تمرُّ أحداث بأشخاص أو بلاد تتسبب في تغيير جذري وتصبح علامة فارقة، إذ انقضت 10 سنوات منذ فضّ اعتصام ميدان رابعة العدوية، ونشرت صحيفة The Washington Post الأمريكية تقريراً عنوانه "مذبحة ميدان رابعة غيّرت مصر إلى الأبد"، فماذا قال ناجون من المأساة الدموية؟
وفقاً لمنظمة "هيومن رايتس ووتش"، قتلت القوات المصرية ما لا يقل عن 817 شخصاً في ميدان رابعة العدوية بمحافظة القاهرة، و87 آخرين في ميدان النهضة بمحافظة الجيزة باستخدام العربات المدرعة والقناصة والذخيرة الحية. وأُصيب العديد من المحتجين برصاصة في الرأس أو الصدر، من بينهم كثيرون كانوا في أوائل سن المراهقة، واندلع حريق هائل في مكان الاعتصام واحترقت خيام المحتجين.
وسبق أن دعا الأمين العام للأمم المتحدة الساق بان كي مون، في الذكرى الثالثة لـ"فض اعتصام رابعة"، في أغسطس/آب 2016، إلى ضرورة إجراء تحقيقات كاملة بشأن مقتل مئات المدنيين على أيدي قوات الشرطة والجيش المصري، خلال فض اعتصام ميدان رابعة العدوية، شرقي العاصمة المصرية، والذي وقع يوم 14 أغسطس/آب 2013.
شهادة أحمد سميح.. ناشط حقوقي
لكن الناجين من مذبحة ميدان رابعة العدوية لا يشعرون بمرور 10 سنوات عليها، إذ لا تتوقف أصوات وروائح ذلك اليوم عن ملاحقتهم، بحسب تقرير "واشنطن بوست"، فحياتهم -وبلدهم مصر– لم تعد أبداً كما كانت، فقد تغيرت للأبد.
وتحدثت الصحيفة الأمريكية مع خمسة مصريين كانوا إما حاضرين في ذلك اليوم، أو تغيرت حياتهم بسبب ما حدث بعد ذلك. أحمد سميح (44 عاماً)، ناشط حقوقي سابق واحد من هؤلاء.
قبل يوم 14 أغسطس/آب، تلقى الناشط الحقوقي المصري أحمد سميح دعوة لحضور اجتماع مغلق في وزارة الداخلية، وقال لـ"واشنطن بوست" إنه شعر في نهاية الاجتماع بأن فضّ الاعتصام سيكون عنيفاً. وفي صباح اليوم الذي بدأت فيه عملية الفضّ، ذهب إلى هناك ليشهد ما يحدث، وقال: "أردت أن أرى الحقيقة فقط".
كان الدخان الأسود يتصاعد من الإطارات المحترقة، والدم في كل مكان يراق على الأرض ويلطخ السيارات. وفي صباح اليوم التالي كان قد أحصى أكثر من 152 جثة في المشرحة. وقال إنه بعد ما حدث في رابعة: "تغير كل شيء في مصر".
على أنه استمر في عمله الحقوقي، ثم في عام 2015 وُجهت إليه تهمة تشغيل محطته الإذاعية على الإنترنت بشكل غير قانوني، وفتشوا مكتبه، وتم تغريمه وقضى ليلة في قسم الشرطة.
وفي العام التالي، أثناء عمله مراقباً للانتخابات في أوغندا، اتصل به أحد معارفه في القاهرة ليخبره بأن اسمه مدرج في قائمة النشطاء الحقوقيين المقرر اتهامهم بتلقي تمويل أجنبي غير قانوني. فعاد إلى منزله لمدة 24 ساعة، وأعطى والدته توكيلاً رسمياً عن جميع ممتلكاته، وهرب إلى إستونيا، التي كان لديه إقامة بها.
عام 2021، بعد سنوات من التنقل بين مشاريع تجارية، بدأ العمل مذيعاً في قناة "الشرق"، وهي قناة تلفزيونية مقرها إسطنبول يملكها المعارض المصري أيمن نور، الذي يعيش في المنفى أيضاً. وهو لا يعرف إن كان سيتمكن من العودة إلى وطنه يوماً.
عائلة مكلومة.. أمل سليم وسارة علي
في 14 أغسطس/آب، غادر زوج أمل سليم (54 عاماً)، محمد علي، الذي كان مديراً لمستشفى وعضواً في جماعة الإخوان المسلمين، منزله متوجهاً إلى ميدان رابعة. وأخبرها بأنه سيساعد في تأمين إخلاء النساء والأطفال. وتوسلت إليه ليبقى، لكنه ودّعها وطلب منها أن تسامحه.
وكانت تتصل به بين الحين والآخر لتطمئن عليه. وكانت سارة علي (34 عاماً)، ابنتهما الكبرى، خارج المنزل في القاهرة وتطمئن عليه باستمرار أيضاً. وكانت تحدثه حين انقطع الخط. وحين عاودت الاتصال به، رد عليها رجل آخر وأخبرها بأن قناصاً أطلق النار على محمد في رأسه.
واتصلت سارة بشقيقها عمر، وهو صحفي كان يوثق ما يحدث في رابعة، وطلبت منه البحث عن جثة والدهما. ولكن لم يكن له أي أثر في العيادات المؤقتة. فنشرت سارة صورته على فيسبوك وطلبت معلومات عنه.
وفي اليوم التالي، اتصل رجل بها من رقم مجهول وقال إن جثة والدها ملقاة في شارع جانبي. واتبعت هي وعمر توجيهاته، وقال عمر لوالدته حين عادا إلى المنزل: "حملت والدي، ودفنت جثته ودماؤه على ملابسي".
