سلطت مجلة The Economist البريطانية الضوء عن قرب على مجموعة المقاومة الفلسطينية "عرين الأسود" في مدينة نابلس، بالضفة الغربية المحتلة. والتقى مراسل المجلة مع ناشط يُدعى أبو الجود (اسم مستعار)، وقد اصطحب أيمن أوغنا في شوارع المدينة، حتى انتهى بهم المطاف أمام باب حديدي، ليقوده بعدها إلى غرفة مظلمة كانت بها شاشة تعرض لقطات تلفزيونية مباشرة للأزقة بالخارج، وقد كان هذا أحد المنازل الآمنة للمجموعة.
قال أبو الجود (35 عاماً): "لم أتحدث إلى أي صحفي من قبل، وأخشى أن أندم على هذا اللقاء بعد ذلك"، ثم أخذ الحقيبة وبداخلها الكاميرا ووضعها في غرفة أخرى. وأبو الجود عضو في "عرين الأسود"، وهي مجموعة فلسطينية تنتهج المقاومة المسلحة ضد الاحتلال الإسرائيلي وتتخذ من نابلس مقراً لها. وقد صرحت هذه المجموعة -منذ الإعلان الرسمي عن تأسيسها الصيف الماضي- بمسؤوليتها عن عشرات الهجمات ضد قوات الاحتلال.
مقاتلو الجيل "زد".. كيف نشأت مجموعة "عرين الأسود"؟
تصاعد العنف في العامين الماضيين بدافعٍ الغضب الفلسطيني على القمع المتزايد من قبل قوات الاحتلال، والضعف الذي ما انفك يقوض أركان السلطة الفلسطينية التي تتهم بالتخاذل في الدفاع عن الفلسطينيين. ففي النصف الأول من هذا العام، قتل المستوطنون وقوات الاحتلال 114 فلسطينياً، وقُتل 16 إسرائيلياً في الضفة الغربية (استشهد 57 فلسطينياً، وقتل إسرائيليان خلال المدة نفسها من العام الماضي). وقال جيش الاحتلال إن الهجمات الفلسطينية المسلحة على الجنود والمستوطنين في نابلس ومحيطها زادت من ثلاثة فقط في عام 2020 إلى 61 هجوماً مسلحاً خلال العام الماضي (عام 2022).
شنت إسرائيل في 3 يوليو/تموز 2023 أشدَّ هجوم لها على الضفة الغربية المحتلة منذ أكثر من 20 سنة، والغاية المعلنة للهجوم هي القضاء على "كتيبة جنين" المتمركزة في مخيم جنين للاجئين في شمال الضفة الغربية أيضاً. وشهد الهجوم اقتحام مئات من جنود القوات البرية الإسرائيلية، معززين بالطائرات المسيرة، مناطق المخيم، وقتلت قوات الاحتلال خلال ذلك 12 فلسطينياً، وجرحت وأسرت العشرات ودمرت مئات المنازل والمركبات. ويذهب كثير من الفلسطينيين إلى أن مدينة نابلس -مسقط رأس "عرين الأسود- هي الهدف القادم على قائمة الهجمات الإسرائيلية العنيفة.
وبرزت مجموعة "عرين الأسود" في صيف 2022، بعد أن اغتال جنود الاحتلال شاباً يبلغ من العمر 18 عاماً من المدينة، يُدعى إبراهيم النابلسي، بزعمِ أنه مسؤول عن سلسلة من عمليات إطلاق النار على إسرائيليين. لكن قوات الاحتلال كانت قد شنت بالفعل غارات عديدة على نابلس ذلك العام، وقتلت في فبراير/شباط ثلاثة مقاتلين فلسطينيين. والحال كذلك، انعقد العزم لدى مؤسسي "عرين الأسود" على إنشاء مجموعة يجتمع تحت لوائها مقاتلون غاضبون من إضعاف المقاومة الفلسطينية المسلحة في الضفة الغربية.
