يضرب رئيس الوزراء الإسرائيلي بالاحتجاجات الواسعة والانتقادات الأمريكية غير المسبوقة عرض الحائط، مصراً على المُضي قدماً في التعديلات القضائية بإسرائيل، ومهدداً بالإضرار بالعلاقات مع واشنطن، والتسبب في انقسام داخلي قد يصل لحد حرب أهلية، فلماذا تمثل هذه التعديلات كل هذه الأهمية لنتنياهو وحلفائه؟ ولماذا يرون في المحكمة العليا خصمهم الأبرز؟
اندلعت احتجاجات كبرى في جميع أنحاء إسرائيل، الثلاثاء الماضي، بعد أن مضت حكومة رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو اليمينية المتطرفة في خطتها للتعديلات القضائية المثيرة، حيث تمت الموافقة على التغييرات الأساسية المقترحة في قراءة أولى من قِبل البرلمان الإسرائيلي ليلة الإثنين.
يوم الثلاثاء، تم القبض على ما لا يقل عن 71 شخصاً في جميع أنحاء البلاد؛ حيث أغلق عشرات الآلاف من المتظاهرين الطرق السريعة وتجمعوا في المطار.
وبدأ نتنياهو وحلفاؤه المتطرفون في طرح مشروع قانون في الكنيست يمنع القضاء الإسرائيلي من استخدام عقيدة المعقولية الراسخة في القانون الإسرائيلي، التي تمنح المحكمة العليا الحق في مراجعة وعكس القرارات التي تعتبر متهورة أو غير أخلاقية من قِبل الحكومة الإسرائيلية ومجلس الوزراء ووزراء الحكومة وبعض المسؤولين المنتخبين الآخرين.
حصل مشروع قانون الإصلاح القضائي، يوم الإثنين، على أولى القراءات الثلاث التي يحتاج إلى تمريرها، والتي تقول حكومة نتنياهو إنها تريد إجراءها بحلول موعد عطلة الكنيست في الصيف في 31 يوليو/تموز 2023.
وصل الأمر إلى تنظيم جنود إسرائيليين قدامى مظاهرة في مطار بن غوريون الإسرائيلي، بينما تمت الدعوة إلى احتجاجات أخرى خارج وزارة الدفاع الإسرائيلية ومقر إقامة الرئيس والسفارة الأمريكية، حسبما ورد في تقرير لشبكة CBS News الأمريكية، فيما هدد جنود احتياط (بينهم طيارون) الذين يمثلون أهمية كبيرة لجيش الاحتلال بالامتناع عن الاستجابة للاستدعاء للخدمة.
ما هي حجج حكومة نتنياهو لتنفيذ التعديلات القضائية بإسرائيل؟
اتهمت حكومة نتنياهو الائتلافية اليمينية المتطرفة المحكمة العليا الإسرائيلية بالتدخل السياسي. في وقت سابق من هذا العام، أعلنت الحكومة عن خطة للحد من سلطة المحكمة، ما أثار احتجاجات كبيرة في جميع أنحاء البلاد. ومن شأن مشروع القانون الذي أقر بقراءته الأولى يوم الإثنين الماضي أن يلغي سلطة المحكمة في مراجعة ونقض القرارات التي يتخذها وزراء الحكومة.
تزعم حكومة نتنياهو أن المحكمة العليا ليبرالية للغاية وتعيق السياسات التي يروِّج لها السياسيون القوميون المتطرفون والمتشددون، حسبما ورد في تقرير لموقع NPR.
تريد الحكومة تمرير قوانين تعطي الأولوية للدين والقومية، ولكن بالطريقة التي تسير بها الأمور الآن، من المرجح أن تقول المحاكم إن مثل هذه القوانين تنتهك الحقوق الأساسية.
كما تريد الحكومة أن تمنح نفسها يداً أكثر مباشرة في اختيار قضاة البلاد -وهي عملية تتم حالياً من خلال لجنة اختيار قضائية. بموجب التغييرات المقترحة، ستحصل الحكومة على حق التصويت الحاسم على بعض القضاة المعينين في المحكمة العليا. في الوقت الحالي، تتمتع السلطة السياسية بأصوات الأقلية في لجنة الاختيار.
