يبدو أن روسيا تكرر ما فعلته في الحرب العالمية الثانية، أو أن أوكرانيا تكرر الأخطاء التي ارتكبتها موسكو في بداية الحرب الأوكرانية؛ إذ اعترف رئيسها فولوديمير زيلينسكي بأن الهجوم الأوكراني المضاد أبطأ مما كان يرغبون فيه.. فما هو السر في تعثر الخطط الغربية الأوكرانية ضد موسكو، وهل يخفق هذا الهجوم في نهاية الأمر أم تتحول المعارك لحرب استنزاف طويلة؟
ودائماً ما تؤكد الولايات المتحدة أن أوكرانيا لديها الأسلحة والمعدات الكافية، لإنجاح هجومها المضاد الذين يراهن عليه الغرب لإجبار روسيا على الانصياع لشروط كييف والغرب.
ولكن اعترف فولوديمير زيلينسكي بأن الهجوم المضاد الأوكراني قد يكون "أبطأ مما هو مرغوب فيه"، غير أنه أصرّ على أنه لن يخاطر دون داعٍ بحياة الجنود لتلبية التوقعات الدولية.
جاءت تعليقات الرئيس الأوكراني في الوقت الذي أشار فيه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى أنه يبدو أنه كان هناك انقطاع في شدة الهجوم المضاد الأوكراني.
وقال بوتين: "من الغريب أننا نشهد في الوقت الحالي هدوءاً معيناً.. هذا يرجع إلى حقيقة أن العدو يتكبد خسائر فادحة، سواء في الأفراد أو المعدات".
وأعلنت أوكرانيا عن تحرير ثماني قرى فقط نتيجة لعملياتها الهجومية التي استمرت أسبوعين، حيث أثبت التفوق الجوي الروسي أنه عقبة رئيسية أمام التقدم الأوكراني.
روسيا تشن هجوماً مضاداً على الهجوم المضاد الأوكراني
كما يتعين على القوات الأوكرانية مواجهة الهجمات الروسية حول كريمينا، في منطقة لوهانسك الشرقية، وفي غابة سيريبريانسكي، شمال باخموت في منطقة دونيتسك.
وأجبرت الهجمات التي وجهتها موسكو، في وقت تسعى فيه أوكرانيا لإحراز تقدم جنوباً، الجنرالات الأوكرانيين على نقل قواتهم لسد الثغرات، وفقاً لما نقلته صحيفة the Guardian عن مصادر عسكرية أوكرانية.
وأنشأت القيادة العسكرية الأوكرانية 12 لواءً للهجوم المضاد، تم تجهيز تسعة منها من قِبل القوى الغربية، لكن يُعتقد أنه تم نقل ثلاثة فقط إلى الجبهة، مما يعني أنه ما زال لدى كييف احتياطات إضافية يمكن الدفع بها.
وفي حديث له مع "بي بي سي"، قال الرئيس الأوكراني إنه لن يأمر جيشه بالقيام بالأرض لمجرد تلبية مطالب الغرب بإحراز تقدم على الجبهة.
وقال زيلينسكي، الذي كان يتحدث بمناسبة مؤتمر تعافي أوكرانيا في لندن: "يعتقد بعض الناس أن هذا فيلم من أفلام هوليوود ويتوقعون النتائج الآن. ليست كذلك.. ما هو على المحك هو حياة الناس. مهما كان ما قد يريده البعض، بما في ذلك محاولات الضغط علينا سنتقدم في ساحة المعركة بالطريقة التي نراها أفضل".
وكان بوتين قد أقر أيضاً في تصريحاته يوم الأربعاء بأن أوكرانيا "لم تستنفد بعد، وهناك أيضاً احتياطيات يفكر فيها العدو في مكان وكيفية تقديمه".
