تشير استطلاعات رأي إلى تحول واضح في موقف الأمريكيين من إسرائيل، وبخاصة الشباب، فلماذا أصبح الكثير منهم أكثر تعاطفاً مع الفلسطينيين؟
كان استطلاع رأي أجرته مؤسسة غالوب Gallup في مارس/آذار 2023 قد أظهر أن غالبية الناخبين الأمريكيين من الحزب الديمقراطي قد تحولوا عن دعم إسرائيل وأصبحوا أكثر ميلاً وتعاطفاً مع الفلسطينيين، وذلك للمرة الأولى على الإطلاق.
استطلاع رأي آخر كان المعهد الانتخابي اليهودي في أمريكا قد أجراه في يوليو/تموز 2021، أظهرت نتائجه أن 35% من الناخبين الأمريكيين اليهود يعتقدون أن إسرائيل قد أصبحت "دولة عنصرية" تطبق بحق الفلسطينيين نظام الفصل العنصري الذي كانت حكومة جنوب إفريقيا البيضاء تطبقه بحق المواطنين السود.
هل نتنياهو وحكومته السبب الوحيد؟
يرجع كثير من الكتاب والمحللين الأمريكيين التحول الواضح في الرأي العام الأمريكي تجاه إسرائيل، التي تعتبر الحليف الاستراتيجي الأول لواشنطن في الشرق الأوسط، وكانت تحظى بدعم لا يتزعزع من الحزبين الجمهوري والديمقراطي، إلى بنيامين نتنياهو، السياسي اليميني المتطرف، والشخص الذي شغل منصب رئيس الوزراء في تل أبيب لفترة زمنية أطول من أي سياسي آخر.
إذ إن علاقة نتنياهو مع آخر رئيسين ديمقراطيين، باراك أوباما وجو بايدن، كانت ولا تزال متوترة للغاية، لدرجة أن بايدن لم يستقبل نتنياهو بعد في البيت الأبيض، رغم عودة الأخير إلى رئاسة الحكومة الحالية في إسرائيل منذ نهاية العام الماضي 2022، وهذا في حد ذاته يمثل سابقة لم تحدث من قبل في تاريخ البلدين الحليفين على الإطلاق، منذ نشأة الدولة العبرية في فلسطين عام 1948.
فقد جرى العرف على أن يكون رئيس وزراء إسرائيل هو أول من يتلقى اتصالاً هاتفياً من ساكن البيت الأبيض بمجرد تنصيب الأخير ويتفقان خلاله على زيارة يقوم بها الأول إلى واشنطن، كرمز على الدعم المطلق الذي توفره الولايات المتحدة إلى إسرائيل. ومن هذا المنطلق، يركز غالبية المراقبين والكتاب والمحللين في الإعلام الأمريكي على طبيعة العلاقة المتوترة والحب المفقود بين نتنياهو وبايدن، ويجعلون منها السبب الرئيسي وراء تراجع نسب التأييد الأمريكي عموماً للحليفة الصغرى.
لكن مقالاً نشرته مجلة Foreign Policy الأمريكية رصد أسباباً متنوعة لهذا التحول في نظرة كثير من الأمريكيين إلى طرفي الصراع الأبرز في الشرق الأوسط بين الاحتلال الإسرائيلي والفلسطينيين، فنتنياهو وتماهيه مع اليمين المتطرف في أمريكا، والعلاقة "الخاصة جداً" بين رئيس وزراء إسرائيل والرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب لعبت دوراً في هذا التحول في الرأي العام الأمريكي، لكن ذلك ليس السبب الوحيد.
كان استطلاع غالوب قد أجري في فبراير/شباط الماضي، ولم تكن حكومة نتنياهو الحالية، التي توصف بأنها أكثر الحكومات تطرفاً في تاريخ الدولة العبرية، قد قضت أكثر من شهرين في السلطة، ما يعني أن التغير اللافت في مواقف غالبية الشباب الأمريكي لا يمكن إرجاعه فقط إلى تلك الحكومة.
كما أن الاستطلاع الذي أجراه المعهد الانتخابي اليهودي في أمريكا تم في يوليو/تموز 2021، ووقتها لم يكن نتنياهو رئيساً للحكومة، بل كانت الحكومة الإسرائيلية تحالفاً من أحزاب يسارية وضمت أيضاً أحزاباً عربية للمرة الأولى، وكان يقودها نفتالي بينيت ثم يائير لابيد، وكان الساسة الأمريكيون يصفونها بأنها "حكومة المصالحة".