في المقابل، يقول منتقدو التعديلات القضائية بإسرائيل إن الحكومة تقوض السلطة القضائية المستقلة في البلاد ونظامها الديمقراطي القائم على الضوابط والتوازنات.
تدفقت الحشود على الطرق السريعة الرئيسية في جميع أنحاء إسرائيل يوم الثلاثاء، وألقى بعض المتظاهرين قنابل إنارة وألقى آخرون بأنفسهم على الأرض أو أحرقوا إطارات لعرقلة حركة المرور. أفادت "بي بي سي نيوز" بأن الشرطة استخدمت خراطيم المياه ضد بعض المتظاهرين بالقرب من القدس.
اجتذبت خطة إعادة تشكيل القضاء بشكل كبير الآلاف والآلاف من المتظاهرين، العديد منهم من الطبقة المتوسطة الليبرالية وإسرائيليين من التيار الرئيسي في المجتمع الذين لا يشاركون عادة في مظاهرات الشوارع.
لماذا يعطي المعارضون هذه الأهمية لمسألة استقلال القضاء؟
تلعب المحاكم دورًا رئيسياً في تقرير الحياة السياسية والاجتماعية لإسرائيل؛ لأن الدولة العبرية ليس لديها دستور مكتوب ولم تضع أبدًا ميثاق حقوق يضمن الحقوق والحريات الأساسية. بدلاً من ذلك، تعمل الدولة وفقًا لمجموعة من القوانين الأساسية.
وتبنت المحاكم عدداً من الأحكام التي أغضبت اليمين، من عمليات الاستيطان الإسرائيلية إلى حريات وحقوق المواطنين الفلسطينيين، وكذلك الفصل في قضايا متعلقة بالاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية.
بالطبع معظم قرارات المحاكم الإسرائيلية تأتي في النهاية في صالح المستوطنين مثل قرار طرد عائلة "صب لبن" من بيتها الواقع على بعد أمتار من المسجد الأقصى مؤخرا، ولكن على الأقل تقلل المحاكم من وتيرة سياسات الاحتلال وممارسات المستوطنين المتطرفة.
يقول منتقدون إذا تم تقويض المحاكم الإسرائيلية، فقد لا تعترف المحاكم الدولية بسلطتها الكاملة، وتشمل تداعيات ذلك احتمال أن يصبح الجنود الإسرائيليون أكثر عرضة للاتهام في قضايا جرائم الحرب.
أهداف التعديلات القضائية بإسرائيل الحقيقية.. فتِّش عن مصالح نتنياهو وحلفائه الخاصة
في الديمقراطيات الحقيقية، مثل هذا التغيير الهائل في النظام القضائي هو شيء يجب القيام به فقط بعد دراسة من قِبل خبراء غير حزبيين وبإجماع وطني واسع، لكن لم يكن هناك شيء من ذلك في حالة نتنياهو. إنه يؤكد أن هذه المهزلة برمتها لا علاقة لها بـ"الإصلاح" القضائي وكل شيء يتعلق بالرغبة في الاستيلاء على السلطة من قِبل نتنياهو وحلفائه، حسبما يقول الكاتب الأمريكي توماس فريدمان في مقال بصحيفة the New York Times الأمريكية.
يقول فريدمان إن ائتلاف نتنياهو الحاكم، الذي وصل إلى السلطة بأضيق الهوامش، قرر التصرف كما لو أنه فاز بأغلبية ساحقة وتحرك على الفور لتغيير ميزان القوى القائم منذ فترة طويلة بين الحكومة والمحكمة العليا، الضابط المستقل الوحيد للسلطة السياسية في إسرائيل.
ويضيف أن هناك شعوراً بالصدمة اليوم بين الدبلوماسيين الأمريكيين الذين تعاملوا مع نتنياهو، رئيس الوزراء الإسرائيلي الأطول خدمة وهو رجل يتمتع على حد وصفه بـ"بذكاء كبير وموهبة سياسية".
