يتمثل المستقبل السياسي، الذي يقلق بشأنه الخبراء الرقميون، في عصر الذكاء الاصطناعي، في أن يكون المحتوى المتلاعب "رخيصاً جداً" ومن السهل إنتاجه على نطاق واسع، بحيث يصبح في كل مكان. على سبيل المثال، في الفترة التي سبقت الانتخابات الرئاسية الأمريكية لعام 2016، كانت منصات وسائل التواصل الاجتماعي وسيلة للتضليل؛ حيث عمل النشطاء اليمينيون المتطرفون وحملات التأثير الأجنبي والمواقع الإخبارية المزيفة، على نشر معلومات كاذبة وزيادة حدة الانقسامات.
كيف يمكن للذكاء الاصطناعي تقويض الديمقراطية بالانتخابات الأمريكية 2024؟
بعد 4 سنوات، اجتاحت انتخابات 2020 نظرياتُ مؤامرة، وادعاءاتٌ لا أساس لها حول تزوير الأصوات، تلك النظريات والادعاءات التي وصلت إلى الملايين من الناس، مما أدى إلى تأجيج حركة مناهضة للديمقراطية تسعى إلى إلغاء الانتخابات.
والآن، مع اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية لعام 2024، يحذّر الخبراء من أن التقدم في مجال الذكاء الاصطناعي قد يأخذ تكتيكات التضليل من الماضي، ويبعث فيها الحياة، كما يقول تقرير لصحيفة The Guardian البريطانية.
ما خطورة التضليل الذي يولّده الذكاء الاصطناعي؟
يقول الخبراء إن المعلومات المضللة الناتجة عن الذكاء الاصطناعي لا تهدد فقط بخداع الجماهير، بل تقوّض أيضاً نظاماً كاملاً للمعلومات، مُحاصَراً بالفعل من خلال إغراقه بالخداع والمعلومات غير الدقيقة.
ازداد هذا العام استخدام أدوات الذكاء الاصطناعي التي يمكنها إنشاء صور واقعية وتقليد الأصوات وكتابة نص بشري مقنع بشدة، حيث أطلقت شركات مثل أوبن إيه آي منتجاتها في السوق الجماهيرية. وتُوظَّف التكنولوجيا التي هددت بالفعل بقلب العديد من الصناعات ومفاقمة اللامساواة القائمة بالفعل، على نحوٍ متزايد، لإنشاء محتوى سياسي.
في الأشهر الماضية، تسببت صورة أُنشِئت باستخدام الذكاء الاصطناعي لانفجارٍ في مبنى البنتاغون في انخفاضٍ قصيرٍ في سوق الأسهم. وأصبحت المحاكاة الصوتية للذكاء الاصطناعي لرؤساء الولايات المتحدة وهم يلعبون ألعاب الفيديو رائجةً على نطاقٍ واسع.
وشورِكَت الصور التي أُنشِئت بواسطة الذكاء الاصطناعي، والتي يبدو فيها دونالد ترامب وهو يصارع ضباط الشرطة الذين يحاولون اعتقاله، على نطاقٍ واسع على منصات التواصل الاجتماعي. وأصدرت اللجنة الوطنية للحزب الجمهوري إعلاناً أُنشِئ بالكامل بواسطة الذكاء الاصطناعي، والذي أظهر صوراً لكوارث مُتخيَّلة مختلفة ستحدث إذا أُعيدَ انتخاب بايدن، بينما حذّرت الجمعية الأمريكية للمستشارين السياسيين من أن مقاطع الفيديو المزيفة تمثل "تهديداً للديمقراطية".
تقول الغارديان، من بعض النواحي، لا تختلف هذه الصور والإعلانات كثيراً عن الصور ومقاطع الفيديو التي يجري التلاعب بها، وكذلك الرسائل المضللة والمكالمات الآلية التي كانت سمة من سمات المجتمع لسنوات. لكن حملات التضليل الإعلامي واجهت سابقاً مجموعة من العقبات اللوجستية، إذ كان إنشاء رسائل فردية لوسائل التواصل الاجتماعي يستغرق وقتاً طويلاً بشكل لا يصدق، كما كان الحال مع تحويل الصور بواسطة فوتوشوب وتحرير مقاطع الفيديو.
أما الآن، فقد جعل الذكاء الاصطناعي التوليدي إنشاء مثل هذا المحتوى في متناول أي شخص لديه حتى المهارات الرقمية الأساسية، في ظل حواجز حماية محدودة أو لوائح فعالة للحد منه. ويحذّر الخبراء من أن التأثير المحتمل هو شكل من أشكال المقرطة والدعاية السريعة، في وقتٍ تخوض فيه عدة دول سنوات من الانتخابات الكبرى.
الذكاء الاصطناعي يرفع مستوى الأضرار المحتمَلة
يمكن قراءة الأضرار المحتمَلة للذكاء الاصطناعي على الانتخابات باعتبارها أكبر نتائج المخاوف من العقود الماضية من التدخل في الانتخابات. أصبح من الأسهل إنتاج روبوتات وسائل التواصل الاجتماعي تتظاهر بأنها ناخبون حقيقيون، أو مقاطع فيديو أو صور مُتلاعَب بها، وحتى مكالمات آلية مخادعة، ويصعب اكتشاف أيٍّ من ذلك بفضل أدوات الذكاء الاصطناعي.
