في ظل الشد والجذب بشأن ملف الانتخابات، برز النفط مؤخراً كأحد الملفات الخلافية في ليبيا، فما قصة تقسيم العائدات وما علاقة أمريكا بما يحدث؟
في الوقت الذي يستمر الانسداد السياسي في البلاد، برز وجه آخر للأزمة الليبية، حيث أصبحت مسألة التوزيع العادل لإيرادات النفط إحدى أوجه الأزمات المتجددة، التي من المتوقع أن تتصاعد خلال الأيام القادمة.
ويبدو أن طرفي الأزمة هما حكومة الوحدة الوطنية، برئاسة عبد الحميد الدبيبة، المتحكمة في الإيرادات النفطية، وأسامة حماد، المكلف بتسيير الحكومة المعينة من مجلس النواب في طبرق (شرق).
كيف ومتى بدأت أزمة العائدات النفطية؟
كان خليفة حفتر، قائد قوات الشرق الليبي الذي يسيطر على أهم الحقول والموانئ النفطية، قد انضم إلى الجدال المتعلق بالنفط، بعد أن طالب يوم 3 يوليو/تموز الجاري بتشكيل "لجنة عليا" للإشراف على توزيع إيرادات النفط بين البلديات بشكل عادل.
وفي طرابلس، لم تصم السلطات آذانها عن هذه المطالب، حيث بحث رئيس المجلس الرئاسي محمد المنفي، ورئيس حكومة الوحدة، ومحافظ المصرف المركزي الصديق الكبير، ورئيس المؤسسة الوطنية للنفط فرحات بن قدارة، الأربعاء 5 يوليو/تموز، تشكيل "لجنة مالية عليا" بمشاركة كل الأطراف، تشرف على التوزيع العادل للثروة وإيرادات النفط، وفق بيان رئاسي.
أما أصل القضية فيرجع إلى يوم 24 يونيو/حزيران الماضي، عندما هددت حكومة أسامة حماد (غير معترف بها دولياً)، بدعم من مجلس النواب بطبرق بوقف تصدير النفط عبر اللجوء إلى القضاء، وذلك على خلفية صراع على تقاسم الإيرادات النفطية مع حكومة الدبيبة.
وأعلنت حكومة حماد، في بيان، أنها "استكملت إجراءات الحجز الإداري على إيرادات النفط لعام 2022 وما بعده، والتي تزيد على 130 مليار دينار (نحو 27 مليار دولار)، استناداً إلى الإعلان الدستوري في مبدأ التوزيع العادل للثروة".
والحجز الإداري إجراء تقوم به الجهات الحكومية دون اللجوء إلى القضاء، وينفذ ضد أي شخص أو جهة بشكل مباشر، وهو امتياز للسلطة العامة فقط. وعلق وزير النفط بحكومة الوحدة محمد عون، على هذه التهديدات قائلاً "إن الشعب الليبي سيكون المستهدف بقرار إغلاق النفط، وهو من سيتأثر به قبل شريحة المستوردين، الذين قد يجدون بديلاً آخر"، بحسب تقرير للأناضول.
وأضاف عون، في تصريحات لصحيفة "الشرق الأوسط" اللندنية، أن "تكرار التهديد بإيقاف النفط يعرض البلاد لاحتمال فقدان الزبائن المستوردين له إلى غير رجعة"، لافتاً إلى أن "إغلاق الموانئ والحقول ومن ثم فتحها من جديد يتطلب عمليات صيانة ذات تكلفة عالية، وذلك لمعالجة مشاكل فنية خاصة بالأنابيب، حيث ستتحمل خزانة الدولة هذه التكاليف الباهظة دون سواها".
ما علاقة أمريكا بالقصة؟
دخلت الولايات المتحدة، على لسان مبعوثها الخاص إلى ليبيا السفير ريتشارد نورلاند، على خط الأزمة، داعية "إلى الابتعاد عن التهديد بإغلاق النفط، والذي من شأنه أن تكون له تداعيات مدمرة على الاقتصاد والشعب الليبيين".
وحثت نولاند الفاعلين السياسيين الليبيين على "وضع آلية شاملة للتحكم في الإيرادات، كطريقة بنّاءة لمعالجة التظلمات حول توزيع عائدات النفط، وإرساء الشفافية دون المخاطرة بسلامة الاقتصاد".
وليس سراً أن إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن تسعى جاهدة إلى خفض أسعار النفط العالمية من خلال ضمان زيادة المعروض في الأسواق العالمية، وذلك منذ بدأ الهجوم الروسي على أوكرانيا في فبراير/شباط الماضي، وهو الهجوم الذي تصفه موسكو بأنه "عملية عسكرية خاصة" بينما يصفه الغرب بأنه "غزو عدواني غير مبرر". وفي هذا السياق، يمكن فهم تصريحات المبعوث الأمريكي الخاص إلى ليبيا.