تذهب تقديرات السلطة الفلسطينية إلى أن "عرين الأسود" تضم نحو 100 مقاتل. وهي تماثل كتيبة جنين في كونها تفتقر إلى بنية تنظيمية واضحة، وعدم الانتماء إلى أي حزب أو فصيل سياسي. لكن أبرز شيء باتت تملكه المجموعة هو رمزيتها بين الفلسطينيين: فقد صارت عرين الأسود أيقونة للمقاومة بين جيل "زد" "Z" من الشباب الفلسطينيين [المولودين بين عام 1996 وعام 2012]. وكانت المجموعة تنشر على حسابها بتطبيق تيك توك قبل حظره لقطاتٍ لمقاتليها وهم يطلقون النار على جنود الاحتلال وحافلات المستوطنين وسياراتهم، ومقاطع فيديو توضح كيفية صنع القنابل الأنبوبية [الأكواع المتفجرة]. ويتابع قناتها على تطبيق تلغرام أكثر من 250 ألف متابع.
"لقد دخلنا حقبة جديدة من المقاومة"
في متاجر الهدايا التذكارية بنابلس، تُباع الأكواب والعقود وقطع الحلي والأعلام المزينة بشعار المجموعة ووجوه الشهداء من مقاتلي المجموعة. وكان المعهود أن ترتبط هذه التذكارات بالفصائل الراسخة للمقاومة الفلسطينية، ومن ثم فإن انتشار التذكارات الحامل لشعارات "عرين الأسود" دليل على نفاذها السريع إلى الوعي العام للناس. وقد صارت ملصقات المجموعة مرفوعة على الأبواب ونوافذ المتاجر والبوابات وإشارات الطرق في جميع أرجاء البلدة القديمة في نابلس. وإذا أنصتَّ للمصلين، فستسمع ألسنتهم تلهج بالدعاء لشهداء المجموعة، الذين عادة ما يكونون ملثمين ولا يُكشف عن هوياتهم إلا بعد استشهادهم.
قال أبو الجود لمراسل الإيكونومست: "لقد دخلنا حقبة جديدة من المقاومة، فلكل عصر رجاله، ومعاركه". وزعم أن تنظيم عرين الأسود أكثر تعقيداً مما تشيع الحكومة الإسرائيلية بين الناس، "فالإسرائيليون يغتالون بعض الشباب، ويقولون إنهم قادة [عرين الأسود]. ويحاولون إيهام الناس بأننا مجموعة من الفتيان الأغرار اليائسين. لكن الحقيقة أن المقاتلين المتمرسين بالمجموعة أكبر سناً، وهم في العشرينات والثلاثينات من العمر". لكن "الشباب الصغار، وقليلي الخبرة هم المعرضين أكثر من غيرهم للقتل في هجمات" الاحتلال.
لمَّا كان أبو الجود في الرابعة عشرة من عمره عام 2002، أصيب هو وصديقه بقذيفة دبابة إسرائيلية. ونجا أبو الجود لكن صديقه استشهد على الفور. وقال أبو الجود إن هذا الحدث أثَّر في تكوين شخصيته، فقد "تأثر جميع المقاتلين بالانتفاضة الثانية"، لا سيما وأن نابلس كانت بؤرة للمقاومة، حيث شارك الناس جميعهم، مسلحين وغير مسلحين، في الاشتباكات مع دبابات جيش الاحتلال، وناقلات جنوده المدرعة، وطائرات الهليكوبتر من طراز "أباتشي". وقد فرض الإسرائيليون خلال تلك الأيام حظر التجول المشدد على الأهالي، واقتحموا المنازل، واعتقلوا آلاف الفلسطينيين، وهدموا البيوت.
جاء السلام المزعوم بعد ذلك مخيباً للآمال، فقد بقيت ذكريات العنف الإسرائيلي حية بين الناس؛ وتفاقم السخط على سوء الظروف المعيشية في الأراضي المحتلة. وأعاقت الأزمة الاقتصادية المتواصلة منذ سنوات مساعي الشركات والناس، فشقَّ عليهم كسب لقمة العيش؛ ويتكبد الفلسطينيون صعوبات جمة للسفر من مكان إلى آخر في المنطقة بسبب الحواجز الإسرائيلية، فضلاً عن أن الاحتلال قد يغلق المدينة أياماً أو أسابيع في كل مرة يقتحمها. أما الوصول إلى رام الله -التي تقع على بعد 50 دقيقة فقط بالسيارة- فيمكن أن يستغرق أكثر من ثلاث ساعات، ويتوقف الأمر على مزاج الجنود الإسرائيليين الذين يحرسون نقاط التفتيش.
