرين ومرتزقة فاغنر، مشيراً إلى أنَّ فاغنر قد تُسهِّل عبور اللاجئين كصورة من صور "الحرب الهجينة"، بل وأشار حتى إلى أنَّ المرتزقة قد يتنكرون في صورة مهاجرين من أجل دخول الاتحاد الأوروبي.
دخول "فاغنر" على خط الأزمة
يحافظ حزب القانون والعدالة منذ فترة طويلة على الصدارة في استطلاعات الرأي، لكنَّ هذه الصدارة في تذبذب خلال الأشهر الأخيرة. توم جونز، الأستاذ المساعد في معهد الدراسات السياسية التابع للأكاديمية البولندية للعلوم في وارسو، قال لفورين بوليسي: "إنَّهم يفترضون أنَّ الهجرة واحد من الموضوعات التي يمكن أن تحشد ناخبيهم. إنَّها فرصة تراها الحكومة البولندية للترويج لمسألة الهجرة المحتملة وربطها بالحرب". وقد تعهَّد مورافيكي بإنفاق 4% من الناتج المحلي الإجمالي على الدفاع هذا العام، بارتفاع من 2.4% العام الماضي.
والحزب الحاكم ليس وحيداً في استغلال الحدود في الدعاية الانتخابية. ففي وقتٍ سابق من يوليو/تموز الماضي، دعا زعيم المعارضة الفعلي، دونالد تاسك، على وسائل التواصل الاجتماعي، لـ"السيطرة" على حدود بولندا، واتهم حزب القانون والعدالة بالسماح بدخول عدد كبير من المهاجرين من بلدان مثل إيران وباكستان ونيجيريا.
أعلنت مينسك في يوليو/تموز الماضي أنَّ المئات من مرتزقة فاغنر تُدرِّب القوات البيلاروسية الخاصة غربي البلاد، قرب حدودها البالغ طولها 250 ميلاً (402.3 كم) تقريباً مع بولندا. وشُوهِدَ مقاتلو فاغنر في الآونة الأخيرة يتحركون نحو حدود بولندا الشمالية الشرقية مع ليتوانيا، كما أرسلت بيلاروسيا مروحيات تحلق على ارتفاع منخفض إلى المجال الجوي البولندي.
قال ليام أوشيا، وهو زميل أبحاث أول بالمعهد الملكي للخدمات المتحدة، إنَّ التهديد الأكبر من فاغنر ليس باعتبارها أداة علنية للدولة الروسية أو البيلاروسية، بل باعتبارها مجموعة من "البلطجية" التي تملك وقتاً طويلاً وقد تحاول الانخراط في عمليات مختلفة لكسب المال مثل الجريمة المنظمة. واحتمال أنَّهم قد يساعدون في تهريب البشر أمر وارد.
ورداً على تحركات فاغنر الأخيرة، نشر المسؤولون البولنديون 500 ضابط شرطة وأرسلوا ألفاً من القوات الإضافية إلى منطقة بودلاسكي الحدودية، التي تضم الغابة التي يعبرها عدد كبير من المهاجرين. (وتعهَّد وزير الداخلية البولندي هذا الأسبوع بإرسال ما يصل إلى 10 آلاف جندي إضافي إلى الحدود).
وتتساءل آنا ألبوث من مجموعة "Grupa Granica"، وهي مجموعة تُقدِّم المساعدة وتراقب الوضع على الحدود البولندية، ما إن كانت بولندا ستفرض مجدداً قيوداً على الحركة في المنطقة المحيطة بالحدود البيلاروسية لمنع عمال الإغاثة من مساعدة المهاجرين، ومنع الصحفيين من رؤية عملهم. حدث ذلك عام 2021، حين كانت أزمة المهاجرين على الحدود في ذروتها، وقالت ألبوث إنَّ الخطاب البولندي بشأن المهاجرين اليوم يُذكِّرنا بتلك الفترة.
في بودلاسكي، حيث يعيش كورنيتا، يتجول الجنود على طول أرصفة البلدة الصغيرة، في حين تقوم الشرطة بتوقيف السيارات بحثاً عن المهاجرين داخلها. يُطلَب من ميشالينا، التي تتطوَّع في العديد من المنظمات في المنطقة، التوقف. ففتحت ميشالينا حقيبة السيارة بصورة جافة، ثُمَّ مضت في طريقها. وقد أمضت اليوم في تنظيف القمامة مع كورنيتا، ولديها رأيان بشأن حشد القوات في المنطقة. فهي تعتقد أنَّ بولندا بحاجة للدفاع عن نفسها من فاغنر، لكنَّها أيضاً قلقة من أنَّ وجود المزيد من قوات الأمن في المنطقة سيُصعِّب رحلة اللاجئين أكثر.
