تعرّض قائد سابق في القوات الانفصالية المدعومة من روسيا بشرق أوكرانيا للاعتقال في موسكو، بعد أن برز كأحد أكبر منتقدي الرئيس فلاديمير بوتين. ويأتي الاعتقال بالتزامن مع تحركات الكرملين ضد خصومه المتشددين في أعقاب التمرد المسلح لمجموعة فاغنر، كما يقول تقرير لصحيفة The Times البريطانية.
إذ صرّح إيغور جيركين، ضابط جهاز الأمن الفيدرالي الروسي السابق، في الأسبوع الجاري، بأن بوتين يجب أن يتنحى قبل الانتخابات الرئاسية المقررة في مارس/آذار. وكتب جيركين: "لن تتحمل البلاد 6 سنوات أخرى في وجود هذا الجبان عديم الموهبة على رأس السلطة". بينما قالت زوجته ميروزلافا إن الشرطة اعتقلته من منزل العائلة، ووجهت إليه تهمة التطرف. ويواجه جيركين اليوم عقوبةً تصل إلى السجن لخمس سنوات.
الصراعات تتصاعد داخل نظام بوتين
تقول "ذي تايمز"، ربما اشترك جيركين وزعيم فاغنر، يفغيني بريغوجين، في انتقاد قادة الجيش بموسكو، لكن ضابط الأمن الفيدرالي السابق اتهم زعيم المرتزقة بالخيانة. بينما تعرّض جيركين للاعتقال بعد أن أدانه أحد مرتزقة فاغنر أمام الشرطة بسبب تعليقاته عن بوتين.
ويقول دميتري غودكوف، السياسي الليبرالي المنفي، إن "الصراعات تتصاعد، والتوترات بدأت تنمو في صفوف النظام".
ويأتي الاعتقال بالتزامن مع استعداد الحرس الوطني الروسي لتسلم دبابات وأسلحة ثقيلة أخرى للمرة الأولى، في مؤشرٍ واضح على القلق داخل الكرملين. وعادةً ما يُوصف الحرس الوطني، الذي يبلغ قوامه 300 ألف جندي، بأنه جيش بوتين الخاص. ويرأس الحرس الوطني فيكتور زولوتوف، أحد الحراس الشخصيين السابقين لبوتين وزميله في تدريبات الجودو. وقد تشكَّل الحرس الوطني عام 2016 بالتزامن مع استعداد الكرملين للاحتجاجات في أعقاب الانتخابات البرلمانية.
في ما تقول شخصيات معارضة إن الدور الرئيسي للحرس الوطني يتمثّل في ضمان السلامة الشخصية لبوتين في حالة اندلاع اضطرابات أو محاولة انقلاب. وينص القانون الجديد، الذي مرره البرلمان، على السماح لقوات الحرس الوطني باستخدام المدفعية بعيدة المدى والمركبات المدرعة، وذلك لمواجهة أي تهديد للنظام العام.
اعتقال جيركين بداية لحملة بوتين الشرسة ضد القوميين المتطرفين
يقضي السياسي المعارض، إيليا ياشين، عقوبةً بالسجن لثماني سنوات ونصف بتهمة الانتقاد العلني للحرب في أوكرانيا. وقد كتب في رسالةٍ إلى صحيفة The Times البريطانية من محبسه: "من الواضح أن بوتين يثق في زولوتوف ويرى فيه ملاكه الحارس. لكن بوتين وثق في بريغوجين ثقةً عمياء من قبل، وقدّم له الأموال والأسلحة الحكومية دون قيود".
ثم أردف ياشين: "إن نظام السلطة القائم على الثقة الشخصية للديكتاتور ودائرته الداخلية حصراً، هو نظام لا يُعتمد عليه بدرجةٍ كبيرة. ولا يعلم أحد كيف سيتصرف زولوتوف -الوفي المُسلح بالدبابات الآن- في المستقبل" حسب تعبيره.
بينما يُنظر إلى اعتقال جيركين باعتباره بدايةً لحملة الكرملين القمعية ضد القوميين المتطرفين، الذين سُمح لهم بانتقاد قادة الجيش -وحتى بوتين نفسه- دون التعرض للعقاب حتى الآن. إذ شهد يوم الثلاثاء، 18 يوليو/تموز، توجيه تهمة تشويه سمعة الجيش الروسي إلى العقيد السابق في المخابرات العسكرية الروسية، فلاديمير كفاشكوف. حيث اتهم كفاشكوف بوتين بإرسال رجال روسيا إلى حتفهم في أوكرانيا، واستبدالهم بمهاجرين مسلمين من آسيا الوسطى.
يُذكر أن كفاشكوف وجيركين هما من أعضاء تحالف للشخصيات القومية يُطلق عليه اسم "نادي الوطنيين الغاضبين"، ومن المعتقد أن هذا التحالف لديه حلفاء في أوساط قوات الأمن. بينما أمضى كفاشكوف 8 سنوات في السجن من قبل، بعد إدانته عام 2013 بتأسيس جماعة إرهابية والتخطيط لإسقاط الحكومة.
كما اعتقلت الشرطة بافيل غوباريف، رئيس "نادي الوطنيين الغاضبين"، لفترةٍ وجيزة، على خلفية احتجاجه مع القوميين الآخرين أمام المحكمة التي شهدت احتجاز جيركين تمهيداً لمحاكمته.
"بوتين يقود عملية تطهير ضد القادة العسكريين المشكوك في ولائهم"
وفي كييف، رحّب المتحدث باسم المخابرات العسكرية الأوكرانية، أندري يوسوف، بخبر اعتقال جيركين. واعتبر يوسوف الخبر بمثابة مؤشر إضافي على الاضطرابات داخل النظام السياسي الروسي، الذي وصفه بأنه عبارة عن "جرةٍ من العناكب".