"لدينا جيل كامل، لم يرَ البحر من قبل"
قال أبو الجود: "نحن نعيش في سجن… لدينا جيل كامل، يبلغ من العمر 25 عاماً، لم يرَ البحر من قبل". وأسباب الشكوى ذاتها يرددها غيره من الشباب الفلسطينيين. إذ قالت مودة (27 عاماً) التي تسكن في نابلس وتعمل مديرة تسويق، "نحن لا نملك السيادة على الأرض، ولذلك فإن كل شيء نسعى إليه معرض للإيقاف بسبب الاحتلال أو غاراته على المدينة أو إغلاق حواجز التفتيش". ولأن عملي "يقتضي مني التنقل في جميع أنحاء الضفة الغربية، فأنا أمضي مئات من الساعات المليئة بالخوف والقلق عند حواجز التفتيش".
لا تكاد تلاحظ حضوراً للسلطة الفلسطينية هنا، إلا إذا طلبت تذكرة لإيقاف سيارتك. ويصفها كثير من الناس بأنها فاسدة وعاجزة، ومجرد مقاول من الباطن لإسرائيل. وتظهر استطلاعات الرأي بين الفلسطينيين مناصرةً قوية لمجموعات المقاومة المسلحة، لا سيما بعد أن خفتت الآمال التي كانت معقودة على حل الدولتين.
وفي معرض الحديث عن ذلك، قال أحد كبار المسؤولين في السلطة الفلسطينية: "لقد سئم الناس الحديثَ المكرور عن السلام و"وعوده المعسولة"، و"انتهوا إلى الاقتناع بأنه لا يوجد حل سلمي" للقضية. وقال جواد (28 عاماً) إن الناس التمسوا في المجموعة وسيلة لإخراج غضبهم، و"هم صوت الشارع، فهم قريبون بشدة من الناس، ولهذا السبب يؤيدهم الغالبية العظمى منهم".
سُمي أحد المقاهي في البلدة القديمة على اسم عبود صبح، وهو عضو في عرين الأسود قتل على يد الإسرائيليين، وقد رفع المقهى ملصقاً كُتب أسفله: "الله يلعن كل من باع وخان". وفي مايو/أيار، حظي المقاتل صالح صبرة، الذي كان يبلغ من العمر 22 عاماً، بجنازة كبيرة بعد اغتياله برصاص قوات الاحتلال في غارة على نابلس قُبيل استعداد الأهالي لإحياء الذكرى الخامسة والسبعين للنكبة التي شهدت تهجير 700 ألف فلسطيني من بيوتهم لإنشاء إسرائيل عام 1948. وقبل أيام من الغارة، قصف الاحتلال قطاع غزة، وقتل 33 فلسطينياً، وشرد مئات من السكان.
وقفت ساجدة، شقيقة صالح الكبرى، وهي تمسك بسلة من الورود وتنتظر وصول نعشه إلى منزل العائلة، واحتشد الجيران، وصعد مصورو الأخبار التابعون للصحف المحلية إلى السطح لالتقاط الصور، ثم ترافق وصول الجثمان مع أصوات وابل من طلقات الرصاص، وهتافات مئات الشبان:
"يا أم الشهيد نيالك..
يا ريت أمي بدالك!".
شدد أبو الجود على أن عرين الأسود بعيدة كل البعد عن كونها مجموعة تقاتل تمجيداً للموت. وقال: "نحن لا نقاتل من أجل الموت، بل نكافح من أجل العيش". وفي ظل الاحتلال الإسرائيلي، "لعل الموت مرة واحدة خير من الموت كل يوم". وقال مقاتل آخر بعرين الأسود، يُدعى أبو جندل: "قد لا نكون جيل التحرير"، "لكننا جيل التضحية، من أجل الجيل القادم، أطفال اليوم. يجب أن نبقي الذكرى حية".