هناك أيضاً فرص جديدة للدول الأجنبية لمحاولة التأثير على الانتخابات الأمريكية أو تقويض نزاهتها، مثلما حذّر مسؤولون فيدراليون منذ فترة طويلة من أن روسيا والصين تعمل على تحقيق ذلك. تتلاشى الحواجز اللغوية التي تحول دون إنشاء محتوى مخادع، وتُستبدَل الإشارات المخادعة للمحتالين أو حملات التضليل باستخدام صياغة متكررة أو اختيارات كلمات غريبة بنصوص أكثر قابلية للتصديق.
قد تكثف تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي أيضاً حملات قمع الناخبين لاستهداف المجتمعات المهمشة. اعترف ناشطان يمينيان متطرفان العام الماضي بإجراء أكثر من 67 ألف مكالمة آلية تستهدف الناخبين السود في الغرب الأوسط بمعلومات مضللة عن الانتخابات، ويشير الخبراء إلى أنه يمكن استخدام الذكاء الاصطناعي افتراضياً لتكرار مثل هذه الحملة على نطاق أكبر بمعلومات أكثر تخصيصاً. ويمكن للأصوات التي تحاكي القادة المُنتخبين أو الشخصيات الموثوقة أن تخبر مجموعات مختارة من الناخبين بمعلومات مضللة حول الاقتراع والتصويت، أو أن تسبب ارتباكاً عاماً.
يمكن أن يؤدي إنشاء حملات كتابة رسائل أو مشاركة زائفة أيضاً إلى خلق نوع من الدوائر الانتخابية الزائفة، مما يجعل من غير الواضح كيف يستجيب الناخبون فعلياً للقضايا. كجزءٍ من تجربةٍ بحثية نُشِرَت في وقتٍ سابق من هذا العام، أرسل بعض أساتذة جامعة كورنيل، سارة كريبس ودوغ كرينر عشرات الآلاف من رسائل البريد الإلكتروني إلى أكثر من 7 آلاف مشرِّع في البلاد. زُعِمَ أن رسائل البريد الإلكتروني واردة من ناخبين مهتمين، لكنها كانت مقسَّمة بين رسائل أُنشِئت بواسطة الذكاء الاصطناعي وأخرى كتبها إنسان بالفعل. كانت الردود متطابقة تقريباً، مع تلقي رسائل البريد الإلكتروني المكتوبة بشرياً ردوداً أعلى بنسبة 2% من الردود التي تلقتها الرسائل المُنشأة بواسطة الذكاء الاصطناعي.
الحملات تختبر المناخ السياسي
بدأت الحملات بالفعل في الانخراط في استخدام المحتوى الذي يُنشَأ بواسطة الذكاء الاصطناعي لأغراض سياسية. بعد أن أعلن حاكم فلوريدا، رون ديسانتيس، ترشحه خلال بث مباشر على تويتر في مايو/أيار، هزأ دونالد ترامب من خصمه بفيديو ساخر للإعلان الذي أظهر الأصوات التي أُنشِئت بواسطة الذكاء الاصطناعي لكل من ديسانتيس وإيلون ماسك وأدولف هتلر. وفي الشهر الماضي، شاركت حملة ديسانتيس صوراً أُنشِئت بواسطة الذكاء الاصطناعي لترامب وهو يحتضن ويقبل أنتوني فاوتشي، كبير المستشارين الطبيين لرئيس الولايات المتحدة سابقاً.
خلال انتخابات عامي 2016 و2020، اعتمدت حملة ترامب بشدة على الميمات ومقاطع الفيديو التي صنعها مؤيدوه -بما في ذلك مقاطع الفيديو التي عُدِّلَت بشكل مخادع، لتجعل الأمر يبدو كما لو أن بايدن كان يقول إنه لا ينبغي أن يكون رئيساً. وحذّر مراقبو الانتخابات من أن نسخة الذكاء الاصطناعي من تلك الاستراتيجية أصبحت منتشرة.
ومع تبقي حوالي 16 شهراً حتى الانتخابات الرئاسية واستخدام الذكاء الاصطناعي التوليدي على نحوٍ واسع النطاق هكذا، لا يزال السؤال مفتوحاً حول الدور الذي سيلعبه الذكاء الاصطناعي في التصويت. يقول الباحثون إن إنشاء محتوى مضلل بواسطة الذكاء الاصطناعي وحده لا يعني أنه سيكون له تأثير على الانتخابات، وإن قياس تأثير حملات المعلومات المضللة مهمة صعبة للغاية. إن مراقبة تفاعل المواد المزيفة شيء، لكن قياس الآثار الثانوية لتشويه نظام المعلومات هو شيءٌ آخر تماماً إلى الحد الذي يجعل الناس عموماً لا يثقون بأي معلومات يتلقونها عبر الإنترنت.
لكن هناك علامات مقلقة. مثلما يتزايد استخدام الذكاء الاصطناعي التوليدي، بدأت العديد من منصات وسائل التواصل الاجتماعي، التي تعتمد عليها الأطراف السيئة في نشر معلومات مضللة، في التراجع عن بعض إجراءات تعديل المحتوى، إذ سمحت منصة يوتيوب سياسة النزاهة الانتخابية، وسمحت إنستغرام لروبرت كينيدي، المناصر لنظريات المؤامرة والمناهض للقاحات، بالعودة إلى المنصة، وغادر رئيس إدارة المحتوى في تويتر الشركة في يونيو/حزيران في ظل انخفاضٍ عام في معايير إيلون ماسك.
يقول الباحثون إنه يبقى أن نرى إلى أي مدى سيؤثر محو الأمية الإعلامية والوسائل التقليدية لتقصي الحقائق في صد سيلٍ من النصوص والصور المضللة، حيث يمثل النطاق المحتمل للمحتوى الذي يُنشَأ بواسطة الذكاء الاصطناعي تحدياً جديداً.