وبعد إصابته باكتئاب حاد، طمأن عمر والدته بأنه سيساعد في إدارة شؤون المنزل وتربية شقيقتيه الصغيرتين، وكان يدرس ليصبح مهندساً.
وبعد ذلك، قبل ثماني سنوات، حين كان عمر في مطعم مع أصدقائه، اعتقلته قوات الأمن. وتصورت الأسرة في البداية أن الموضوع خلط في الهوية، لكنهم أدركوا بمرور الوقت أن عمر يُعاقب بسبب معتقدات والده السياسية.
لكنه في النهاية أدين بتهمة "إفشاء أسرار عسكرية"، وحُكم عليه بالسجن 25 عاماً دون أي فرصة للاستئناف. وأصيبت أمل فيما بعد بانهيار عصبي. والصيف الماضي، بدأت سارة تعاني من الهلوسة والتشوش وصعوبة النطق. فأُدخلت إلى مستشفى للأمراض النفسية وشُخصت حالتها باضطراب ما بعد الصدمة.
وقالت سارة: "لا مبرر لما حدث. ولكن لماذا أدفع أنا الثمن؟ ولماذا يقضي أخي كل هذه السنوات في السجن؟".
لينا عطا الله (40 عاماً)، صحفية
كانت لينا عطا الله صحفية في الثلاثين من عمرها، وكانت قد أسست لتوّها مؤسسة "مدى مصر" الإخبارية المستقلة. وكانت تنقل ما يحدث في اعتصام ميدان رابعة ذلك الصيف. ويوم 14 أغسطس/آب، استيقظت مبكراً وهرعت إلى الميدان مع زميل لها دون معدات واقية.
ومع تقدم قوات الأمن في الميدان، علقا في حشد بالقرب من مستشفى ميداني. وتذكر لينا مشهد الجثث، ورجل يحمل كومة من بطاقات الهوية الخاصة بالموتى، وأشخاص يحاولون إنقاذ بعضهم. وحين بدأ الرصاص ينهال كالمطر، ركضت لينا وزميلها هاربين.
وعن ذلك قال لينا لـ"واشنطن بوست": "الكلمات التي أعرفها لا يمكنها وصف بشاعة المشهد". وفي الأشهر التي تلت ذلك، أغرقت لينا نفسها في العمل "حتى لا تقع فريسة لليأس". وأدركت أن رابعة كانت "البداية لشيء مروّع".
وتعرض بعض من أقرب أصدقائها للاعتقال، من ضمنهم نشطاء وصحفيون. وأحدهم علاء عبد الفتاح، الذي قضى معظم العقد الماضي خلف القضبان بتهم تقول جماعات حقوقية إنها مفبركة. وفرّ أصدقاء آخرون من البلاد أو ماتوا منتحرين.
وعام 2017، حجبت الحكومة موقع "مدى مصر"، لكنه لا يزال يعمل، ويجد المصريون طرقاً لفتحه وتجنب الحجب.
وفي هذا الإطار، نشرت شبكة DW الألمانية تقريراً بمناسبة الذكرى العاشرة لفض اعتصام رابعة العدوية، رصدت كيف أن أحداثها لم تجد طريقها أبداً إلى ساحات المحاكم، وكيف أن "المذبحة لا تزال في انتظار العدالة".
مو (58 عاماً)، رجل أعمال
لا يزال مو يذكر بالضبط كيف مات عدد من الرجال أمامه. الأول، شاب كان يختبئ خلف شجرة، أطلق شهقة ومادت به الأرض. وقال "مو" لواشنطن بوست: "حين فحصته، وجدت رصاصة في قلبه، قتله قناص".
ثم مساعد سائق سيارة الإسعاف الذي أصيب برصاصة وهو يرتدي زيه الطبي: "تهشم رأسه إلى نصفين، وزميله كان يصرخ ويبكي".
وبعد ذلك، رأى رجلاً يُردى قتيلاً بينما كان الناجون يساعدون في الإخلاء، وأذرعهم ملفوفة على أكتاف بعضهم. وقال مو: "اضطررنا للمرور من فوقه".
ووصل مو -وهو رجل أعمال بارز- إلى الاعتصام في ذلك اليوم حوالي الساعة 6:30 صباحاً. وقال إنه لا ينتمي إلى الإخوان المسلمين، لكنه ذهب إلى هناك للاحتجاج على ما رآه استيلاءً عسكرياً ظالماً على الحكم. واحتُجز وأُجبر على تسليم بطاقته الشخصية قبل مغادرة الميدان.
وخوفاً من أن تلقي السلطات القبض عليه، هرب إلى الولايات المتحدة بعد ثلاثة أيام. ولم يعد إلى وطنه من حينها. وتحدث شريطة الإشارة إليه باسم مستعار خوفاً على أمن معارفه في مصر.
وفي السنوات التي تلت ذلك، تعرضت شركاته في مصر للهجوم والحرق. وتعرضت عائلته لمضايقات من الحكومة حتى وافق على التخلي عما تبقى من ممتلكاته.
ومو، الذي كان يوماً من طبقة النخبة في مصر، عاد ليبدأ من الصفر تقريباً في المنفى. وقال: "تركت كل شيء".
وهو يرى أن رابعة كانت "بداية محو كل ما يتعلق بثورة 2011″، حين كان المصريون متحدين في أملهم لبناء مجتمع حر.
وقال إن رابعة كانت فرصة للجيش "لاستعراض عضلاته" وإرسال رسالة لا لبس فيها: "لن يتمتع أحد بحرية التعبير أو الاحتجاج بعد الآن".