تتطلع دول كبرى عدة إلى تركمانستان هذا البلد الذي يعد واحداً من أكثر دول انغلاقاً، والكل طامح في أن ينال نصيباً من ثرواته، فالكثيرون يرون أن غاز تركمانستان قد يكون بديلاً للغاز الروسي، كما أن موقعها قد يكون محورياً في خلق مسارات جديدة للنقل بين أوروبا وآسيا.
بعد مرور عام على الغزو الروسي الشامل لأوكرانيا، يجادل محللون مختلفون بأنَّ الصراع أضعف نفوذ موسكو على الجمهوريات السوفييتية السابقة في آسيا الوسطى. تتعامل إحدى هذه الجمهوريات، تركمانستان الغنية بالطاقة، بحذر مع إعلامها الخاضع لسيطرة مشددة، وغالباً ما تردد كلام موسكو.
لكنَّ البلد الآن في موضع أفضل مما كان في أي وقتٍ مضى لتنويع قاعدة مستهلكي طاقته بعيداً عن روسيا. سيكون الوصول إلى احتياطيات الغاز التركمانية صعباً، لكنَّ فعل ذلك يمكن أن يجلب فوائد كبيرة لكلٍّ من عشق أباد والغرب، حسبما ورد في تقرير لمجلة The National Interest الأمريكية.
تركمانستان بلد منغلق وشديد الارتباط بروسيا
وتركمانستان هي جمهورية سوفييتية سابقة، وواحدة من أكثر دول آسيا الوسطى انغلاقاً، ولكنها دولة غنية بالغاز، وعلى الرغم من أن الدولة محايدة، فهي تحافظ على روابط قوية مع روسيا، وتعتمد جزئياً على الخبرة الروسية في قطاع صناعة الغاز، ولديها تاريخ طويل من العمل مع موسكو في مجال الطاقة، وهي أيضاً طريق عبور رئيسي لمبادرة الحزام والطريق الصينية.
لكن منذ اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية، تسعى عشق أباد لإيجاد شركاء جدد، بما في ذلك الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة. وكان الاتحاد الأوروبي نفسه يبحث عن مصادر جديدة للطاقة عقب تجميد ألمانيا خط أنابيب نورد ستريم 2.
وما زال الاتحاد الأوروبي يشكو من اعتماده على الغاز الروسي رغم تراجع وارداته منه.
إذ استوردت دول الاتحاد الأوروبي غازاً من روسيا بقيمة تقدر بنحو 50.8 مليار دولار بين 24 فبراير/شباط 2022، و26 فبراير/شباط 2023 مقابل 7.5 مليار دولار لتركيا و6.1 مليار للصين، وبالتالي فإن كبار مستوري الاتحاد الأوروبي يدفعون لموسكو نحو 73.73% من قيمة مشتريات قائمة كبار مستوردي الغاز الروسي، بما يجعلهم يشكلون الأغلبية الساحقة من مستوردي الغاز الروسي.
يمثل ذلك فرصة لتركمانستان، التي هيَّأت نفسها للاستفادة من التعاون بين الشرق والغرب. وهي تسعى لتطوير وفتح اقتصادها من خلال زيادة الشفافية، وتعزيز منظومتها القضائية، وتشجيع تكوين رأس مال القطاع الخاص، حسب مجلة The National Interest.
بالإضافة إلى ذلك، يوجد موقع تركمانستان بطول "خط السكك الحديدية العابرة لبحر قزوين"، المعروف أكثر باسم "الممر الأوسط". يربط هذا الطريق ذو التعريف الفضفاض الصين وأسواق شرق آسيا بأوروبا، عبوراً بسهوب آسيا الوسطى، وبحر قزوين، والقوقاز. ويعني تجاوز هذا الطريق لروسيا، التي تخضع حالياً لعقوبات شديدة بسبب الحرب الروسية الأوكرانية، استفادة عشق أباد من زيادة كبيرة في أهميتها الجيوسياسية.
بل هنالك اهتمام أكبر في ما يتعلَّق بالجغرافيا السياسية للطاقة ولوجستياتها. إذ تسعى بعض البلدان الإقليمية، مثل أذربيجان وتركيا، للاستفادة من التطوير الإضافي لنظام يهدف لنقل الطاقة من تركمانستان إلى أذربيجان.
