منذ أن شنَّ يفغيني بريغوجين، زعيم مجموعة فاغنر، تمرده القصير على القيادة العسكرية الروسية، تدافع المحللون إلى بث التكهنات بشأن مستقبل المجموعة في إفريقيا، وزعم بعضهم أن استمرار دورها في القارة قد أصبح عرضة للشك.
لكن هذه المزاعم الجازمة بتراجع نفوذ فاغنر يغلب عليها التضخيم من قدر الاضطرابات الحالية داخل النظام الروسي، والتقليل من أهمية مشروعات فاغنر الاقتصادية والجيوسياسية للحرب في أوكرانيا، كما يقول تقرير لمجلة The National Interest الأمريكية.
حسابات بوتين في إفريقيا بعد تمرد بريغوجين القصير
قرر الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، السماح لبريغوجين بالمغادرة إلى المنفى في بيلاروسيا دون أن يصيبه أذى، وقد استدل بعض الخبراء بهذا القرار على أن قبضة بوتين على السلطة قد تراخت، إلا أن واقع الأمر أن حاجة بوتين إلى شبكة فاغنر في التمويل المالي لـ "العملية الخاصة" في أوكرانيا ترجِّح الرأي القائل بأن قراره صدر عن حسابات وجيهة وليس عن اضطرار أجبره على ذلك.
وتقول المجلة الأمريكية إن العمليات العسكرية الروسية في أوكرانيا تعتمد في الواقع اعتماداً كبيراً على الأرباح القادمة من مشروعات فاغنر التجارية في إفريقيا.
فالمجموعة تكاد تسيطر سيطرة كاملة على قدرات الدولة في جمهورية إفريقيا الوسطى، ولديها نفوذ قوي في مالي وليبيا والسودان، علاوة على انتشارها المزعوم في مختلف البلدان المكونة لحزام "الساحل الإفريقي"، مثل بوركينافاسو وتشاد، كما أن شبكة فاغنر في إفريقيا مستقرة، وفعالة، ومتعددة الأوجه [عسكرية، واقتصادية، وسياسية]. ولكن أهم العوامل في ذلك كله أن التخفيف من التداعيات المالية للحرب الأوكرانية كان من أبرز أسباب بناء هذه الشبكة، فهي بمنزلة خطة الطوارئ لموسكو.
تدعم فاغنر الحربَ الروسية في أوكرانيا بما تجنيه من أرباح كبيرة مقابل الخدمات الأمنية التي تقدمها في الدول الإفريقية المضطربة، وما تجمعه من عقود الموارد الممنوحة لها في تلك الدول، والتي تشمل الذهب والأخشاب في جمهورية إفريقيا الوسطى، والنفط في ليبيا.
وتكشف التقارير الواردة من جمهورية إفريقيا الوسطى، أن سيطرة فاغنر تمتد إلى جميع قطاعات الاقتصاد- فهي لا تقتصر على الموارد الطبيعية، بل تشمل بيع بعض المنتجات مثل البيرة- التي تعود على روسيا بعوائد مالية هائلة.
ويذهب خبراء إلى أن سيطرة فاغنر على الغابات ومنجم "نداسيما" للذهب في جمهورية إفريقيا الوسطى كافية كي تدر عليها عائدات بمليارات الدولارات. والحقيقة أن عجز العقوبات الاقتصادية الغربية عن اجتثاث العملية الروسية في أوكرانيا أمرٌ غير مستغرب إذا نظرنا إلى ما تجنيه روسيا من أرباح تلك الشبكة الممتدة في إفريقيا كلها.
بوتين لا يستطيع التخلص من فاغنر وزعيمها
خلاصة القول هي أن بوتين يحتاج إلى فاغنر، لأن مشروعات المجموعة شريان حياة بالغ الأهمية للحرب. ولسوء حظ الرئيس الروسي فإن بريغوجين هو الرجل الذي يحمل مفاتيح نجاح فاغنر، والأعمال التي أشرف عليها كانت أحد أبرز الأسباب في بلوغ روسيا أهدافها الجيوسياسية في السنوات الأخيرة، ومن ثم فإنْ قُتل بريغوجين أو سُجن فإن النفوذ الذي تكفله أعمال فاغنر يصبح عرضة للخطر. وقوات فاغنر الموالية لبريغوجين قد لا تقبل بتغيير الزعيم الروسي لتسلسل القيادة الهرمي للمجموعة وهيكلها التنظيمي.
ومن المؤكد أن الصراع الداخلي من أجل السيطرة على المجموعة وقيادتها سيظهر إلى العلن، ومن ثم يمسُّ بالحرج قدرتها على تنفيذ العمليات الحيوية والمشروعات التجارية.
