الصراع بين أمريكا والصين على أشده ويزداد يوماً بعد يوم، وفي القلب منه تايوان، فلماذا تعتبر الطاقة نقطة الضعف الأبرز أو "كعب أخيل" بالنسبة للجزيرة ذاتية الحكم؟
فالصين تعتبر تايوان جزءاً من أراضيها بموجب مبدأ "الصين الواحدة"، وتقول بكين إن قضية تايوان هي الأمر الأكثر حساسية وأهمية في علاقاتها بالولايات المتحدة، وفي الوقت نفسه تقوم سياسة الولايات المتحدة على الاعتراف بأن "الصين واحدة" ولا تقيم علاقات دبلوماسية كاملة مع تايوان.
وهكذا أصبح مبدأ الصين الواحدة هو كلمة السر التي على أساسها تحدد بكين علاقاتها مع باقي الدول حول العالم، والمقصود هنا هو أن تايوان جزء لا يتجزأ من الصين، شأنها شأن هونغ كونغ، التي كانت تحت السيطرة البريطانية حتى استردتها بكين عام 1997، وماكاو التي كانت تحت السيطرة البرتغالية حتى استردتها الصين عام 1999.
أما فيما يتعلق بتايوان فالأمور تبدو مختلفة إلى حد كبير، فتايوان دولة كانت تتمتع باعتراف دول العالم أجمع، بل إنها كانت عضواً دائماً في مجلس الأمن الدولي، وبالتالي لا توجد قوة عظمى أو دولة استعمارية تسيطر عليها يمكن أن تتفاوض معها الصين الشعبية لاستردادها كما حدث مع هونغ كونغ وماكاو.
صراع التكنولوجيا
وتناول تقرير لمجلة Foreign Policy الأمريكية عنوانه "الطاقة هي نقطة ضعف تايوان"، ألقى الضوء على ازدياد حدة المواجهة بين الولايات المتحدة والصين، خاصة في مجال التكنولوجيا، حيث يستهدف البلدان بشكل متزايد مدخلات وخطوط إمداد بعضهما بعضاً لأشباه الموصلات، وهي الرقائق الدقيقة الضرورية للاقتصاد الحديث ولها تطبيقات متنوعة، من تطوير الذكاء الاصطناعي إلى العمليات العسكرية.
لكن العنصر الوحيد في هذه المنافسة الذي يمكن أن يكون له عواقب غير متوقعة ومحورية هو تايوان ونقاط ضعف إمدادات الطاقة فيها.
فبعد القرار الخطير الذي اتخذته الولايات المتحدة بفرض ضوابط على الصادرات على تقنيات أشباه الموصلات المتقدمة والذكاء الاصطناعي إلى الصين في أكتوبر/تشرين الأول 2022، حظرت بكين مشتريات الرقائق من شركة ميكرون الأمريكية في مايو/أيار الماضي وأعاقت عمليات اندماج الشركات التي تشمل شركات أشباه الموصلات الأمريكية التي تعمل في الأسواق الصينية.
انضمت اليابان وهولندا إلى الولايات المتحدة في تبني ضوابط التصدير على معدات تصنيع أشباه الموصلات الحيوية إلى الصين في وقت سابق من هذا العام، وأعلنت بكين مؤخراً عن متطلبات ترخيص التصدير على الغاليوم والجرمانيوم -وهما عنصران مهمان يُستخدَمان في صناعة أشباه الموصلات تهيمن الصين على تعدين معظمهما- وقد دخل القرار حيز التنفيذ في 1 أغسطس/آب الجاري.
تايوان هي إحدى الركائز الأساسية لمنافسة أشباه الموصلات هذه بين الولايات المتحدة والصين. تنتج الجزيرة، عبر شركة شركة تايوان لصناعة أشباه الموصلات المحدودة بشكلٍ أساسي، 90% من الرقائق الأكثر تقدماً في العالم. وبغرض تقويض هذه التكنولوجيا الطموحة لبكين، تعمل تايوان مع الولايات المتحدة لتقييد حصول الصين على هذه الرقائق (بالإضافة إلى التقنيات المتقدمة التي تدعمها).
هذه العوامل -بالإضافة إلى التوترات الأوسع بين الولايات المتحدة والصين حول التوافق الأمني لتايوان مع واشنطن ووضعها السياسي العام مقابل بكين- تجعل الجزيرة عنصراً مهماً بشكل خاص في المنافسة بين الولايات المتحدة والصين على أشباه الموصلات.