لكن رداً على تصريح المبعوث الأمريكي، قال حماد، في تغريدات على تويتر، إن التهديد بوقف تصدير النفط جاء من أجل "الحفاظ على أموال الدولة"، داعياً نورلاند، إلى عدم التدخل في الشأن الليبي أو الانحياز لطرف دون آخر.
ولقيت خطوة حكومة حماد بالحجز الإداري على إيرادات النفط دعما من 76 نائباً (من إجمالي نحو 170 نائباً)، الذين اعتبروا أن ما قامت به من "إجراءات قانونية" جاء "دفاعاً عن قوت الليبيين، ولكبح جماح الفساد المتفشي في موارد الدولة"، على حد قولهم.
وانتقد النواب في بيانهم تصريحات المبعوث الأمريكي واعتبروها تدخلاً في أحكام القضاء وفي الشأن الداخلي، وانحيازاً إلى طرف دون آخر.
وكانت المؤسسة الوطنية الليبية للنفط قد أعلنت، الإثنين 10 يوليو/تموز، استعدادها لتوفير الدعم للشركات النفطية العالمية الراغبة في الاستثمار في ليبيا، ضمن خطة البلاد لرفع الإنتاج إلى 2 مليون برميل يومياً. وجاء ذلك على لسان رئيس المؤسسة فرحات بن قدارة، خلال اجتماع له مع لجنة الاستثمار بالمؤسسة في العاصمة طرابلس، وفق بيان للمؤسسة.
وركز الاجتماع على "بحث الفرص المتاحة للاستثمار في قطاع النفط والغاز في ليبيا، بعد استقرار إنتاج النفط ورفع القوة القاهرة عن عمليات الاستكشاف"، وفق البيان. و"القوة القاهرة" هي توقف أي تعاقدات نفطية مع الأطراف الخارجية بسبب ظروف قاهرة، حيث يتم إعفاء طرفي التعاقد من أي التزامات مالية أو قانونية.
وشهد قطاع النفط في ليبيا خلال السنوات الماضية عدة إغلاقات للعديد من الحقول والموانئ، من قبل مجموعات مدنية وعسكرية تحت عناوين مختلفة، وعلى رأسها التقاسم العادل للإيرادات.
كيف يتم تقسيم عائدات النفط في ليبيا؟
من الناحية الفنية، يقول الخبير النفطي محمد الشحاتي، إن "توزيع الإيرادات النفطية عملية اقتصادية محاسبية دقيقة يكتنفها العديد من الحسابات الرشيدة، والتي لا تقوم بها إلا مؤسسات قانونية محايدة، وأهم ركن في عملية التوزيع يتمثل في وضع موازنة حكومية، يتم اعتمادها من سلطة تشريعية منتخبة".
وتابع الشحاتي للأناضول: "يجب أن تقوم السلطة التشريعية، بعد وضع الموازنة، بمحاسبة المنفذين في نهاية كل سنة بعد إغلاق الحسابات الختامية للدولة ومؤسساتها، ومراجعتها حيادياً. من دون هذا الإجراء فإن أي منهجية أخرى للتوزيع تعتبر نوعاً من الهراء".
وأوضح الشحاتي أن "التوزيع العادل يحتاج إلى إعطاء الحقوق المشروعة للمناطق المنتجة، وهنا لا أتكلم عن مخصصات مالية منفصلة، بل على سياسات تشمل المسؤولية الاجتماعية".
وفي ظل "عدم وجود خطة تنموية واضحة معروضة للعامة وموافق عليها من السلطات التشريعية فإن عمليات توظيف وتخصيص الأموال تفتقد إلى البوصلة، وتتسبب في وضع لا توازني فيما يخص توزيع العائدات النفطية، ما يزيد من السخط الشعبي"، بحسب الخبير النفطي.
الشحاتي أشار أيضاً إلى أن "التوقف عن إنتاج النفط له آثار مالية واقتصادية على الدولة تنعكس في فقدان الدخل من المبيعات النفطية، خصوصاً في ظل عدم كفاءة السلطات المالية والنقدية لمواجهة مثل هذه الاختناقات، مثل تفاقم مشكلة السيولة النقدية، احتمال ارتفاع التضخم، أو انخفاض قيمة الدينار، في ظل إنفاق حكومي غير رشيد".
ورداً على سؤال عن البدائل الممكنة لتوزيع الإيرادات النفطية في حالة عدم اعتماد تشريعات، قال الشحاتي: "لا أظن أن هناك بدائل، لا بد من القول إن التشريعات الموجودة كافية على الأقل في مرحلة انتقالية لوضع ركائز توزيع مقبول في حال الالتزام بها من السلطات التنفيذية، لحين استكمال العملية السياسية، ولكن انقسام المؤسسات وعدم الرشد في الإنفاق الحكومي لن يقود سوى إلى مزيد من الهدر في التوزيع".
