قبل 4 سنوات، حظي قيس سعيد، الأستاذ الجامعي، بدعم غالبية الأحزاب وضمنها حركة النهضة، ليصل إلى رئاسة تونس، فكيف انقلب على الجميع وشيطن المؤسسات لينفرد بالحكم؟ وماذا كانت النتيجة؟
كان مجلس شورى حركة "النهضة" التونسية قد أصدر بياناً، في سبتمبر/أيلول 2019، جاء فيه: "النهضة تدعو عموم الناخبين إلى التصويت لقيس سعيد"، حيث كان الأستاذ الجامعي المستقل قد تأهل إلى الدور الثاني من الانتخابات الرئاسية في تونس.
إذ كانت الحركة ترى أن قيس رجل نزيه قادر على حكم تونس عكس نبيل القروي، مرشح حزب "قلب تونس" الليبرالي الذي حصل على 15.58% من الأصوات في الدور الأول، والذي كانت تراه "النهضة" رجل فساد غير قادر على قيادة العباد.
قيس سعيد والانقلاب على ديمقراطية تونس
لكن قبل أن يكمل عامه الأول في السلطة، حل قيس سعيّد البرلمان ورفع الحصانة عن النواب وبدأ الرئيس يصدر القوانين بمراسيم من قصر قرطاج، وأعفى رئيس الحكومة هشام المشيشي وعيَّن رئيسة جديدة أُقيلت أيضاً، وتم حل المجلس الأعلى للقضاء.
هل تُريد أن تعرف كيف وصلت تونس للوضع الحالي؟ "عربي بوست" يُقدم قصة سردية لما حصل في بلاد الياسمين خلال ولاية الأستاذ الجامعي، الذي "شيطن" فيها كل المؤسسات، ورفع شعار "أنا الصح القادر على إنقاذ تونس من أزمتها".
فبعد 7 أشهر من توليه زمام الحكم في تونس، ظهر الرئيس التونسي قيس سعيّد في فيديو يوم 25 يوليو/تموز 2021، يُعلن من خلاله عن مجموعة من الإجراءات الاستثنائية، من بينها تعليق عمل البرلمان لمدة 30 يوماً، وإقالة رئيس الحكومة هشام المشيشي.
استمر قيس سعيّد في تمديد تعليق نشاط البرلمان، وكان يُصرح في أكثر من مرة، بأن البرلمان خطر على الدولة، ويشارك صوراً للمواجهات التي شهدتها المؤسسة التشريعية بين نواب الأغلبية والمعارضة.
وفي 30 مارس/آذار 2022 عقد البرلمان التونسي المنحل جلسةً افتراضية، شاركت فيها أغلب الكتل النيابية، وتم التصويت خلالها على مشروع قانون يلغي الإجراءات الاستثنائية التي اتخذها الرئيس.
في اليوم نفسه، أعلن سعيد خلال اجتماع مجلس الأمن القومي حلَّ البرلمان بناءً على الفصل الـ72 من الدستور التونسي؛ من أجل ما وصفه بـ"الحفاظ على الدولة ومؤسساتها، وحفاظاً على الشعب التونسي".
واستند الرئيس قيس سعيّد إلى الفصل الـ72 من الدستور لحل البرلمان التونسي، هذا الفصل الذي يقول إن "رئيس الجمهورية هو رئيس الدولة، ورمز وحدتها، يضمن استقلالها واستمراريتها، ويسهر على احترام الدستور".
بعد حل البرلمان تم استدعاء النواب المشاركين في الجلسة الافتراضية من طرف فرقة مكافحة الإرهاب بالقرجاني، وسط العاصمة التونسية، ووُجهت لهم تهمة تتعلق بـ"المس بسلامة الدولة".
القيادي بحركة النهضة محسن السوداني، قال إن "قيس سعيّد استثمر الصورة التي انطبعت في أذهان التونسيين عن كل مكونات المشهد السياسي، فصورة البرلمان كانت في أسوأ حالاتها، وحكومة المشيشي كانت مشلولة وعاجزة".
وأضاف المتحدث في تصريح لـ"عربي بوست": "الوضع الصحي كان متفاقماً، حيث كان التونسيون يموتون بالمئات ويصابون بالآلاف يومياً بفيروس كورونا، الوضع الاقتصادي كان خانقاً ولا حلول في الأفق".
وقال المتحدث: "الإعلام أتمّ المهمّة بأن رذَّل السياسة والسياسيين وطمس الرموز الوطنية وكرَّه إلى الناسِ الثورةَ وقيمها، وحبَّب إليهم أي عمل يضع حداً لذلك الوضع حتى ولو كان انقلاباً" .
ولفت السوداني: "مع العلم، ذلك الوضع المتردي كان مخطّطاً له، حيث عمد (الدستوري الحر) و(التيار الديمقراطي) إلى تعطيل عمل البرلمان، كما ساهمت حركة (الشعب) ونواب آخرون أيضاً في ذلك، وعطّل رئيس الدولة الحكومة بأن رفض قبول الوزراء الحائزين ثقة البرلمان لأداء اليمين أمامه".