هم فقط يجدون صعوبة في تصديق أن نتنياهو يسمح لنفسه بأن يقاد من قِبل أشخاص مثل وزير الأمن الداخلي المتطرف إيتمار بن غفير، وسيكون مستعداً للمخاطرة بعلاقات إسرائيل مع أمريكا ومع المستثمرين العالميين وسيكون مستعداً للمخاطرة باندلاع حرب أهلية في إسرائيل. فقط للبقاء في السلطة مع مجموعة من
القوميين المتطرفين.
ولكن نتنياهو يحمي نفسه، فلقد سبق أن أصدرت الحكومة قانوناً يمنع السلطة القضائية من إعلان أن رئيس الوزراء غير لائق للمنصب، بسبب تضارب المصالح بين محاكمته بالفساد ومحاولاته التدخل في المحاكم.
ففي الوضع الحالي، يمكن أن تصدر المحكمة العليا حكماً يؤدي لمحاكمة رئيس الوزراء في ثلاث قضايا جنائية بتهمة الفساد.
يلخص فريدمان أهداف نتنياهو وحلفائه من التعديلات القضائية الإسرائيلية بالقول: "يريد المستوطنون اليهود إبعاد المحكمة العليا عن الطريق حتى يتمكنوا من إنشاء مستوطنات في جميع أنحاء الضفة الغربية ومصادرة الأراضي الفلسطينية بسهولة. يريد الأرثوذكس المتشددون إبعاد المحكمة العليا عن الطريق حتى لا يتمكن أحد من إخبار أبنائهم بأنه يتعين عليهم الخدمة في الجيش الإسرائيلي أو إخبار مدارسهم أنه يتعين عليهم تدريس اللغة الإنجليزية والرياضيات والعلوم والقيم الديمقراطية".
ويريد نتنياهو إبعاد المحكمة عن الطريق حتى يتمكن من تعيين أي متسللين سياسيين يريدهمم في وظائف رئيسية ابقاء الإئتلاف الحاكم الذي وصل به للسلطة التي تحميه بدورها من المحاكمة.
بموجب اتفاق تشكيل الحكومة الأصلي الذي وقَّعه نتنياهو مع شركائه في الائتلاف اليميني العام الماضي، فإن أرييه درعي، زعيم حزب شاس الأرثوذكسي المتشدد، عين كوزير للصحة ثم الداخلية، وسوف يعين في وقت لاحق كوزير للمالية.
أدين درعي ثلاث مرات بجرائم مالية أدت إلى سجنه – بما في ذلك التهرب الضريبي وقبول الرشاوى. قالت المحكمة العليا الإسرائيلية، بتصويت 10 ضد 1، لنتنياهو في يناير ر/كانون الثاني الماضي، إن تعيينه للغشاش الضريبي المدان بأخذ الرشوة كوزير في الحكومة كان "غير معقول للغاية" ويمثل "تناقضا خطيرا مع المبادئ الأساسية التي ينبغي أن توجه رئيس الحكومة عندما يعين الوزراء".
يقول فريدمان: "نتنياهو، الذي يُحاكم هو نفسه بتهمة الفساد، يريد تحييد المحكمة العليا حتى لا تتمكن من منعه من تعيين هذا الغشاش الضريبي وزيراً للمالية للإشراف، على مساهمات دافعي الضرائب الإسرائيليين والأمريكيين في الميزانية الإسرائيلية.ة".
يتساءل الكاتب الأمريكي: هل يمكن وصف ذلك بـ"الإصلاح" القضائي"؟
نتنياهو يحرج أمريكا ويؤكد الطابع العنصري للاحتلال الإسرائيلي
علَّق الرئيس الأمريكي جو بايدن، الذي يعتبر نفسه من أشد مؤيدي إسرائيل، في تصريح لشبكة CNN بأن "هذه واحدة من أكثر الحكومات الإسرائيلية تطرفاً" التي رآها على الإطلاق.