حتى الآن، تتمتع الولايات المتحدة بميزة في هذه المنافسة. كان تقدم الصين في تطوير قدرات تصنيع أشباه الموصلات المتقدمة الخاصة بها أبطأ مما كانت تأمله بكين، رغم استثمارات الدولة المُقدَّر بالمليارات. ولكن في الوقت نفسه، فإن تايوان معرَّضة لقيود الصين الخاصة، بما في ذلك صادرات المواد الخام مثل المعادن الأرضية النادرة، والتي تهيمن عليها الصين أيضاً وأثبتت استخدامها كأداة لسياستها الخارجية في الماضي.
إمدادات الطاقة.. أبرز نقاط ضعف تايوان
لكن بعيداً عن نقاط الضعف المعروفة هذه، هناك طرق أخرى يمكن أن تسعى بها بكين للتأثير على تايبيه، سواء من حيث دورها في المواجهة بشأن أشباه الموصلات أو بما يتماشى مع هدف الصين الأوسع المتمثل في "إعادة توحيد" تايوان معها. أحد الخيارات هو التدخل العسكري. والخيار الثاني هو فرض حصار اقتصادي على الجزيرة. أما الثالث فهو تأميم عمليات شركة تايوان لصناعة أشباه الموصلات المحدودة في الصين القارية.
ومع ذلك، تأتي كل هذه الخيارات مصحوبة بمخاطر كبيرة من اندلاع رد فعل سلبي، بما في ذلك احتمال الصدام العسكري المباشر مع الولايات المتحدة، والركود الاقتصادي الحاد، مما قد يقوِّض الشرعية الأساسية للحزب الشيوعي الصيني.
ومع ذلك، هناك خيار آخر يمكن أن تتخذه الصين للتأثير على تايوان، وهو خيار أكثر دقة ومع ذلك يمكن أن يثبت فاعليته. تايوان لا تستطيع أن تمد نفسها بالطاقة. وهي تعتمد على الواردات لسد أكثر من 97% من احتياجاتها من الطاقة، واثنان من مصادر الطاقة ذات الأهمية الخاصة للجزيرة هما الغاز الطبيعي والفحم.
ينتج هذان المصدران معاً أكثر من 80% من توليد الكهرباء في تايوان، حيث تعمل الكهرباء كمدخل حاسم لإنتاج أشباه الموصلات. تمثل شركة تايوان لأشباه الموصلات وحدها أكثر من 6% من استهلاك الطاقة في الجزيرة، وقد نمت احتياجات الكهرباء لاستهلاك الشركة بأكثر من 30% فقط بين عامي 2020 و2022. في الواقع، عانت تايوان بالفعل من نقص دوري في الكهرباء المتعلقة بالبنية التحتية للطاقة النووية.
ولأن تايوان جزيرة، يجب أن تأتي جميع واردات الطاقة هذه من طرق الإمداد البحري، مما يجعلها عرضة للخطر. أصبحت الصين نشطةً بشكلٍ متزايد في إجراء التدريبات البحرية واسعة النطاق التي تحيط بالجزيرة، لا سيما خلال الفترات الحساسة مثل زيارات الكونغرس الأمريكي إلى تايوان أو زيارات القيادة التايوانية للولايات المتحدة.
ويمكن لمثل هذه التدريبات أن تعرِّض خطوط الإمداد التايوانية للخطر أو تقطعها من الناحية الوظيفية لفترة محدودة، دون إثارة ذلك النوع من ردود الفعل السلبية مثل الحصار الشامل أو التدخل العسكري. وحتى التعطيل المحدود قد يكون ذا شأنٍ كبير بالنسبة لتايوان، التي تمتلك حالياً مخزونات يمكن أن تستمر لـ11 يوماً فقط بالنسبة للغاز الطبيعي و39 يوماً بالنسبة للفحم.
كيف قد تستغل الصين نقطة الضعف هذه؟
يكشف تحليل مزودي الفحم والغاز الطبيعي المسال التايوانيين عن المزيد من نقاط الضعف. هناك بعض الدول الصديقة التي تتماشى مع أهداف تايوان فيما يتعلق بالصين، بما في ذلك أستراليا، التي وفرت 55% من واردات الجزيرة من الفحم و32% من وارداتها من الغاز الطبيعي في عام 2021.