تحصينات روسية صعبة الاختراق
كما نقل عن الرئيس الأوكراني قوله إنه كان يريد التعجيل بالحصول على الأسلحة الغربية، ولكن تأخر حلفائه الغربيين في تقديم الأسلحة أتاح لروسيا الفرصة في بناء تحصينات قوية على طول خط الجبهة الذي يقارب الألف كيلومتر؛ إذ تعطل حقول الألغام الفتاكة هجوم كييف المضاد، حسبما ورد في تقرير لهيئة الإذاعة البريطانية "BBC".
ويبدو أن الجيش الأوكراني قد علق في عملية إزالة الألغام، بعد أن تعرض لخسائر في مدرعاته ودباباته الغربية الثمينة في بداية الهجوم المضاد، بفضل ما يعرف بـ"خط سوروفيكين" الروسي المحصن ببحر من الألغام، والمضاد للدبابات.
بالنسبة للمساحات الشاسعة من حقول الألغام التي لا تزال ملقاة أمام هجوم أوكرانيا المضاد، يقول قائد فرقة المتفجرات بالقرب من باخموت لـ"BBC": "نحن نتعلم الارتجال وابتكار طرق لعمل ممرات سريعة وآمنة عبر حقول الألغام؛ لكننا نقاتل عدواً شرساً للغاية".
روسيا حسَّنت استراتيجياتها لمواجهة الهجوم الأوكراني
حسَّنت روسيا استراتيجياتها لعرقلة الهجوم المضاد الأوكراني في المنطقة الجنوبية من أوكرانيا، وفقاً لمخابرات الدفاع البريطانية.
وقالت وزارة الدفاع البريطانية، في تقييم لها نُشر في 4 يوليو/تموز 2023، إن موسكو ركزت على التكتيكات وشحذتها لعرقلة عمليات الهجوم المضاد الأوكرانية في جنوب أوكرانيا خلال الأسابيع القليلة الماضية.
لاحظت الوزارة البريطانية أن روسيا استخدمت بكثافة الألغام المضادة للدبابات في ساحة المعركة كجزء من تكتيكاتها.
علاوة على ذلك، تشير حقول الألغام الكثيفة في مناطق محددة إلى أن القوات الروسية اختارت تجاوز الحدود الموضوعة في العقيدة العسكرية الروسية وبدأت تطور أساليب جديدة.
وأفاد جهاز المخابرات بأنه في أعقاب نجاح موسكو في إبطاء الهجوم المضاد للقوات الأوكرانية، حاولت روسيا استهداف المركبات المدرعة الأوكرانية باستخدام مزيج من الطائرات بدون طيار والمروحيات الهجومية والمدفعية.
في خضم الهجوم المضاد المستمر للقوات المسلحة الأوكرانية، بذلت روسيا جهوداً كبيرة لتعزيز وتعديل تكتيكاتها، متناقضة بشكل صارخ مع نهجها الأوَّلي خلال المراحل الأولى من الحرب؛ حيث تكبَّدت خسائر كبيرة.
دبابات انتحارية
وأشار موقع EurAsian Times الهندي إلى نشر روسيا لما يسمى "الدبابات الانتحارية" في حرب أوكرانيا.
يتضمن هذا التكتيك إعادة تجهيز دبابات الحقبة السوفييتية القديمة بالمتفجرات، وتوجيهها عن بُعد نحو الخنادق الأوكرانية، وبدء التفجير لإنشاء كرات نارية مدمرة عند الاصطدام.
واتخذت روسيا تدابير مهمة لتحصين دفاعاتها على طول خط المواجهة الممتد بطول 1000 كيلومتر (600 ميل) في الصراع المستمر، وهذا يشمل بناء الهياكل والمنشآت شديدة التحصين.
ركزت موسكو أيضاً على تعزيز قدرات الحرب الإلكترونية لتقليص ميزة أوكرانيا في الطائرات القتالية بدون طيار.