خطوط أنابيب نقل الغاز من تركمانستان إلى أوروبا تكاد تكون جاهزة
وسبق أن قالت وسائل إعلام تركمانية إن البلاد تجري مباحثات مع أذربيجان وتركيا وجورجيا والاتحاد الأوروبي بشأن إمكانية بناء خط أنابيب غاز بسعة 10 إلى 30 مليار متر مكعب من الغاز سنوياً. وهذا يعادل سعة واحد من خطي مشروع أنابيب نورد ستريم 2 الروسي المعلق الآن (الذي كان يفترض أن يحمل الغاز لألمانيا)، حيث تبلغ طاقة كل من خطي "نورد ستريم" على حدة 27.5 مليار متر مكعب من الغاز الطبيعي سنوياً.
ويقدر إجمالي احتياطي الغاز الطبيعي في تركمانستان بحوالي 50 تريليون متر مكعب.
وسبق أن أعلن النائب السابق للرئيس التركي، فؤاد أقطاي، أن أنقرة تستكشف ثلاثة طرق بديلة لنقل الغاز من تركمانستان إلى أذربيجان وإلى خط أنابيب تاناب، الذي يمتد عبر تركيا إلى اليونان.
وسيسمح المشروع الذي طورته شركة Trans Caspian Resources الأمريكية، بترتيب توريد الغاز الطبيعي التركماني إلى أذربيجان وإلى جنوب القوقاز وتركيا ودول أخرى التي في حاجة إلى الغاز، بما في ذلك الاتحاد الأوروبي.
من المتوقع أن يتم تنفيذ مشروع الربط العابر لبحر قزوين، والذي، وفقاً للتقديرات الأولية، سيستغرق حوالي أربعة أشهر، وسيتطلب استثمارات بقيمة 400 مليون دولار أمريكي. سيكون أساس تنفيذ المشروع هو البنية التحتية المتاحة بالفعل في تركمانستان وأذربيجان في بحر قزوين.
وسيسمح خط الربط العابر لبحر قزوين بتوريد الغاز الطبيعي التركماني إلى أذربيجان وإلى منطقة القوقاز وتركيا ودول أخرى. وسيضمن إمداد 10-12 مليار متر مكعب من الغاز الطبيعي سنوياً.
سيتمثَّل مفتاح ذلك في إنشاء خط أنابيب عابر لبحر قزوين، والذي من شأنه أن يتجاوز روسيا ويوفر إمدادات الطاقة لأوروبا. وأظهرت تركمانستان أيضاً اهتماماً ببناء خط الأنابيب من خلال المشاركة في لقاءات مختلفة للمجلس الاستشاري الخاص بـ"ممر الغاز الجنوبي". وتنظر عشق أباد لمشروع خط الأنابيب العابر لبحر قزوين باعتباره فرصة ممتازة لتطوير صناعة الطاقة المحلية.
بالإضافة إلى ذلك، التقى الرئيس الأذري إلهام علييف، والرئيس التركماني سردار بيردي محمدوف، والرئيس التركي رجب طيب أردوغان في عام 2022 لمناقشة نقل الغاز التركماني إلى أوروبا. وسلَّط أردوغان الضوء خلال اللقاء على عمل خط أنابيب الغاز العابر للأناضول (المعروف اختصاراً باسم "تاناب")، وهو مشروع بالغ الأهمية ينقل الغاز الطبيعي من أذربيجان إلى الأسواق التركية وفي النهاية إلى أوروبا، بكامل طاقته البالغة 32 مليار متر مكعب. ويُعَد نقل الغاز التركماني إلى تركيا وأوروبا عبر خط أنابيب تاناب هو الخيار الأكثر ملائمة من بين الخيارات المتاحة حالياً.
ومن شأن تطوير خط أنابيب تاناب بصورة أكبر وتحسين الربط في الممر الأوسط أن يفيد الغرب بصورة كبيرة. فحتى قبل الحرب الروسية الأوكرانية، كانت أوروبا تبحث عن سبل لتنويع مصادرها من الطاقة. وعمل الاتحاد الأوروبي على تحقيق طموحاته من خلال توقيع اتفاق مع أذربيجان في 2022 لمضاعفة واردات الغاز الطبيعي بحلول عام 2027. ويمكن أن توسع أذربيجان قدرتها لإمداد أوروبا بالطاقة في ظل عمل باكو على توثيق العلاقات أكثر مع تركمانستان. ولن يؤدي الربط مع تاناب إلا لزيادة أمن الطاقة الأوروبي.
خط الأنابيب أفضل من تسييل الغاز
وستكون خطوط الأنابيب بالغة الأهمية لأنَّها الطريقة الوحيدة القابلة للتطبيق اقتصادياً لنقل الغاز الطبيعي بكميات كبيرة، خصوصاً عبر بحر قزوين. وتُعَد إسالة الغاز الطبيعي مُكلِّفة للغاية لنقل الغاز عبر مسافة قصيرة كهذه.