وأكد النائب السابق: "بإيجاز فإن الأمر كان مدروساً، وهيّئت الظروف المناسبة لقيس سعيّد ليقيل الحكومة ويحل البرلمان ويحل المجلس الأعلى للقضاء وكل الهيئات الأخرى، وقد اعتمد النهج نفسه في أدائه طيلة عامين من الانقلاب، حيث يستدعي دائماً مفردات المؤامرة ويلقي التهم والمسؤولية على أطراف لم يحددها ولم يُسمِّها".
وأشار السوداني إلى أنه "رغم أن قيس سعيد أعلى هرم السلطة وبيده كل الصلاحيات وبلا منازع، فإن خطابه ظل خطاباً احتجاجياً كما لو أنه معارض، وهو مشهد سريالي لا يتكرر إلا في النظم الشعبوية، حيث يفترض دائماً وجود عدو يطلق عليه في كل مرة صفة أو تسمية، مثل المحتكرين أو المتآمرين والخونة الذين يتعاملون مع الخارج أو السيادة الوطنية ورفض التدخل الأجنبي".
وختم السوداني: "فبعد الانقلاب، انتقلنا من أزمة إلى كارثة. فكل المؤشرات اليوم في تراجع حاد والبلاد على حافة الانهيار، إن لم تكن أصلاً في حالة إفلاس غير معلن".
القضاء والإعلام واتحاد الشغل
شن الرئيس قيس سعيد حرباً ضروساً على مؤسسة القضاء، التي اتهمها بعدم معالجة مجموعة من الملفات المعروضة عليها، والتواطؤ مع الفاسدين، في إشارة إلى الأحزاب السياسية. واتهم قيس سعيّد المجلس الأعلى للقضاء بالولاء لشخصيات، والتلاعب بملفاتٍ، أبرزها قضية مقتل الأمين العام لـ"حزب الوطنيين الديمقراطيين الموحد"، شكري بلعيد، ومحاولة طمس معالمها والإبقاء عليها لمدة سنوات في أرفف المحاكم.
ولأن المجلس الأعلى للقضاء يُعتبر "أحد الإنجازات الرئيسية التي حققتها تونس في فترة ما بعد الثورة على الطريق نحو بناء المؤسسات الديمقراطية"، فإن الأزمة بينه وبين الرئيس كانت كبيرة.
وفي الخامس من فبراير/شباط 2022، أعلن سعيّد حل المجلس الأعلى للقضاء، بعد أن اتهم أعضاء فيه بالفساد والولاء لحركة النهضة، ووزير العدل الأسبق نور الدين البحيري (نائب رئيس الحركة). وفي السابع من الشهر نفسه، أغلقت الشرطة التونسية أبواب المجلس الأعلى للقضاء وسط العاصمة تونس بأقفال حديدية ومنعت القضاة وحتى الموظفين الذي من يشتغلون برواتب ولا علاقة لهم بالسلطة القضائية من دخول مبنى المجلس.
ولم يكتفِ الرئيس بحل المجلس المستقل عن السلطة التنفيذية، بل أعلن عزل عشرات القضاة، من بينهم يوسف بوزاخر الرئيس السابق للمجلس الأعلى للقضاء، واتهمهم في أكثر من خطاب بالفساد وحماية إرهابيين. ووصلت معركة قيس سعيّد مع القضاء إلى حد توجيه تهم أخلاقية لقاضيتين، اتهمهما بالزنا والتحرش الجنسي علانية في أحد خطاباته، كما أن إحدى القاضيات خضعت لفحص العذرية لإثبات براءتها!
أما بالنسبة للإعلام، ففي صورة اعتبرها الوسط الإعلامي في تونس "مهينة"، جلست عواطف الدالي، مديرة التلفزيون التونسي، خاضعة بمكتب الرئيس قيس سعيّد تستمع للتوبيخات التي وجهها بسبب الخط التحريري في القناة.
وفي تدخل سافر في الإعلام، كما وصفته نقابة الصحفيين، قال سعيد -خلال لقاء بقصر قرطاج مع الدالي- إن العديد من البرامج التي تبثها القناة الوطنية -فضلاً عن نشرات الأخبار وترتيب الأنباء- "ليست بريئة".
قيس سعيّد انتقد استضافة برنامج "الزمن الجميل" بعض الشخصيات، التي قال إنها كانت مختبئة خلال ثورة 2011، وطالب مديرة التلفزيون بالتذكير بقضية شكري بلعيد وشكري لبراهمي.
وانتقدت نقابة الصحفيين توجيه الرئيس سعيّد انتقادات لاذعة لمديرة التلفزيون التونسي، عواطف الدالي، خصوصاً للخط التحريري في القناة، وترتيب الأخبار في نشرة الأنباء، في لقاء وُصف بـ"التوبيخي"، وبضرب حرية الإعلام.