علاوة على ذلك، أعادت استخدام القنابل التقليدية الكبيرة من ترسانتها الواسعة التي تعود إلى حقبة الحرب الباردة إلى ذخائر انزلاقية دقيقة التوجيه، ما أتاح ضرب الأهداف دون تعريض طائراتها الحربية للمخاطر، إضافة إلى تطوير أساليب استخدامها من الطائرات المروحية والتي عانت من خسائر كبيرة في بداية الحرب.
هذه التكتيكات المتطورة من قِبل روسيا، إلى جانب زيادة نشر القوات وتحسين الأسلحة، تشكل تحديات كبيرة لأوكرانيا في تحقيق نصر سريع وحاسم.
بالإضافة إلى التكتيكات المتطورة المذكورة أعلاه، فقد تم الإبلاغ عن أن الجنود الروس ينشطون في زرع الآلاف من الألغام الأرضية على نطاق واسع.
وفقاً لتقرير صادر عن المعهد الملكي البريطاني للخدمات المتحدة، تستخدم روسيا مزيجاً من الألغام المضادة للدبابات والأفراد في الصراع.
تلعب هذه الألغام دوراً مهماً في التحصينات الدفاعية، لا سيما في مناطق جنوب وشرق أوكرانيا الواقعة تحت الاحتلال الروسي.
المهندسون الروس برعوا في بناء التحصينات وحفر الخنادق
وكتب جاك واتلينغ، خبير الحرب البرية في المعهد الملكي للخدمات المتحدة ببريطانيا، في مقال نُشر مطلع الشهر الماضي، أن أوكرانيا تشق طريقها عبر مواقع دفاعية روسية تتكون من خنادق محفورة يدوياً مدعومة بحقول ألغام وتحميها طائرات بدون طيار ومدفعية؛ لكن هذا ليس خط الدفاع الرئيسي.
خط الدفاع الرئيسي، الذي لا يزال على بُعد 15-20 كيلومتراً من المواقع الأوكرانية، تم حفره بشكل سليم هندسياً، فالخنادق ومواقع إطلاق النار المعززة بالخرسانة، وعوائق الدبابات، والكابلات الموضوعة على الأرض لتنسيق ضربات المدفعية، وحتى المزيد من الألغام…".
وأضاف واتلينغ أن هذه الدفاعات مدعومة بخط من قوات الاحتياط، مشيراً إلى أنه مع توغل القوات الأوكرانية ضد الخطوط الروسية، "من المرجح أن يصبح القتال أكثر صرامة".
وقال واتلينغ إن "سلاح المهندسين الروسي أثبت أنه واحد من أقوى فروع الجيش الروسي".
أوكرانيا تقع في خطأ روسيا في بداية الحرب، والأخيرة تعيد تكرار ما فعلته بالحرب العالمية الثانية
يبدو أن أوكرانيا وقعت في الفخ الذي سقطت فيه روسيا في بداية الحرب وهو فخ الهجوم.
فهناك قاعدة شائعة بين العسكريين هي أن المهاجم يحتاج إلى ثلاثة أضعاف أعداد المدافعين؛ لكي يستطيع هزيمتهم، وذلك على أساس أنهم متساوون في النوعية.
كان حجم القوات الروسية في بداية الحرب نحو 200 ألف جندي، مقابل نحو مليون جندي أوكراني بعد أشهر من الحرب بعد استدعاء كييف للاحتياطي.
راهن الروس في بداية الحرب على التفوق النوعي في الأسلحة المدرعة، والطائرات، والمدفعية، ولكن الهجوم الذي نفذوه أتاح للأوكرانيين بأسلحتهم القديمة والأسلحة الخفيفة التي حصلوا عليها من الغرب إلحاق هزيمة كبيرة بالروس، مثلما حدث في معركة كييف في ربيع 2022، ساعد على ذلك سوء الإدارة الروسية، والمبالغة في الثقة لدرجة التقدم نحو كييف، ومطالبة الرئيس الأوكراني بالاستسلام.
ثم أعقب ذلك هجوم القوات الأوكرانية، في خاركيف والجنوب الذي استعادت به مساحات واسعة.