ولذلك كله فإن قرار بوتين بتأنيب بريغوجين بما يشبه الضربة الخفيفة على ظهر اليد باعثُه الإدراك الواقعي لأهمية أنشطة فاغنر في استمرار العملية العسكرية بأوكرانيا. والصفقة مع بريغوجين هي عقد مؤقت بمدى زمني يُتيح لبوتين مواصلة الاستفادة من فاغنر على المدى القصير، وتوفير بعض الوقت لتقليل سيطرة بريغوجين على الإمبراطورية دون تعريض نشاط المجموعة للخطر.
فاغنر تنشط في نحو 12 دولة إفريقية
تقول "ناشونال إنترست"، مع ذلك، فإن المكاسب المالية ليست إلا فائدة واحدة ضمن فوائد عديدة تجنيها روسيا من استمرار النفوذ الاستراتيجي لبريغوجين في إفريقيا. فعلى سبيل المثال، امتنعت الدول التي تنتشر فيها فاغنر- مثل مالي وجمهورية إفريقيا الوسطى- عن التصويت بإدانة الغزو الروسي لأوكرانيا في الأمم المتحدة. وفي الوقت نفسه، فإن روسيا تعتمد على تلك الدول في ترويج حملاتها الدعائية وتستغل العداء للغرب في بعض مناطق القارة، خاصة في مالي وحزام الساحل الإفريقي، لحشد الدعم لها.
ولهذه الأسباب فإن الحسابات الاستراتيجية لبوتين كانت أبرز العوامل في ميله إلى الصفقة مع بريغوجين لوقف التمرد. وينبغي عدم التهوين من شأن الإمبراطورية التي بناها بريغوجين وأشرفت فاغنر على نشرها في جميع أنحاء إفريقيا.
فالواقع أن المجموعة لديها نشاط اقتصادي وسياسي وعسكري في ما لا يقل عن اثنتي عشرة دولة إفريقية. ومن ثم فإن مخاطرة بوتين بانهيار تلك الإمبراطورية فعل طائش. وبناء على ذلك، فإن الرئيس الروسي قد يجبر قوات فاغنر العاملة في أوكرانيا على الاندماج مع الجيش (أو قبول المنفى في بيلاروسيا)، إلا أنه من المرجح أن يظل العاملون بشبكة فاغنر في جميع أنحاء إفريقيا بمنأى عن التأثر بهذه الأمور، حتى يتمكن بوتين من انتزاع السيطرة على الشركة وأعمالها من بريغوجين.
هل تستغل أمريكا ارتباك فاغنر في إفريقيا؟
في غضون ذلك، يتفق المحللون- عن حق- على أن الشكوك المحيطة بالنفوذ الاستراتيجي لفاغنر قد تحول دون توسعها في دول أخرى بإفريقيا، على الأقل في المستقبل القريب. فتمرد بريغوجين قد يُفضي إلى فترة من الارتباك لدى الزعماء الأفارقة حيال شراكتهم مع المجموعة. وإذا صدقنا كلام وزير الخارجية الروسي عن أن أعمال فاغنر في الدول الشريكة لم تتأثر، واستمرت حملات الدعاية الروسية على وتيرتها، فمن المؤكد أن فترة الارتباك لن تطول.
في المقابل، فإن التمرد أتاح لإدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن فرصة مهمة، وإن كانت صغيرة، لانتزاع قبضة روسيا المشددة على القارة، خاصة في منطقة الساحل الإفريقي. وقد تغتنم الولايات المتحدة تردد الزعماء الأفارقة لمنافسة النفوذ الروسي في القارة.
وربما تشمل الجهود الأمريكية في هذا السياق: إرسال مساعدات إنسانية عاجلة لبوركينافاسو ومالي، اللتين تواجهان أزمات طارئة شديدة الوطأة، وتعيين مبعوث خاص لمنطقة الساحل، فهذا المنصب شاغر منذ تولي الإدارة الأمريكية الحالية، علاوة على تواصل الاهتمام بالمنطقة، وتقديم الولايات المتحدة نفسها شريكاً دولياً بديلاً للدول المضطربة في القارة.
والخلاصة أن الولايات المتحدة عليها ألا تقلل من المكانة التي توليها روسيا لنفوذ فاغنر الاستراتيجي في إفريقيا. والواقع أن قلة التعاون مع الدول الإفريقية التي انتشرت فيها فاغنر أفدح حماقة ارتكبها الغرب في جهود التصدي للحرب الروسية على أوكرانيا. وقد قدم بريغوجين بتمرُّده فرصةً سانحة لتقويض إمبراطورية فاغنر، وهي فرصة يجب على الولايات المتحدة ألا تضيعها، كما تقول مجلة "ناشونال إنترست".