تأثير الحرب في أوكرانيا
أصبحت بيلاروسيا حليفاً رئيسياً لروسيا في حرب أوكرانيا، في حين أنَّ بولندا واحدة من أعلى الداعمين لأوكرانيا صوتاً فيما أصبحت حرباً وجودية من أجل البقاء. وعلى وعكس اللاجئين من المناطق الأبعد، حظى اللاجئون الأوكرانيون المتدفقون على الحدود الجنوبية الشرقية بالترحيب في بولندا، ولا يزال هناك أكثر من 1.3 مليون أوكراني في البلاد بعد مرور عام ونصف من بدء الهجوم الروسي.
وحتى قبل الحرب الروسية في أوكرانيا، كان بين بيلاروسيا وبولندا علاقة متوترة على نحوٍ متزايد. فبعدما دعمت بولندا حركة المعارضة الشعبية البيلاروسية عام 2021، حوَّلت حليفة روسيا أحلام اليائسين المتطلعين إلى حياة أفضل إلى سلاح من خلال الإتيان بطائرات مليئة بطالبي اللجوء من بلدان مختلفة في الجنوب العالمي إلى مينسك، ثُمَّ وضعهم عند حدود الاتحاد الأوروبي. وقد وجد هؤلاء المهاجرون أنفسهم عالقين في لعبة كر وفر بين قوات دولتين.
وبعد مفاوضات بين بيلاروسيا والقادة الأوروبيين، تباطأ اندفاع الهجرة المصطنع إلى حدٍ ما، وأكملت بولندا في عام 2022 بناء جدار حدودي بطول 115 ميل (185 كم تقريباً). لكن حتى مع وجود الجدار، لا يزال بعض الأشخاص يجدون طريقاً إلى أوروبا من خلال حفر أنفاق أو تسلق الحاجز، وغالباً ما تُوجِّه القوات البيلاروسية الكلاب نحوهم من الخلف.
وفي بلدة كرينكي الحدودية، الواقعة على بُعد 40 ميلاً (64.4 من تقريباً) شمال الغابة، دُفِنَت اللاجئة الكاميرونية نجينجوي ليفين في المقبرة الكاثوليكية، وكانت قد ماتت في وقتٍ سابق من هذا العام خلال محاولتها القيام برحلة العبور من بيلاروسيا. وفي الربيع، انتُشِلَت جثتها من نهر سفيسلاكس الذي يُرسِّم خط الحدود بين بولندا وبيلاروسيا القريبة. وقد ساعد ميروسلاف مينيزيفسكي، وهو كاتب وأستاذ يعيش هناك، في تنظيم جنازتها وجمع المال من أجل حضور والديها لتوديعها.
وقال: "يمكن أن تغرقوا في المستنقع. وفي الفترة من أكتوبر/تشرين الأول إلى مايو/أيار، يمكن أن تتجمَّدوا وحسب. الشتاء فظيع".
الجثث التي رآها مينيزيفسكي تطارده. ووفقاً لمجموعة Grupa Granica، تأَّدت وفاة 48 شخصاً منذ بدء الأزمة في 2021، ولا يزال 300 شخص مفقودين.
لكن لا تنتهي كل الرحلات بمآسي. فحين ذهب كورنيتا وفريقه للبحث عن طارق في يونيو/حزيران الماضي، كانوا متأكِّدين أنَّهم سيجدون جثة. لكنَّهم لم يجدوها. كان كاحلا طارق مصابين، وكان عالقاً في المستنقع. وكانت بشرته مجروحة وبيضاء نتيجة الرطوبة، فكان مصاباً بمرض "قدم الخنادق"، وكذلك يديه. غيَّر كورنيتا ملابس طارق، ولفَّه في بطانية من القصدير، وحمله إلى خارج الغابة على ظهره. وقال: "جعلنا المستحيل يحدث".
ذهب طارق إلى المستشفى، وهو الآن في مركز احتجاز مغلق في بولندا بانتظار النظر في طلب لجوئه. وما تزال زوجته وأطفاله في سوريا. ويواصل كورنيتا التوجه إلى الغابة بحثاً عن أشخاص قرب آخر المواقع التي سجلوها.