في الوقت نفسه، أصبحت خطوط الأنابيب بمرور الوقت أشكال نقل أكثر قابلية للتطبيق. وقلَّصت "معاهدة الوضع القانوني لبحر قزوين"، والتي وقَّعتها روسيا وكازخستان وأذربيجان وإيران وتركمانستان عام 2018، بشكل كبير الحواجز أمام إنشاء خط أنابيب.
إليك أبرز المشكلات التي تعرقل المشروع
مع ذلك، هنالك بعض المشكلات التي تعيق نجاح التعاون التجاري مع تركمانستان. وتمثل المشكلات الداخلية والنفوذ الصيني في تركمانستان مخاطر بالنسبة للولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي.
فالبنية التحتية في تركمانستان كانت تاريخياً ضعيفة. وسيكون التحديث والتكامل التنظيمي تحدياً كبيراً، بالنظر إلى الطبيعة المنغلقة لحكومة تركمانستان وعلاقاتها الوثيقة مع روسيا والصين. بالإضافة إلى ذلك، يُحفِّز ضعف الأجور وضعف تدريب الموظفين في النقاط الحدودية التركمانية والمكاتب التجارية ذات الصلة الفساد والرشوة.
الممر الأوسط بديل للطرق المارة عبر روسيا وإيران وقناة السويس
أهمية تركمانستان لا تقتصر على الغاز، بل إن موقعها حيوي في الطريق الذي يعرف باسم الممر الأوسط العابر لبحر قزوين، لا سيما في خضم اضطرابات سلاسل توريد الطاقة الناجمة عن الحرب الروسية الأوكرانية- أكثر أهمية.
يمتدّ الممر الأوسط بدءاً من الصين أكبر مصنع ومصدر في العالم، مروراً بكازاخستان، وقيرغيزستان وأوزبكستان، وتركمانستان في آسيا الوسطى، ليعبر بحر قزوين وصولاً إلى أذربيجان ومنها إلى جورجيا قبل أن يتصل بأوروبا عبر السكك الحديدية والموانئ التركية.
ويمكن إرجاع اسمه "الممر الأوسط" إلى أنه يسير في وسط القارة الآسيوية، متجنباً العبور عبر الأراضي الروسية في الشمال في العقوبات الغربية على موسكو، وكذلك أراضي إيران التي تخضع لعقوبات أمريكية أسبق أو الطريق البحري الأطول عبر قناة السويس.
فعبر العاصمة الأذربيجانية باكو، تمرّ سكة حديدية تمثل مسار النقل البري الوحيد بين الشرق والغرب، ويُطلق عليه اسم الممر الأوسط، حسبما ورد في تقرير لمركز "أسباب" للدراسات الاستراتيجية.
وبعد الحرب الروسية على أوكرانيا وتعطّل سلاسل التوريد ونقص السلع الغذائية ورفع أسعار السلع، بدأ هذا الممر يحدث تغييراً في مسار التجارة العالمية، ويرى الكثيرون أنه قد يحدث ثورة في النقل والتجارة العالمية.
فمع استمرار الأزمة الأوكرانية والحصار الغربي على روسيا من المتوقع أن تزداد اتجاهات النقل بين آسيا الوسطى إلى أوروبا دون المرور بالأراضي الروسية الشاسعة، من خلال تطوير الطرق الجنوبية التي تتجنب روسيا وتتجه من آسيا الوسطى إلى أوروبا عبر الموانئ البحرية في كازاخستان وتركمانستان عبر بحر قزوين إلى ميناء باكو الأذربيجاني، ومنها لجورجيا ثم إلى تركيا، أو عبر الموانئ الجورجية على البحر الأسود وما بعده إلى الاتحاد الأوروبي.
إذ يعتمد الاستقرار الاقتصادي والسياسي للصين على التجارة الدولية، لكنَّ الطريق البري عبر روسيا (الممر الشمالي) والطريق البحري عبر مضيق ملقا عُرضة للاضطرابات. وبالمقارنة، يسمح "الممر الأوسط" للصين بتجاوز هذين الطريقين عاليي المخاطر. ومن شأن روسيا أيضاً أن تستفيد من الممر الأوسط، لأنَّه سيُوفّر فرصاً لوجستية جديدة بالرغم من الاضطرابات الحالية للممر الشمالي.
