رحلة السويد “الطويلة” من الحياد إلى عضوية الناتو.. أبرز المحطات وماذا عن رد فعل روسيا؟

أخيراً أعطت تركيا الضوء الأخضر لانضمام السويد إلى حلف الناتو رسمياً، فما أبرز محطات المشوار الطويل من الحياد الذي كان؟ وكيف ستتأثر روسيا؟

السويد، مثل فنلندا، هي واحدة من الدول الإسكندنافية التي تقع شمالي أوروبا وليست عضواً في حلف الناتو، لكن تاريخها المعقد مع روسيا القيصرية أضفى بعداً آخر على حالة الذعر التي تعيشها أوروبا بشكل عام منذ اندلاع الحرب في أوكرانيا، فلماذا غيرت السويد استراتيجية "الحياد" التي اتبعتها منذ عام 1812 وقررت الانضمام للناتو؟

وكالة Associated Press الأمريكية نشرت تقريراً يرصد رحلة السويد العصيبة من الحياد إلى عضوية الناتو، ويلقى الضوء على أبرز محطات تلك الرحلة.

حياد السويد انتهى

عندما تقدمت السويد وفنلندا بطلب عضوية حلف الناتو بعد حيادٍ طويل؛ ظن كلا البلدين أن عملية الانضمام ستتم بسرعة. ونجحت فنلندا في الانضمام بعد مضي أكثر من عامٍ كامل، بينما ظلت السويد على قائمة انتظار التحالف، انتظاراً لموافقة تركيا والمجر. إذ كان لا بد من موافقة جميع الأعضاء الحاليين على طلبات الانضمام للحلف.

وهكذا وجدت السويد نفسها في انتظار موافقة تركيا والمجر، بالتزامن مع اجتماع زعماء الناتو في قمة فيلنيوس، ليشهد يوم الإثنين 10 يوليو/تموز، التغلُّب على عقبةٍ كبرى في الطريق. حيث وافق الرئيس التركي على طرح ملف انضمام السويد للناتو على البرلمان التركي من أجل الموافقة، في خطوةٍ رفض اتخاذها قبل أكثر من عام مضى.

ويعني هذا أن السويد باتت أقرب اليوم لأن تصبح العضو الـ32 في حلف الناتو، لكنها لم تتجاوز خط النهاية بعد. وإليكم ما نعرفه عن رحلة السويد العاصفة نحو الانضمام إلى التحالف.

كان قرار الانضمام إلى حلف الناتو بمثابة حدثٍ جلل لدولةٍ لم تخض حرباً منذ قرنين؛ إذ رفضت السويد المشاركة في الحربين العالميتين والحرب الباردة، وتبنّت الحياد باعتباره جوهر سياستها الأمنية وهويتها القومية.

وقد عدّلت السويد وضعيتها إلى "دولةٍ غير منحازة" بعد انضمامها إلى الاتحاد الأوروبي عام 1995، ورفعت مستوى تعاونها مع الناتو تدريجياً. لكن ستوكهولم ظلت تستبعد فكرة طلب الانضمام إلى الحلف حتى العام الماضي، بينما كان الرأي العام يعارض الفكرة بقوة.

وفي أواخر نوفمبر/تشرين الثاني عام 2021، وعد وزير الدفاع السويدي آنذاك بيتر هولتكفيست بألا تنضم السويد إلى حلف الناتو مطلقاً ما دام حزبه الديمقراطي الاجتماعي في السلطة.

ثم بدأ الهجوم الروسي على أوكرانيا، الذي تصفه موسكو بأنه "عملية عسكرية خاصة" بينما يصفه الغرب بأنه "غزو عدواني غير مبرر". وتبدّل الرأي العام في فنلندا والسويد بالتزامن مع زحف الدبابات الروسية بطول الحدود الأوكرانية، وقُصفت كييف وغيرها من المدن بالصواريخ. وغيّر هولتكفيست وحزبه رأيهما أيضاً، قبل أن تتقدم السويد وفنلندا معاً بطلب عضوية الناتو في شهر مايو/أيار من العام الماضي.

لماذا لم توافق تركيا مباشرة؟

توقّع غالبية المراقبين تسريع عملية انضمام السويد وفنلندا إلى الناتو، نظراً لأن كلا البلدين يستوفي معايير العضوية بالفعل، بينما زادت الحرب الأوكرانية من الحاجة الملحة لقبول الطلبين. وسارعت 28 من دول الناتو إلى التصديق على بروتوكولات الانضمام.

لكن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان كان له رأي آخر؛ إذ قال إن تركيا لن ترحب بدول الشمال كحلفاء في الناتو إلا بعد أن تشن حملةً ضد الجماعات التي تمثل تهديداً أمنياً على أنقرة، ومنها حزب العمال الكردستاني المحظور.