وقدمت الولايات المتحدة 9% من إمدادات الغاز الطبيعي المسال في تايوان في عام 2021، وقد تنمو هذه النسبة في المستقبل. ومع ذلك، يواجه كلا البلدين قيوداً في دعم تايوان من منظور الطاقة -فقد يستغرق الأمر 30 يوماً على الأقل لوصول شحنات الغاز الطبيعي المسال الإضافية القادمة من الولايات المتحدة إلى تايوان، في حين أن أستراليا كانت قد قطعت بالفعل استيراد الفحم من الصين بسبب الخلافات السياسية المتعلقة بجائحة كوفيد.
بالإضافة إلى ذلك، فإن بعض مزودي الطاقة لتايوان ليسوا متوافقين استراتيجياً مع الجزيرة مثل الولايات المتحدة وأستراليا. على سبيل المثال، تعد روسيا -التي عززت علاقاتها مع الصين- مزوداً مهماً للطاقة لتايوان، حيث أمدتها بما يقل قليلاً عن 15% من واردات الفحم و10% من واردات الغاز الطبيعي في 2021. وقد أثبتت موسكو بوضوح استخدامها للطاقة كسلاحٍ سياسي في أوكرانيا وفي جميع أنحاء أوروبا، ويمكن أن تختار التعاون مع الصين إذا كانت بكين تنوي أن تتلاعب بإمدادات الطاقة في تايوان.
يمكن للصين استخدام الآليات القانونية لتنظيم واردات تايوان من الطاقة على أسس "بيئية" وتطلب من تلك الشحنات أن تمر أولاً عبر الموانئ الصينية لفحصها لفترة زمنية معينة، بدلاً من إجراء استبدال كامل أو تحويل. وعلى عكس الولايات المتحدة أو أستراليا، من غير المرجح أن تعارض موسكو مثل هذه الخطوة من قِبَلِ بكين، مما قد يوفر للصين أشكالاً إضافية من النفوذ الاقتصادي والدبلوماسي.
هذا النوع من الضغط على تايوان لا يقتصر على روسيا. توفر قطر 25% من صادرات الغاز الطبيعي في تايوان، لكن الصين تمثل سوقاً أكبر للطاقة وسوقاً تجاريةً أوسع للدولة الخليجية. ربما يكون من المفيد أن قطر لم تنضم إلى الولايات المتحدة وحلفائها في معاقبة روسيا بعد اندلاع الحرب في أوكرانيا، التي تصفها موسكو بأنها "عملية عسكرية خاصة"، بينما يصفها الغرب بأنها "غزو عدواني غبرر".
وقد نمت تجارة الصين مع روسيا فعلياً خلال العام الماضي، رغم محاولات الغرب لعزل موسكو. وتمثل إندونيسيا، التي توفر 24% من واردات تايوان من الفحم و6% من وارداتها من الغاز الطبيعي المسال، مصدراً محتملاً آخر للضغط على بكين. تعد إندونيسيا أحد المتلقين الرئيسيين للاستثمار من مبادرة الحزام والطريق الصينية، وصادراتها من الطاقة إلى الصين تفوق إلى حد كبير تلك الموجهة إلى تايوان من حيث القيمة المطلقة. ومثل روسيا، ليس من غير المعقول أن تظل مثل هذه البلدان خارج المعسكر الموالي للغرب محايدةً أو ربما تتعاون مع الصين في التلاعب بإمدادات الطاقة في تايوان، سواء في شكل قانوني أو فعلي.
وفي حين أنه مثل هذه الأشكال من التلاعب الخفي أو الجزئي في الطاقة ليست مثيرةً مثل التدخل العسكري أو الحصار الشامل، إلا أنها يمكن أن يكون لها تأثير في تعزيز موقف الصين الاستراتيجي. حتى بدون مثل هذا التلاعب، تواجه صناعة أشباه الموصلات في تايوان مخاطر أخرى من منظور الطاقة، إذ من المتوقع أن تزيد شركة تايوان لأشباه الموصلات من استهلاكها للكهرباء بنسبة 267% بحلول عام 2030، وبالنظر إلى الدور الكبير الذي تلعبه الشركة في إجمالي استهلاك الطاقة في الجزيرة، فإن هذا سيتطلب المزيد من مصادر الطاقة المتنوعة.
ليست طموحات تايبيه لتوسيع تطوير الطاقة المتجددة ضمن أهدافها، في حين أن الحكومة الحالية تخطّط للتخلص التدريجي من الطاقة النووية، مما يجعل أمن الطاقة في تايوان في المستقبل عرضةً لخطرٍ أكبر.