هذا المشهد يصف الوضع الذي وصلت إليه العلاقة بين الإعلام والسلطة التنفيذية في تونس، فمنذ أن أعلن الرئيس عن قراراته الاستثنائية قبل سنة ونصف السنة تقريباً، وهو يصدر مراسيم رئاسية في حق الإعلاميين.
ولعل أبرز القضايا تلك التي شهدتها تونس في الـ24 من أغسطس/آب 2021، عندما أصدر قيس سعيّد أمراً رئاسياً بإعفاء المدير العام للتلفزيون الوطني محمد الداهش من مهامه، في إطار حملة إقالة شملت 30 مسؤولاً في مدة 10 أيام.
وبالتزامن مع أزمته مع السلطة القضائية والتشريعية في البلاد، أشهر سعيّد سلاحه في وجه الإعلام أيضاً، الذي لم يسلم من تبعات تفرد الرئيس بجميع السلطات، فتلاحقت قضايا متابعة الإعلاميين، ومنهم من توبع في حالة اعتقال.
والحكم بخمس سنوات على مراسل إذاعة "موزاييك إف إم"، الإذاعة الأولى في تونس، من طرف وحدة البحث في جرائم الإرهاب القاسمي، بمدينة القيروان 5 أيام على ذمة التحقيق، بدعوى نشره خبراً عن تفكيك خلية إرهابية في المدينة.
كما أحالت السلطات التونسية نقيب الصحفيين ياسين جلاصي وناشطين من المجتمع المدني إلى القضاء في أعقاب موجة اعتقالات شملت معارضين بارزين للرئيس قيس سعيّد.
ولم يكتفِ قيس سعيّد بمواجهة المؤسسة التشريعية والقضائية والإعلام، بل تطاول على الاتحاد العام التونسي للشغل، الذي يعتبر أقوى نقابة في تونس، والذي حصل على جائزة نوبل للسلام سابقاً.
وبدأت أزمة الاتحاد التونسي للشغل والرئيس قيس سعيّد عندما أصدرت رئيسة الحكومة السابقة نجلاء بودن المنشور 20، بمنع الحكومة من التفاوض مع النقابات قبل الحصول على ترخيص من رئاسة الحكومة.
أيضاً من بين أهم أسباب عودة التوتر بين اتحاد الشغل وقيس سعيّد وحكومته، الاتفاق مع صندوق النقد الدولي والبرنامج الإصلاحي الذي قدمته الحكومة مقابل حصولها على قرض ممدد بقيمة 1.9 مليار دولار تصرف على امتداد 48 شهراً.
واختار نور الدين الطبوبي، رئيس الاتحاد التونسي للشغل، ذكرى وفاة مؤسس المنظمة فرحات حشاد، لمهاجمة الرئيس قيس سعيّد وحكومته، وطالب بضرورة إجراء تعديل وزاري وتحمّل مسؤولية ما بعد يوليوز/تموز 2021.
وطالب الاتحاد بالكشف عن النقاط التي تضمنها البرنامج الإصلاحي الذي قدمته الحكومة لصندوق النقد الدولي، لكنه يعتبر أن الأكيد هو التعهد برفع الدعم عن المحروقات والطاقة والمواد الأساسية والتفويت في المؤسسات العمومية.
ويعتزم اتحاد الشغل في تونس إضافة إلى 3 منظمات أخرى، عرض مبادرة جديدة على الرئيس التونسي قيس سعيد، تذكّر بـ"رباعي الحوار الوطني" عام 2013، وهذه المرة تحت مسمى "تونس المستقبل".
المبادرة التي كانت تحمل اسم "الإنقاذ الوطني" سابقاً، حسب ما كشفته مصادر "عربي بوست" رفض الرئيس سعيّد التعامل معها حينها، وقال إن الحوار يكون في البرلمان.
المبادرة الجديدة يشارك فيها إلى جانب اتحاد الشغل كل من عمادة المحامين التونسيين والرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان والمنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية، وهي المنظمات ذاتها التي أطلقت مبادرة 2013، التي نجحت حينها في تحقيق توافق بين الأطراف السياسية الرئيسية في البلاد.
وكان من الطبيعي أن ينعكس هذا السلوك الاستبدادي لقيس سعيد على الاقتصاد التونسي، ويدفع التونسيون الثمن بطبيعة الحال. إذ وصلت الأزمة الاقتصادية إلى شح المواد الغذائية الأساسية، واختفائها من الأسواق كالسكر والزيت والقهوة، فتم تحديد الكميات الممكن شراؤها من طرف الزبون الواحد، كالحليب والسكّر والزيت النباتي وحتى السجائر.
وكعادته دأب الرئيس قيس سعيد، بصفة شبه دورية منذ إعلانه عن إجراءات 25 يوليو/تموز على كيل الاتهامات لأطراف سياسية لم يُسمّها، بالوقوف وراء كل ما يحصل من فقدان المواد الغذائية من الأسواق والتلاعب في أسعارها.