وسعت فنلندا والسويد إلى علاج مخاوف أردوغان عبر توقيع اتفاقية مع تركيا خلال قمة الناتو في مدريد العام الماضي. ووافق البلدان على استئناف صادرات الأسلحة إلى تركيا، وتشديد قوانينهما لمكافحة الإرهاب، وتكثيف جهود منع أنشطة حزب العمال الكردستاني داخل البلدين.

وكان من المتوقع أن تصبح المحادثات مع تركيا أسهل إثر انتخاب السويديين لحكومة من يمين الوسط في سبتمبر/أيلول الماضي، إذ كانت حكومة الحزب الديمقراطي الاجتماعي مثقلةً بعبء دعمها لمتشددين أكراد على علاقة بالحزب المحظور في سوريا.

لكن الأمور تعقّدت في يناير/كانون الثاني بسبب تظاهرة موالية للأكراد أمام مبنى بلدية ستوكهولم. وبعدها أحرق دنماركي معادٍ للإسلام نسخةً من المصحف الشريف في احتجاجٍ أمام السفارة التركية بستوكهولم.

وإذا كان غرض الاحتجاجات هو تعطيل انضمام السويد إلى الناتو بإثارة غضب تركيا؛ فيُمكن القول إن الاحتجاجات قد حققت غرضها، إذ جمّدت أنقرة محادثات الناتو مع السويد، بينما سمحت لفنلندا بالانضمام في أبريل/نيسان. وقضت حكومة رئيس الوزراء المحافظ أولف كريسترسون عدة أشهر في محاولة إصلاح الأضرار.

وعندما بدا أن العلاقات تتحسن، خرج لاجئ عراقي ليحرق مصحفاً آخر أمام مسجدٍ في ستوكهولم الشهر الماضي. وأدت الواقعة الأخيرة إلى تقليل فرص قبول تركيا لعضوية السويد قبل قمة الناتو في فيلنيوس.

من المسؤول عن الاحتجاجات؟

جمعت الاحتجاجات عدداً من المتظاهرين الموالين للأكراد واليساريين المتطرفين من السويد، ورفع بعض المشاركين فيها أعلام حزب العمال الكردستاني. بينما جاءت وقائع حرق المصحف على يد ناشط يميني متطرف من الدنمارك ولاجئ مسيحي من العراق. ومن المحتمل أن تلك الوقائع لم تكن لتحظى باهتمام كبير لولا ملف الناتو. لكن تركيز أنقرة على التطورات في السويد أدى إلى نشر أخبار الوقائع في وسائل الإعلام داخل تركيا والدول الإسلامية الأخرى، التي أدان قادتها السويد لسماحها بتلك الوقائع.

ويحاول المسؤولون السويديون طمأنة تركيا إلى أن السويد ليست بلداً يعاني رهاب الإسلام، مع التشديد على أن الحكومة لا تتغاضى عن وقائع حرق المصحف لكنها لا تستطيع إيقافها، وذلك بحجة حرية التعبير. فيما أدت إدانات الحكومة القوية للاحتجاجات إلى إثارة ردود فعلٍ قوية محلياً، حيث اتهم المنتقدون كريسترسون بالانبطاح إرضاءً لتركيا.

وأثارت الاحتجاجات كذلك بعض الشكوك حول التدخل التركي. فبمجرد أن أطلقت السويد ملف طلب العضوية؛ حذّرت الأجهزة الأمنية السويدية من أن موسكو قد تزيد أنشطة تأثيرها أثناء عملية الانضمام. لكن لم تظهر أية أدلةٍ على علاقة للمحتجين بروسيا حتى الآن.

ما الذي تريده تركيا بخلاف ما سبق؟

أدى تعليق تركيا لملف عضوية السويد في الناتو إلى إثارة استياء الولايات المتحدة وغيرها من الحلفاء. واقترح البعض أن تركيا تستغل نفوذها للضغط من أجل الحصول على مقاتلات إف-16 المُحدّثة من الولايات المتحدة. بينما صرّح المسؤولون الأتراك والأمريكيون من قبل بأن عملية انضمام السويد وترقية مقاتلات إف-16 هما عبارة عن مسألتين منفصلتين. لكن الرئيس جو بايدن ربط بين المسألتين صراحةً خلال مكالمته الهاتفية مع أردوغان في مايو/أيار.

ثم خرج أردوغان بطلبٍ آخر قبل مغادرته إلى قمة الناتو في فيلنيوس مباشرةً، حيث قال إن الدول الأوروبية عليها استئناف المحادثات المجمدة من أجل السماح بانضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي.