ومن المعتقد أن الكرملين يُنفذ حالياً عملية تطهير ضد القادة العسكريين المشكوك في ولائهم لبوتين. إذ إن المسؤول العسكري البارز الجنرال سيرغي سوروفيكين، أحد أكبر حلفاء بريغوجين في القوات المسلحة، لم يظهر علناً منذ ليلة الـ23 من يونيو/حزيران، التي شهدت إطلاق تمرد فاغنر.
يحمل سوروفيكين لقب الجنرال أرمجدون بسبب استخدامه لتكتيكات القصف الجماعي في سوريا. وقد قال المسؤولون الدفاعيون الذين تحدثت إليهم صحيفة Moscow Times الروسية المستقلة إنه تعرض للاعتقال في غضون ساعات من تمرد فاغنر. كما نقلت Wall Street Journal الأمريكية أنه كان من بين أكثر من 10 مسؤولين عسكريين بارزين روس يخضعون للاستجواب، بينما تقرّر فصل 15 آخرين أو إيقافهم عن العمل.
وصرّح المذيع ميخائيل فيشمان، من قناة Dozhd الروسية المعارضة التي حظرها الكرملين، نقلاً عن مصادره: "من المؤكد أن هناك عملية تطهير جارية داخل الجيش بعد تمرد فاغنر. ولم يتقرر ما سيحدث مع سوروفيكين بعد نتيجة الاقتتال الداخلي بين وكالات الحكومة بسببه، ولأن بوتين لم يعطِ الضوء الأخضر [حول كيفية المضي قدماً] بعد".
وتضم قائمة المسؤولين العسكريين الآخرين المشتبه في احتجازهم كلاً من نائب رئيس المخابرات العسكرية فلاديمير ألكسييف، ونائب وزير الدفاع السابق العقيد العام ميخائيل ميزينتسيف. وتشير الاعتقادات إلى أن ميزينتسيف، الذي أشرف على قصف مدينة ماريوبول الأوكرانية، قد انضم إلى فاغنر كنائب للقائد في مايو/أيار.
في ما شغل عباس غالياموف منصب كاتب الخطابات في الكرملين سابقاً، ويعمل محللاً سياسياً في الوقت الحالي. ويرى غالياموف أن تردد بوتين بشأن سوروفيكين يرجع على الأرجح إلى عدم ثقته في أفضل طريقةٍ للتعامل مع تداعيات تمرد فاغنر. حيث أوضح قائلاً: "عندما لا يتعرض أحد للعقاب، يصبح الوضع أشبه بدعوة مفتوحةٍ أمام جميع الجماعات الساخطة الأخرى. وعلى الجانب المقابل، قد يؤدي عقاب الكثير من الأشخاص إلى زعزعة استقرار النظام، مما قد يحفز للمزيد من الثورات".
غضب يغلي داخل الجيش الروسي
وظهرت بعض علامات الغضب في أوساط الجيش الأسبوع الماضي، عندما قال جنرال روسي كبير إنه تعرَّض للفصل من الخدمة، لأنه روى الحقيقة بشأن الوضع على الجبهة؛ حيث اتهم العقيد العام إيفان بوبوف القيادات العسكرية الروسية بخيانة الجنود، وقال: "لقد تلقينا طعنةً في الظهر من قائدنا الأعلى".
واقترح غالياموف أن تمرد فاغنر قد عزز شعور نخب السياسة ورجال الأعمال بأن بوتين لا يجب أن يترشح لإعادة انتخابه العام المقبل.
وأردف: "ليس بوتين أهلاً لذلك. من الواضح أنه صار يمثل عبئاً وليس إضافةً في هذا الصدد. وقد كانوا يفكرون في هذا الأمر حتى قبل تمرد فاغنر، لكنهم صاروا يدركون أنه ضروري للغاية اليوم".
هل يثأر بوتين من بريغوجين؟
ولم يُعلن بوتين حتى الآن عن نيته الترشح لست سنوات أخرى في المنصب، وذلك خلال الانتخابات المقرر أن تنعقد في مارس/آذار. بينما حصل بريغوجين مع مرتزقة فاغنر على ممرٍ آمن مضمون إلى بيلاروسيا، بموجب اتفاقية لوقف التمرد في اللحظات الأخيرة، وقد أنشأ لهم معسكراً قرب العاصمة مينسك خلال الأسبوع الجاري.
لكن رئيس وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية، ويليام بارنز، قال إن بوتين يحاول كسب الوقت على الأرجح، قبل أن يحصل على انتقامه من زعيم فاغنر بكل بساطة. وأردف، خلال حديثه إلى منتدى أمني في الولايات المتحدة: "نحن نشهد الآن رقصةً شديدة التعقيد. بوتين هو التجسيد المطلق لفكرة الثأر. وإذا كنتُ في مكان بريغوجين، فلن أفصل المسؤولين عن تذوق طعامي اليوم".
بينما حاول مسؤولو الحكومة الروسية التقليل من أهمية تحدي بريغوجين لموسكو، على الرغم من التداعيات التي تبعته.
ومع ذلك، من الواضح أن فكرة الثورة تسيطر على عقل بوتين. إذ قال في يوم الجمعة، 21 يوليو/تموز 2023، إنه قلق بشأن اسم حدث سياحي في جنوب روسيا يُدعى مايوفكا (Mayovka). يُذكر أن مصطلح مايوفكا كان مستخدماً في الماضي لوصف احتفالات ومسيرات الثوار المعارضين لآخر قياصرة روسيا خلال الربيع. وأردف بوتين قائلاً: "أتمنى ألا يؤدي الحدث إلى ثورة. إذ إن بلادنا استنفدت رصيدها من الثورات في القرن الماضي بالفعل".