ولكن الأوكرانيين يعيدون تكرار نفس خطأ الروس، أتاح الوقت الذي احتاجته القوات الأوكرانية لبناء ألوية الهجوم المضاد، المجالَ للروس لبناء تحصيناتها وتطوير تكتيكاتهم مع التركيز على الدفاع.
كما أن المعدات الغربية التي حصلت عليها أوكرانيا، خاصة الدبابات، رغم تطورها، ولكنها تظل قليلة العدد لهزيمة جيش كبير مثل الجيش الروسي المتحصن وراء خطوط دفاعية كبيرة، ولديه تفوق جوي، وحصلت أوكرانيا على نحو 270 دبابة غربية أغلبها من طراز ليوبادر، ولم تصل الـ30 دبابة أمريكية من طراز أبرامز بعد.
فبينما كان الروس أكثر غروراً وهجومية في بداية الحرب، باتوا الآن أكثر تواضعاً، وعلى العكس، فالأوكرانيون أصبحوا أكثر طموحاً ويجاهرون برغبتهم في تحرير القرم.
كما استدعى الروس 300 ألف من جنود الاحتياط الذين أصبحوا أكثر تمرساً بعد أشهر من القتال.
يبدو أن روسيا تكرر ما فعلته في الحرب العالمية الثانية، تبدأ حروبها بأخطاء جمة، أولها سيطرة القيادة السياسية على القرار العسكري، وسوء الإدارة وأعداد ضخمة من الأسلحة دون جنود مدربين بشكل كافٍ عليها، وسوء تخطيط، وتكرر مشكلاتها التاريخية في التدريب واللوجستيات.
ولكن قوة روسيا ومساحتها وعدد سكانها، تسمح لها بتحمل الهزيمة وشراء الوقت لبناء أسلحة جديدة، عبر مواردها الضخمة التي تجعلها قادرة على تحمل طول فترة الحرب.
في الحرب العالمية الثانية، جرى ذلك في مواجهة ألمانيا النازية بمواردها وقدراتها الهائلة، وفي الحرب الحالية أمام موارد الغرب الهائلة الذي يدعم أوكرانيا.
كما أنه رغم كل البيروقراطية وسوء الإدارة والميل للمبالغة والتفاخر الوطني الأجوف الذي يميز الدولة الروسية، فإن البلاد لديها من الكفاءات العلمية والعسكرية ما يجعلها قادرة على التعلم من أخطائها، ولكنها تحتاج دوماً إلى هزيمة تدق جرس الإنذار لها.
من الواضح أن المعركة مرشحة للتحول لحرب استنزاف طويلة، إلا إذا تمكن الأوكرانيون من تحقيق مفاجأة استراتيجية وتنفيذ عملية اختراق صادمة لخطوط الروس الدفاعية، اعتماداً على المعلومات الاستخباراتية المقدمة من الأمريكيين.
أما السيناريو البديل فهو تقديم الولايات المتحدة لأعداد كبيرة من دبابات أبرامز الشهيرة لأوكرانيا (تمتلك منها واشنطن نحو ثمانية آلاف من بينها 3 آلاف في الاحتياط)، إضافة لطائرات إف 16 لكي تستطيع مقارعة التفوق الجوي الروسي.
وفي هذه الحالة قد يكون الصراع مرشحاً للتصاعد؛ لأن امتلاك أوكرانيا لـ"إف 16″ سيعني مزيداً من تورط طائرات أواكس وطائرات الحرب الإلكترونية التابعة للناتو اللازمة لدعم عمليات الطائرات الأوكرانية، الأمر الذي قد يزيد فرص المواجهة بين الناتو وروسيا.
كما أن روسيا تلوح بالنووي، كما فعل رئيس مجلس الأمن القومي الروسي، ديمتري ميدفيدف، مؤخراً، عندما قال إنه يمكن إنهاء الحرب بسرعة؛ إما بمحادثات سلام، أو بالأسلحة النووية.