الموقف السياسي وتداعياته على ملف النفط
من جانبه، قال المحلل السياسي فرج فركاش، إن "أحد الأسباب التي جعلت الحكومة المكلفة من البرلمان تهدد بإغلاق النفط أن مجلس النواب أصبح يدرك أن حجب الثقة عن حكومة الدبيبة جاء بهدف عكسي ولم تتحصل هذه الخطوة على أي اعتراف دولي يذكر، إلا من مصر، التي أيضاً أصبحت تتراجع وتتقارب شيئاً فشيئاً مع حكومة الدبيبة".
ورأى فركاش، في حديثه للأناضول، أن "الدبيبة أصبح يتصرف بعيداً عن أية رقابة تشريعية، وتمكن من سحب البساط من تحت أقدام النواب ومن يتحالف معهم، بتحالفه مع الصديق الكبير (محافظ المصرف المركزي)".
"هناك سبب آخر يقف وراء التهديدات بإغلاق النفط، وهو محاولة إضعاف الدبيبة واستبداله، والضغط لإقالة الصديق الكبير، في صفقة مع جناح بالمجلس الأعلى للدولة (نيابي استشاري) المتماشي مع أهداف وتطلعات عقيلة صالح (رئيس مجلس النواب)"، بحسب فركاش، معتبراً أن هذا الجناح "يقوده خالد المشري (رئيس مجلس الدولة) ويسعى لاستخدام بعض الرؤوس ومنها رئيس المفوضية العليا للانتخابات عماد السايح، وبعض المناصب السيادية الأخرى، من بينها محافظ مصرف ليبيا المركزي، كبش فداء لإتمام هذه الصفقة"، على حد قوله.
كما أشار فركاش إلى أن "هذه الخطوة لن تتم إلا بموافقة حفتر، الذي يبدو أنه اصطف إلى جانب نجله بلقاسم، الذي يلاصق عقيلة صالح، ويملي عليه ما يفعله".
أما عن سبب هذا التحول، فقد اعتبر فركاش أنه جاء بعد عدم تبلور أي نتائج عن مفاوضات نجل حفتر الآخر صدام، مع ممثلين عن الدبيبة، في محاولة لإعادة تشكيل حكومة الوحدة، واستيعابها لبعض المعارضين، وخاصة ممثلين عن حفتر فيها.
ويرى أن "صفقة" تغيير رئيس المؤسسة الوطنية للنفط فرحات بن قدارة، بين الدبيبة وحفتر "لم تثمر، ولم يستفد منها الأخير كما كان يرغب".
وكان الدبيبة، في يوليو/تموز 2022، قد عين بن قدارة على رأس مؤسسة النفط، خلفاً لمصطفى صنع الله، ما أدى إلى إنهاء إغلاق الحقول والموانئ النفطية في المناطق الخاضعة لسيطرة قوات حفتر.
فركاش أشار في هذا الصدد إلى "تهديدات الطرف الموالي لحفتر، بإقالة ابن قدارة وممارسة ضغوط عليه من أجل أن يصطف إلى جانب مطالبهم، بما يسمونه التوزيع العادل للثروة أو لموارد النفط".
وقال للأناضول إن "موضوع التوزيع العادل للإيرادات النفطية لن يتم إلا من خلال دستور توافقي يرسم ملامح وشكل الدولة ويحدد العلاقة بين مؤسساتها التشريعية والتنفيذية ويحدد الحقوق والواجبات وكيفية توزيع الثروة وفق عدد السكان والمساحة، مع مراعاة مناطق إنتاج النفط، وتحديد نسب لها للتنمية المكانية ليستفيد منها مواطنوها".
"ما يسعى إليه هؤلاء النواب ومن يحركهم من خلف الستار، تحت شعار حقوق الأقاليم، التي يستخدمونها عندما يضيق الخناق عليهم، هو في الواقع محاولة تقسيم الكعكة من موارد النفط، ليتمكنوا من الاستمرار في البقاء والتمدد"، بحسب فركاش، الذي شدد على أن "مواطني هذه الأقاليم لن يروا منها أية نتائج على الأرض سوى ذهاب هذه الموارد إلى جيوب المتنفذين، كما رأينا في السابق".
وبخصوص موقف المجتمع الدولي من إغلاق النفط، قال فركاش إن "محاولة التلويح بإغلاق النفط في هذا التوقيت، ومع استمرار أزمة الطاقة بالعالم، في ظل الحرب الروسية الأوكرانية المستمرة، فهذا ما لن يسمح المجتمع الدولي به، وخاصة الجانب الأوروبي والأمريكي"، معتبراً أن مثل هذه الخطوة "ستكون بمثابة مسامير أخرى في نعش من يقوم بها أو من يدعمها".