سياسات إسرائيل ودورها في تغيير الصورة
ربما يكون أحد أسباب التحول في موقف الشباب الأمريكي، الذي يصبح أكثر قرباً إلى الفلسطينيين منه إلى إسرائيل، مرتبط -في جزء ليس يسيراً منه- بالتحول الإسرائيلي نحو اليمين بصورة شرسة ومتسارعة. فالأحزاب الدينية المتشددة والأحزاب المدافعة عن المستوطنين غير الشرعيين في الأراضي الفلسطينية المحتلة وسياسيين مدانين بالإرهاب من جانب محاكم إسرائيلية، مثل إيتمار بن غفير وزير الأمن الداخلي في حكومة نتنياهو الحالية، قد أصبحوا هم المتحكم في إسرائيل وسياساتها بشكل لافت، ولا يألون جهداً في القضاء على أي أمل في إقامة دولة فلسطينية في يوم من الأيام.
لم تعد إسرائيل واحة الديمقراطية في الشرق الأوسط كما كان يتم تصويرها من جانب السياسيين الأمريكيين من الحزبيين والسياسيين الغربيين بشكل عام، واتضح ذلك جلياً فيما تشهده حالياً من انقسام داخلي أوشك على التحول إلى حرب أهلية، بحسب تحذيرات كثير من الكتاب والسياسيين الإسرائيليين أنفسهم، بسبب قانون الإصلاحات القضائية الذي يريد نتنياهو وحلفاؤه تمريره في البرلمان (الكنيست)، والذي تصفه المعارضة بأنه "انقلاب قضائي".
هذه التحولات التي تشهدها إسرائيل تتزامن مع دعم غير مسبوق قدمه دونالد ترامب للدولة العبرية، فاتخذ قراره بنقل سفارة واشنطن من تل أبيب إلى القدس المحتلة، ثم أطلق مسيرة التطبيع مع إسرائيل، أو "اتفاقيات أبراهام" كما أطلق عليها، لتجد إسرائيل نفسها أكثر اندماجاً في المنطقة من أي وقت مضى، بينما يصبح الفلسطينيون أبعد من أي وقت مضى عن إقامة دولتهم المستقلة وعاصمتها القدس الشرقية، بعد أن ضمت إسرائيل أغلب أراضي الضفة الغربية المحتلة عملياً.
وهذا التناقض الصارخ بين الطرفين كان له تأثير واضح على موقف كثير من الأمريكيين، وهو ما تعكسه استطلاعات الرأي المتعددة. فقد أظهرت النتائج التفصيلية لاستطلاع غالوب في مارس/آذار الماضي، ومن قبله استطلاعات أخرى أجرتها جهات متعددة منذ مايو/أيار 2021، أن الاستقطاب الحاد بين الحزبين الجمهوري والديمقراطي، والذي يؤثر في الموقف من إسرائيل والفلسطينيين بطبيعة الحال (الجمهوريون أكثر تأييداً لإسرائيل عكس الديمقراطيين)، لكن الانقسام أيضاً له أبعاد أخرى تتعلق بالعمر.
فالأطفال والمراهقون أقرب إلى إسرائيل، بينما جيل الألفية الجديدة (الشباب) باتوا أقرب إلى الفلسطينيين، فـ42% منهم يتعاطفون مع الفلسطينيين، بينما 40% فقط أقرب إلى إسرائيل.
وحتى بين المسيحيين المتشددين (قاعدة ترامب الانتخابية)، تظهر استطلاعات الرأي انخفاضاً ملحوظاً في دعم إسرائيل. فعلى مدى 3 سنوات فقط، من 2018 حتى 2021، تراجع الدعم لإسرائيل بين شباب تلك الفئة من 69% إلى 33%. وشباب المسيحيين المتشددين أكثر تنوعاً من حيث العرق وأكثر وعياً بشأن قضايا كبرى مثل تغير المناخ والهجرة، وهم في هذا لا يتفقون مع آراء كبارهم، وبالتالي فإن الموقف من إسرائيل لا يمثل استثناءً عن هذه القاعدة.
هناك أيضاً عوامل أخرى ساهمت في هذا التحول المستمر في الرأي العام الأمريكي، منها اغتيال إسرائيل للصحفية الفلسطينية التي تحمل الجنسية الأمريكية، شيرين أبو عاقلة، والتي اغتيلت برصاص جنود إسرائيليين وهي تؤدي عملها كمراسلة لقناة الجزيرة القطرية، أثناء اقتحام جيش الاحتلال لمدينة جنين في الضفة الغربية في مايو/أيار 2022.
كانت شيرين أبو عاقلة قد تعرضت للاغتيال برصاصة أطلقها قناص إسرائيلي أصابتها في الوجه مباشرة، وعلى الفور انطلقت الدعاية الإسرائيلية لمحاولة طمس معالم الجريمة، من خلال الزعم بأن رصاصة "فلسطينية" قتلت شيرين، لكن في نهاية المطاف سقطت جميع أوراق التوت التي سعت دولة الاحتلال إلى الاختباء خلفها، وحُدد من أطلق الرصاصة القاتلة، واعترفت إسرائيل بالجريمة، لكنها قررت لاحقاً عدم معاقبة من ارتكبها.