لكن الأمين العام للناتو أعلن عن انفراجة جديدة، بعد لقاء أردوغان مع كريسترسون ورئيس المجلس الأوروبي شارل ميشيل بشكلٍ منفصل في فيلنيوس. حيث أعرب أردوغان عن استعداده لطرح بروتوكول انضمام السويد على البرلمان التركي، في مقابل تعاونٍ أعمق على الصعيد الأمني ودعم سويدي لإحياء ملف انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي.

واحتفى كريسترسون بالاتفاق على اعتباره "خطوة كبيرةً للغاية في طريق" عضوية الناتو، لكنه لم يقل إن عضوية الناتو أصبحت صفقةً محسومةً بعد. حيث أشار كريسترسون إلى أنه لم يتضح متى سيتخذ البرلمان التركي قراره بعد.

ماذا عن موقف المجر؟

لم تُفصح المجر عن أسباب عدم تصديقها على عضوية السويد في الناتو بعد، بعكس تركيا. يُذكر أن المجر سعت لإقامة علاقات اقتصادية ودبلوماسية وثيقة مع روسيا قبل الحرب. ومنذ بداية الحرب، رفض رئيس الوزراء فيكتور أوربان دعم أوكرانيا بالأسلحة، واعترض على عقوبات الاتحاد الأوروبي ضد موسكو.

لكن خلال زيارةٍ إلى فيينا الأسبوع الماضي، نفى أوربان تعمُّد المجر تأخير ملف عضوية السويد.

ويرى العديد من المحللين أن أوربان كان ينتظر خطوة أردوغان التالية، وأن المجر ستوافق على انضمام السويد إذا بدا أن تركيا على وشك فعل ذلك. وهو ما حدث مع طلب انضمام فنلندا على كل حال.

ما قصة "الروس قادمون"؟

حتى تتضح الصورة أكثر بشأن القلق السويدي من روسيا، والذي جاءت الحرب الأوكرانية لتحسم الموقف تماماً، من المهم إلقاء الضوء على تاريخ الدولتين، فالسويد قبل أكثر من 4 قرون كانت تعتبر من الدول الكبرى في أوروبا. وكانت السويد قد بدأت في نشر قوات عسكرية في جزيرة غوتلاند المطلة على بحر البلطيق خلال الأيام القليلة التي سبقت الهجوم الروسي على أوكرانيا، وأرسلت الدولة الإسكندنافية تعزيزات عسكرية إلى الجزيرة المطلة على بحر البلطيق والقريبة من روسيا.

مدير مركز تحليل الاستراتيجيات والتكنولوجيات، رسلان بوخوف، قال لموقع "روسيا اليوم" إن "روسيا بالنسبة إلى السويد مرعبة منذ زمن بعيد حتى قبل عهد كارل الثاني عشر (ملك السويد)، وهم يجلُّون هذه الذكريات"، مضيفاً أن السويديين أقاموا بناءً تذكارياً لتخليد ذكرى كنيسة أحرقتها قوات بطرس الأول، رغم مرور 400 سنة على الحادث.

والإشارة هنا إلى وقت كانت فيه السويد إمبراطورية وقوة عظمى في أوروبا وسعت إلى غزو الأراضي الروسية وضمها إليها، لكن القيصر الروسي بطرس الأول انتصر على ملك السويد في معركة "بولتافا" عام 1709، فكانت تلك المعركة بداية النهاية لمملكة السويد التي كانت تشمل منطقة البلطيق. ومنطقة "بولتافا" تقع في أوكرانيا حالياً.

ومنذ ذلك الوقت أصبحت عبارة "الروس قادمون!" محفورة في أذهان السويديين، إذ عندما عاد ملكهم كارل الأول مع القليل المتبقي من رجاله كانوا يصيحون بالعبارة تحذيراً لأهالي البلاد. وبعد 100 عام من معركة "بولتافا"، ومنذ نهاية الحرب الفنلندية عام 1809 وصولاً إلى انهيار الاتحاد السوفييتي عام 1991، أصبح بحر البلطيق أشبه ببحيرة روسية بشكل كامل.

وخلال التسعينيات من القرن الماضي، دخلت المنطقة في وقتٍ جيوسياسي مستقطع، لكن بعد أن بدأ حلف الناتو تمدده شرقاً في أوروبا وضم بولندا، وإستونيا، ولاتفيا، وليتوانيا، لم يعد لدى روسيا سوى نقطة وصول واحدة قرب سانت بطرسبرغ، وأصبحت قاعدتها البحرية في كالينينغراد معزولةً عن بقية البلاد. وبالتالي فإن توسع حلف الناتو شرقاً قد أدى إلى إضعاف قبضة روسيا في البلطيق بشدة.

