في عام 2019، استقل عوديد، وهو إسرائيلي في أواخر الثلاثينيات من عمره كان يعيش "حياة مريحة" في كندا، طائرة مع عائلته ليستقر في إسرائيل، أو هكذا كان يتصور، لكن العائلة قررت أن تعود إلى هذا الأسبوع المقبل بعد أن غيرت خططها نتيجة الوضع السياسي في دولة الاحتلال الإسرائيلي. وقال عوديد، الذي لم يرغب في الإفصاح عن اسمه الأخير، لصحيفة The Times البريطانية: "عاصرنا ما اعتبرناه بعض الحكومات شديدة السوء في الماضي، لكننا لم نشعر بهذا أبداً، الوضع السياسي لم يخِفنا من قبل بقدر ما يفعل الآن".
وعوديد وعائلته من بين عشرات الآلاف من الإسرائيليين الذين إما سيهاجرون أو يفكرون في الهجرة في أعقاب تعديل قضائي شامل أجرته الحكومة الأكثر تطرفاً في تاريخ إسرائيل في تحدٍّ لثمانية أشهر من الاحتجاجات غير المسبوقة على مستوى البلاد، كما تقول الصحيفة البريطانية.
نحو 30% من الإسرائيليين يفكرون في مغادرتها
أشار استطلاع للرأي أجرته القناة 13 التلفزيونية الإسرائيلية هذا الأسبوع إلى أن أكثر من ربع الإسرائيليين (29%) يفكرون في مغادرة إسرائيل، وكثير منهم يمتلكون بالفعل جواز سفر أجنبياً.
ومدى جدية هذه النوايا لا تزال من الأمور غير الواضحة، لكن شركة Ocean Relocation التي تساعد الناس على الهجرة، قالت إنها تلقت منذ يناير/كانون الثاني من هذا العام نسبة غير مسبوقة من الاستفسارات عن مغادرة إسرائيل.
وقال شاي أوبازانيك، مدير مركز النقل الدولي في شركة Ocean Group: "بعد أن أقرت الحكومة قانونها الأسبوع الماضي، ارتفع حجم الاستفسارات بدرجة كبيرة مرة أخرى. أما العام الماضي، فكان معدل الاستفسارات التي تلقتها الشركة متساوياً بين الراغبين في الانتقال إلى إسرائيل والراغبين في الرحيل عنها، وهذا العام تتعلق حوالي 90% من الاستفسارات بالهجرة. والسبب الأساسي الذي أسمعه من الناس هو الخوف على حريتهم وحقوقهم وشكل الحياة الحالي في إسرائيل"، حسب تعبيره.
انخفاض أعداد المهاجرين إلى إسرائيل
ووفقاً للوكالة اليهودية لأجل إسرائيل، وهي منظمة غير ربحية تشجع الناس على الهجرة إلى الكيان الإسرائيلي، انخفضت الأعداد في الربع الأول من عام 2023 من جميع الدول تقريباً باستثناء روسيا مقارنة بالأشهر الثلاثة الأولى من عام 2022. ويعزى هذا الانخفاض إلى تكلفة المعيشة والمخاوف المحيطة بتعديلات القضاء الشاملة التي تخطط لها الحكومة، والتي أُعلن عنها للمرة الأولى في أوائل يناير/كانون الثاني عام 2023.
وكان مديرو شركات التكنولوجيا من أكثر الفئات اعتراضاً على التغييرات القضائية. وتوصل استطلاع أجرته هيئة الابتكار الإسرائيلية إلى أن 80% من الشركات الناشئة التي تأسست حتى الآن هذا العام اُفتتحت خارج إسرائيل. وتعتزم شركات كثيرة أيضاً تسجيل ملكيتها الفكرية مستقبلاً في الخارج، وهي خطوة قد تلحق ضرراً كبيراً بإيرادات الضرائب الإسرائيلية.