فريق بايدن يرى أن الحكومة الإسرائيلية اليمينية المتطرفة، بقيادة بنيامين نتنياهو، منخرطة في سلوك راديكالي غير مسبوق -تحت عباءة "الإصلاح" القضائي- يقوض مصالح أمريكا المشتركة مع إسرائيل، حسب فريدمان.
كما أن الموقف من ضم الضفة يحرج حكومة بايدن التي ترفع لواء حقوق الإنسان والقانون الدولي، فلقد دافعتواشنطن لعقود عن احتلال إسرائيل للضفة، ورفضت إدانته في المحافل الدولية، بحجة أنه احتلال مؤقت إلى حين إقامة دولة فلسطينية سوف تتضمن التفاوض حول إبقاء بعض المستوطنات مع إسرائيل (توافق السلطة الفلسطينية من حيث المبدأ على تبادل الأراضي بإعطاء تل أبيب بعض مستوطنات الضفة مقابل أرض مماثلة في المساحة والجودة تضم لغزة على أساس أنها كلها جزء من أراضي فلسطين التاريخية).
ردَّ وزير الأمن القومي، إيتمار بن غفير، على انتقادات بايدن قائلاً إن "إسرائيل لم تعد نجمة أخرى في العلم الأمريكي".
ولكن قد لا يكون هذا صحيحاً، فوفقاً لتقرير خدمة أبحاث الكونغرس لعام 2020، تلقت إسرائيل مساعدة خارجية أمريكية أكثر من أي دولة في العالم منذ الحرب العالمية الثانية، بقيمة 146 مليار دولار، هذه الأرقام لم يتم تعديلها وفقاً للتضخم.
إلى أي مدى يمكن أن يصل بايدن في رفضه لسياسة نتنياهو؟
تواصل حكومة نتنياهو خطواتها لضم الضفة وتوسيع الاستيطان؛ بل وتسليح المستوطنين ومهاجمة الضفة بشكل يهدد بانهيار السلطة الفلسطينية.
وأعلن سموتريتش، وزير مالية نتنياهو، في مارس/آذار 2023 أنه "لا يوجد شيء اسمه الشعب الفلسطيني".
إن ممارسات حكومة نتنياهو تهدد استقرار الأردن، وهي مصلحة أمريكية وإسرائيلية حيوية، حسب فريدمان الذي قال إن نتنياهو يدفع كذلك الدول العربية التي انضمت إلى اتفاقات إبراهام إلى التراجع. ويعطي من يفكر في التطبيع سبباً للتوقف أو التمهل في التطبيع مع مثل هذا النظام الإسرائيلي الذي لا يمكن التنبؤ به.
كما أن هذا يؤكد الطابع العنصري للاحتلال الإسرائيلي للضفة، حسب وصف منظمة العفو الدولية وهيومان رايتس ووتش، والذي لا تتبناه واشنطن.
ولكن معنى ضم الضفة مع خضوع الفلسطينيين للحكم العسكري الإسرائيلي، بينما المستوطنون الذين يحتلون الأراضي ويسكنون بجوارهم يخضعون للقانون المدني الإسرائيلي، أن أمريكا قد لا تستطيع التهرب كثيراً من حقيقة أن هذا نظام للفصل العنصري.
رغم هذه الانتقادات يستبعد فريدمان إعادة تقييم التعاون العسكري والاستخباراتي الأمريكي مع إسرائيل، والذي يظل قوياً وحيوياً، حسب وصفه، ولكنه يرى أن سلوك نتنياهو قد يؤثر على النهج الدبلوماسي الأمريكي تجاه تل أبيب التي تحبس الفلسطينيين بلا خجل في حل الدولة الواحدة: دولة يهودية فقط، وتطيح بحقوق الشعب الفلسطيني.
ويقول "إن كون بايدن مستعداً لمواجهة نتنياهو قبل انتخابات 2024 في أمريكا يشير إلى أن الرئيس الأمريكي يعتقد أنه يحظى بدعم ليس فقط من معظم الأمريكيين في هذا الموقف؛ بل من معظم اليهود الأمريكيين وحتى معظم اليهود الإسرائيليين".