لكنَّ بلدان آسيا الوسطى على الأرجح ستكون أكثر المستفيدين من درجة الربط الأكبر مع الغرب وكل الفاعلين الرئيسيين، بما في ذلك الصين وروسيا. ونتيجة لذلك، تملك كل القوى سبباً لاتخاذ مواقف إيجابية تجاه هذه المبادرة، التي يمكن أن توفر فرصة واقعية للتعاون.
لكنَّ هنالك مشكلة أو مشكلتين. فعلى سبيل المثال، لنضع في اعتبارنا وجهة نظر بكين بشأن مشاركة تركيا. فالموقع الجغرافي لهذه الأخيرة، وحقيقة مرور الممر الأوسط عبر أراضيها، يجعلانها شريكاً لا غنى عنه بالنسبة للغرب في تحقيق الربط في الممر الأوسط. لكنَّ الصين قلقة بشأن تركيز تركيا على تكامل العالم التركي، وهو الأمر الذي ربما يفاقم النزعة الانفصالية بين أقلية الإيغور في إقليم شينجيانغ. وقد تسبَّب ذلك في التوتر بالماضي فعلاً. وستكون أنقرة حكيمة إذا ما أكَّدت على أنَّ الممر الأوسط هو، أولاً وقبل كل شيء، مشروع تجاري ليست له أية ارتباطات سياسية.
وسعت تركيا إلى التكامل مع مبادرة الحزام والطريق التي أطلقتها الصين، كما تعمّقت العلاقات الثنائية بين البلدين؛ لدرجة أن تركيا والصين اتفقتا عام 2015 على تنسيق مشروعات البنية التحتية في البلدين.
من بين هذه المشروعات خط سكة حديد باكو-تبليسي-قارص الذي افتُتِح عام 2017 ويمر عبر جورجيا لتركيا، ليحل محل السكك الحديدية السوفييتية التي تمر عبر أرمينيا.
زادت تركيا حجم استثماراتها في البنية التحتية للموانئ بما في ذلك تطوير ميناء مرسين بتكلفة 3.8 مليار دولار، وتطوير ميناء فيليوس بتكلفة 870 مليون دولار، وكذلك تطوير ميناء إزمير بتكلفة 1.2 مليار دولار.
في عام 2015، اشترى ائتلاف تجاري صيني نحو ثلثي أسهم ميناء كومبورت التركي مقابل مليار دولار.
تتمثَّل مشكلة أخرى في القيود المحتملة الناجمة عن اختلاف القدرات اللوجستية والتنظيمية والقانونية. لكنَّ حل هذه المشكلة أسهل من خلال الاستثمارات الكافية ومشاركة الأطراف الفاعلة. ففي نوفمبر/تشرين الثاني 2022 على سبيل المثال، اتفق وزراء النقل والخارجية في أذربيجان وجورجيا وكازاخستان وتركيا على خارطة طريق بقيمة 7.5 مليار دولار لإزالة القيود من أجل تسهيل الممر الأوسط في الفترة بين 2022 و2027. ويمكن لهذا المسعى أن يستفيد من مشاركة القطاع الخاص من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي.
وتتمثَّل طريقة أخرى يمكن أن يساعد بها الغرب في تقديم المساعدة الفنية، بما أنَّ رقمنة البيانات متعددة الوسائط وتبادل الوثائق ستكون أيضاً أمراً بالغ الأهمية في ما يتعلَّق بإمكانية التنبؤ والموثوقية. مع ذلك، لا ينبغي دفع هذا من جانب طرف واحد والاعتماد على تكنولوجيا شريك واحد فقط. ففي حين نجحت الصين في رقمنة مشروعاتها المرتبطة بمبادرة الحزام والطريق، يمكن أن تشعر بلدان آسيا الوسطى بالقلق من الاعتماد فقط على التكنولوجيا الصينية في ظل المخاطر المتعلقة بالمراقبة. وتُعَد الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي مؤهلتين للغاية للإسهام في رقمنة طرق التجارة ومنح بلدان آسيا الوسطى الضمانات التي تحتاجها.
في حين تثبط المخاطر والعقبات الربط داخل الممر الأوسط وما يلي ذلك من تدفق الغاز التركماني إلى أوروبا، فإنَّ المنافع تفوق التكاليف. ومن خلال هذا المشروع التعاوني، يمكن للصين أن تعالج مشكلات طرق التجارة التي ستستمر، خصوصاً في ظل اضطراب طرق الإمدادات بسبب الحرب الروسية الأوكرانية. وفي ظل الحقائق الجيوسياسية الحالية، لا يوجد وقت أفضل من هذا كي يُطوِّر الغرب، والصين، وبلدان آسيا الوسطى، بما في ذلك تركمانستان، ربط الممر الأوسط.