ولطالما كانت الجغرافيا في صالح السـويد، إلا أن أراضيها الصالحة للعيش لا تتجاوز ثلث مساحتها، حيث تغطي الجبال والغابات الكثيفة شمال السويد، ويتعذر معها الوصول إلى الكثير من أجزاء البلاد، إذ يحتوي الشمال على مواقع تعدينٍ قيّمة، لكنّ بقية أراضيه تظل شبه خالية من السكان، بينما يقع في أقصى الجنوب القلب السكاني والصناعي للسويد. ويعيش ويعمل غالبية مواطني السـويد البالغ عددهم 10 ملايين داخل الحزام الممتد من غوتنبرغ إلى ستوكهولم إلى مالمو.

ولأن قلب السـويد النابض محاطٌ بالبحر من كل جانب، نجد أن التجارة البحرية مع أوروبا لها دورٌ كبير في رخاء السويد، وإذا غابت تلك التجارة مع أوروبا ستخسر السويد نحو 45% من ناتجها المحلي الإجمالي. ويُعتبر بحر البلطيق من أزحم الممرات المائية في العالم، حيث يمثل 15% من حركة التجارة البحرية العالمية.

لكن روسيا لها نصيب الأسد من حركة الشحن في بحر البلطيق بشكل عام، حيث تتجمد الكثير من موانئ خليجيْ فنلندا وبوثنيا في الشتاء. ولأن رخاء دول البلطيق يعتمد بالأساس على الوصول البحري لموانئ بحر البلطيق، تسعى دول تلك المنطقة للسيطرة على أكبر عدد ممكن من نقاط الوصول، وكانت السويد تهيمن على المنطقة بأكملها في القرن السابع عشر لكنها خسرت كل شيء تقريباً.

وفي هذا السياق، وجدت روسيا من منظورها أن السبيل الوحيد لمواجهة الناتو يكمن في عسكرة كالينينغراد، وهذا ما فعلته موسكو تحديداً، حيث نشرت أسلحة منع دخول المنطقة والأنظمة المضادة للطائرات والصواريخ، ونشرت القاذفات المقاتلة والصواريخ المضادة للسفن. وقدّر الروس أن إنشاء فقاعة بحرية جوية سيُتيح لهم تقييد حركة قوات الناتو في المنطقة وتحويل بحر البلطيق إلى بحيرةٍ روسية من جديد.

ونجحت الاستراتيجية الروسية لفترة من الزمن، إذ تحملت الدول المجاورة أسلوب اللعب الروسي الجديد، لكن الصراع في أوكرانيا قلب موازين المعادلة، حيث سارعت السويد وفنلندا إلى الانضمام لحلف الناتو حتى تصبح جزءاً من المظلة الأمنية الأمريكية.

في ظل هذه المعطيات، سيمنح انضمام السـويد للحلف العسكري الغربي عمقاً استراتيجياً داخل المنطقة التي كان الروس يهيمنون عليها بشكل كامل في وقتٍ من الأوقات. إذ تعد جزيرة غوتلاند أهم الأصول في بحر البلطيق، ولا شك أن الدولة التي ستسيطر عليها وتنشر أنظمتها المضادة للسفن فيها ستتمكن من صياغة شكل النشاط العسكري إقليمياً.

وربما يأتي هذا التطور بسرعةٍ أكبر من أي مكان آخر، فالجيش السـويدي مجهزٌ للتشغيل المتوافق مع قوات الناتو بالفعل، وبمجرد انضمام السويد وفنلندا إلى الناتو ستصبح جميع الدول المشاطئة على بحر البلطيق جزءاً من التحالف نفسه، ليصوبوا جميع أسلحتهم في وجه روسيا.

ستجري عسكرة غوتلاند على وجه السرعة لتضع السويد في قلب الخريطة الجيوسياسية لشمال أوروبا، وهو ما يعني أن روسيا ستخسر تفوقها في العتاد والأفراد، وسيصبح نطاق العمليات الروسية مقيداً نتيجة انعدام حلفائها في بحر البلطيق.

إذ تمتلك روسيا قواعدها العسكرية في بيلاروسيا شرق أوروبا، ولديها قواعد في أرمينيا بمنطقة القوقاز وقواعد كازاخستان وقيرغيزستان وطاجيكستان في آسيا الوسطى، أما في بحر البلطيق، فتقف موسكو بمفردها تماماً وتحاوطها دول الناتو من جميع الجهات.

وفي ظل انعدام الحلفاء لن تمتلك روسيا ما يكفي من الأعداد أو المساحة لمواصلة القتال، ناهيك عن أن حجم وحدات الجيش الروسي الجاهزة للقتال والوحدات المميكنة في شمال غرب روسيا منخفض نسبياً، ويرجع السبب إلى أن الكرملين أعطى الأولوية لاستخدام القوة الصلبة في منطقة القوقاز وعلى الحدود الأوكرانية وفي منطقة القطب الشمالي.