وكان الأطباء الإسرائيليون أيضاً من أشد المنتقدين للتعديلات المقترحة، إذ نظمت نقابة الأطباء الإسرائيلية، التي تمثل جميع أطباء البلاد تقريباً، إضراباً على مستوى البلاد استمر 24 ساعة في 25 يوليو/تموز، واقتصر العمل على الرعاية الطارئة والحرجة فقط.
ويقول الدكتور أورن زيمهوني، خبير الأمراض المعدية، إن هذا القرار يعرض مهنة الطب للخطر؛ "لأنه سيمنح وزير الصحة سلطة غير مقيدة لتعيين وإقالة أي شخص يريده، ويمنحه أيضاً حرية الحصول على أي بيانات طبية بدون أي قيود".
وانتشرت مجموعات "واتساب" للأطباء الراغبين في الرحيل. وقالت الدكتورة أوفري دون توفيلد، الطبيبة العامة في وسط إسرائيل، والعضوة في إحدى المجموعات: "في الوقت الحالي، تضم هذه المجموعات حوالي 3000 طبيب، أي من أصل 30 ألف طبيب ممارس مسجل في البلاد. توجد مجموعة لأطباء الأسنان ومجموعة لطلاب الطب ومجموعة لأطباء يحملون تراخيص أجنبية، لذا يفكر كثيرون في الرحيل". وتراود توفيلد مشاعر مختلطة حين تفكر في الرحيل، وقالت للتايمز: "المشاعر متقلبة، الناس لا ينامون ليلاً، وإسرائيل للتعرض لخسارة ما بنوه الأجداد"، على حد وصفها.
وأضافت: "بعد هذا التطور في الأمور الذي نشهده الآن، هذا البلد في طريقه لأن يصبح غير ديمقراطي وغير ليبرالي، ويحكمه أناس على استعداد للمخاطرة بكل حق أخلاقي لمجرد الوصول إلى السلطة. ومن الصعب البقاء في وضع كهذا".
"مجرد مبالغة وهستيريا"
من جهته، يأمل جوناثان روزنبلوم، الحاخام الأرثوذكسي من هار نوف بالقدس المحتلة، الذي يدعم التعديلات القضائية، أن تكون هذه التهديدات بمغادرة إسرائيل مجرد مبالغة. وتساءل ساخراً: "ما الذي تغير هنا؟ هل حظر أحدهم التكنولوجيا؟ هل حاول أحدهم فرض قوانين صارمة وأجبر الناس على الالتزام بها؟". وأضاف: "الحديث عن الرحيل الآن أصبح هستيريا، عدا أنه أسوأ من الهستيريا.. هذا الحديث شديد الخطورة على إسرائيل".
وقال إن من ضمن عواقبه تخفيض وكالة مودي الائتمانية لتوقعات إسرائيل في أبريل/نيسان، وتأكَّد هذا في تقريرها الأسبوع الماضي الذي حذرت فيه من "خطورة استمرار التوترات السياسية والاجتماعية بعد التعديلات القضائية، والعواقب السلبية لذلك على الاقتصاد الإسرائيلي والوضع الأمني". وأضاف: "من يسحبون أموالهم من صناعة التكنولوجيا العالية معضلة أخرى.. فهم ببساطة لا يتبعون قواعد اللعبة".
ويشعر آخرون على الجانب الآخر من الانقسام السياسي بالقلق من التهديد الذي يشكله فقدان الثقة في الاقتصاد.
يقول تال دغان، المدير العام السابق لشركة Vimeo Israel وأحد المتظاهرين: "فكرة الرحيل عن إسرائيل مخيفة.. فهذا استسلام ويضر بالبلد، وكلما ناقش أحدهم هذا معي، أحاول إقناعه بالبقاء هنا والقتال من أجل هذا البلد.. فإذا رحل خيرة المهندسين والمقاتلين والأطباء، فستكون لهذا أضرار جسيمة.. أتمنى من كل قلبي أن يبقى الناس ويقاتلون"، على حد تعبيره.