ما أحدثه اغتيال أبو عاقلة ثم الاعتداء على نعشها، وقضية طرد أهالي حي الشيخ جراح الفلسطينيين من بيوتهم، ومن قبل ذلك حرب غزة عام 2021، كانت كلها أحداثاً وجدت صدىً عالمياً وأثارت غضباً دولياً على منصات التواصل الاجتماعي، وكان لذلك كله أثر واضح على ما يبدو في تغيير المواقف هناك بين الأمريكيين، وبخاصة الشباب منهم.
هل ينعكس ذلك على سياسات واشنطن؟
"أمريكا عبارة عن شيء يمكن تحريكه بسهولة، دعونا نحركه في الاتجاه الصحيح!". هذه العبارة جاءت على لسان نتنياهو مخاطباً مجموعة من المستوطنين في مستوطنة "عفرة" في الضفة الغربية المحتلة. كان ذلك عام 2001، وكان نتنياهو وقتها مواطناً إسرائيلياً، ولم يكن مقصوداً أن تذاع كلماته أو تنشر، لكن هذا ما حدث.
وتشير استطلاعات الرأي وبعض مقاعد الكونغرس الأمريكي نفسه والأصوات المتصاعدة في أروقة واشنطن السياسية إلى أن نتنياهو كان على حق، وإن كان ما يحدث ليس بالقطع ما كان يقصده أو يريده.
فالسنوات القليلة الماضية تشير إلى أن الدعم الأمريكي الثابت لإسرائيل قد بدأ يهتز ولو قليلاً، بينما ترتفع بسرعة وتيرة التعاطف مع الفلسطينيين بين الأمريكيين، وبخاصة الشباب منهم.
فالنمو المطرد في الجناح التقدمي في الحزب الديمقراطي أحد أبرز مؤشرات وصول التحول في الموقف من إسرائيل إلى أروقة السياسة؛ إذ إن "تجمُّع الديمقراطيين التقدميين في الكونغرس" هو الاسم الرسمي لهذا التيار داخل أروقة كابيتول هيل (مقر الكونغرس)، وتم الإعلان عنه رسمياً عام 1991، وكان بيرني ساندرز رئيساً للتجمع الجديد وقتها، ومن بين أبرز الأعضاء المؤسسين نانسي بيلوسي (رئيسة مجلس النواب السابقة)، وكان عدد أعضاء التيار نحو 20 نائباً، جميعهم من الديمقراطيين.
أما سبب هذا التجمع أو التيار التقدمي فقد كان اقتصادياً بالأساس، فالمنتمون للتيار يميلون إلى السياسات الأقرب للاشتراكية من فرض ضرائب مرتفعة على الأغنياء وأصحاب الأعمال إلى رفع الحد الأدنى للأجور، وتوفير مظلة رعاية اجتماعية (صحة وتعليم وإعانات بطالة وغيرها)، قادرة على توفير مستوى جيد من الحياة الكريمة للطبقة العاملة.
لكن هذا الجناح التقدمي قد شهد نمواً كبيراً في عدد أعضائه على مدى العقود الثلاثة الماضية، وبصفة خاصة في انتخابات الكونغرس (مجلس النواب ومجلس الشيوخ) عام 2018، حيث انضم للتيار أو التجمع 18 عضواً جديداً، ليصل عدد أعضائه وقتها إلى 97، (96 عضواً في مجلس النواب، بالإضافة إلى سيناتور واحد وهو بيرني ساندرز). وحالياً يبلغ أعضاء هذا التيار التقدمي 91 فقط، بعد أن فقد 6 أعضاء في مجلس النواب.
مؤسس التيار ورمزه بيرني ساندرز بالطبع هو العضو الوحيد في مجلس الشيوخ، أما من أعضاء مجلس النواب فهناك رشيدة طليب (من أصل فلسطيني)، وإلهان عمر (من أصل صومالي)، وأليكساندريا أوكاسيو كورتيز وآيانا بريزلي، وهؤلاء الأربعة تحديداً مثّل انتخابهن عام 2018 تحولاً لافتاً بين الناخبين الأمريكيين.
الخلاصة هنا هي أن هناك تغييراً بالفعل في الموقف الأمريكي تجاه إسرائيل، وكان ذلك واضحاً خلال حرب غزة عام 2021، حيث ظهرت أدلة على وجود تغير نسبي في الموقف الأمريكي من العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، منها موقف بعض أعضاء الكونغرس من المساعدات العسكرية الأمريكية لإسرائيل. لكن المؤكد أن المشوار لا يزال طويلاً أمام وجود "تغيير" جذري في علاقة أمريكا بإسرائيل.