يواجه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، أحد أصعب التحديات حتى الآن في ولايته الثانية، بعد استمرار أعمال الشغب في جميع أنحاء فرنسا لليلة خامسة على التوالي بعد مقتل الفتى نائل برصاص يد الشرطة، وذلك على الرغم من نشر عشرات الآلاف من رجال الشرطة، ومحاولات الحكومة الحثيثة لاحتواء العنف.
واندلعت الاحتجاجات أول مرة بعد أن أطلق شرطي مرور في 27 يونيو/حزيران 2023، النار على مراهق من أصول جزائرية يدعى نائل، في سيارة مستأجرة لم يلتزم بأوامر التوقف. كان هذا التوتر هو الذي أجبر ماكرون على تأجيل زيارة رسمية لألمانيا تستغرق ثلاثة أيام، من المقرر أن تبدأ في الثاني من يوليو/تموز، والتي كانت ستكون الأولى لرئيس فرنسي منذ 23 عاماً.
"ماكرون أمام أصعب اختبار سياسي"
وتعمق الاحتجاجات "الوحل السياسي" الذي يمر به ماكرون، كما تقول مجلة Economist البريطانية، حيث إن حكومة الأقلية الوسطية التي يديرها ماكرون محشورة بين كتلة في أقصى اليسار وأخرى على اليمين القومي المتشدد.
ونجح ماكرون للتو في الخروج من معركة سياسية طويلة لسنّ قانون تقاعد مرفوض شعبياً، والذي يرفع الحد الأدنى القانوني لسن المعاش من 62 عاماً إلى 64 عاماً. وعادت فرنسا إلى السياسة كالمعتاد. الآن، أعطت أعمال الشغب كلا الفصيلين المعارضين فرصة لتقويض رئاسته مرة أخرى.
في أقصى اليسار، ألقى القادة السياسيون باللوم في أعمال الشغب على الفقر وإهمال الحكومة في الضواحي الشاهقة متعددة الأعراق، والتي تحيط بمعظم المدن الفرنسية. كان اليساري جان لوك ميلينشون، زعيم "فرنسا الحرة"، بطيئاً في إدانة العنف. أما في معسكر اليمين، فاتهمت مارين لوبان، زعيمة التجمع الوطني (الجبهة الوطنية سابقاً)، ماكرون باتباع نهج متساهل في التعامل مع القانون والنظام والهجرة.
وماكرون ليس غربياً على احتجاجات الشوارع العنيفة، ففي عام 2018، كان عليه أن يتعامل مع أعمال شغب واسعة النطاق، بعد أن تحولت احتجاجات السترات الصفراء إلى أعمال عنف.
في وقت سابق من هذا العام، واجه الرئيس مظاهرات استمرت شهوراً و14 إضراباً وطنياً ليوم واحد ضد إصلاحه لنظام التقاعد. تحولت بعض المسيرات إلى أعمال عنف، حيث تم إحراق صناديق القمامة والمركبات، وتسلل المشاغبون إلى مسيرات الاحتجاج. وحينها تم إلغاء زيارة دولة قام بها ملك بريطانيا تشارلز الثالث في اللحظة الأخيرة في مارس/آذار، بسبب مخاوف أمنية.
ما المختلف هذه المرة في احتجاجات فرنسا؟
هذه المرة العنف من نظام مختلف. كانت الموجتان السابقتان من أعمال الشغب في ظل رئاسته مرتبطتين بشكل مباشر بسياسة الحكومة. في الحالة الأولى، زيادة ضريبة الكربون على وقود السيارات. وفي الثانية، رفع سن التقاعد.
لا علاقة لأعمال الشغب اليوم بماكرون بقدر ما تتعلق بطبيعة العمل الشرطي، لا سيما الاستخدام المميت للأسلحة النارية في شرطة المرور. في عشرات المقابلات مع The Economist في نانتير يوم 29 يونيو/حزيران، وبينما كان الناس يتجهون للانضمام إلى احتجاج لإحياء ذكرى الفتى نائل، قُتل الشاب البالغ من العمر 17 عاماً بالرصاص، ولم يذكر أي شخصٍ الرئيس بشكل عفوي.
لكن الشاغل الفوري، بدلاً من ذلك، هو تخفيف القواعد التي تحكم استخدام الشرطة للأسلحة النارية في أوائل عام 2017، وما يبدو أنه زيادة لاحقة في الوفيات. في عام 2022، لقي 13 شخصاً مصرعهم أثناء عمليات التفتيش المرورية، وهو رقم قياسي.
غضب الضواحي المهمشة
لا تجمع فرنسا إحصاءات عرقية، لكن يرتبط بهذا الغضب الكامن، لا سيما في الضواحي، من الطريقة التي يشعر السكان بأنهم يعاملون بها من قبل الشرطة. قال فابيان ترونج، عالم الاجتماع المتخصص في الضواحي، لصحيفة لوموند : "يقول الشباب إنهم يخضعون لفحص هويتهم وليس لما يفعلونه، هذه التجارب تترك بصمة دائمة في المجتمع".
في 30 يونيو/حزيران، حث مكتب الأمم المتحدة لحقوق الإنسان فرنسا على "معالجة القضايا العميقة للعنصرية والتمييز في إنفاذ القانون بجدية".
كما هو الحال مع أعمال الشغب السابقة، وعلى الرغم من ذلك، يتم تنفيذ كثير من أعمال العنف الحالية من قبل المحرضين أو الانتهازيين الذين يستغلون الفوضى للنهب والتخريب، وغالباً ما يستخدمون وسائل التواصل الاجتماعي وتطبيقات الرسائل لتشجيع التمرد.
في الواقع، حدثت معظم هجمات الحرق العمد في الأيام الأخيرة ضد الخدمات العامة- قاعات البلديات والمكتبات والمدارس والحافلات- في الضواحي نفسها، مما أثار الفزع بين السكان. وقد أنفقت الحكومة في السنوات الأخيرة مبالغ طائلة في محاولة لترميم مثل هذه الأحياء.
كم سيحتاج ماكرون لاحتواء هذه الاحتجاجات العنيفة؟
المهمة العاجلة الآن هي محاولة احتواء العنف. في 29 يونيو/حزيران 2023، قطع ماكرون حضوره في قمة أوروبية في بروكسل ليعود إلى باريس، حيث عقد اجتماع أزمة. في عام 2005، كانت آخر مرة تعرضت فيها فرنسا للاضطراب بسبب أعمال شغب ليلية واسعة النطاق في مدن بجميع أنحاء البلاد، استغرق الأمر ثلاثة أسابيع وفرض حالة الطوارئ لاستعادة الهدوء.
في الوقت الحالي، تقول الرئاسة: هذا الخيار ليس ضرورياً. وبدلاً من ذلك، تحاول الحكومة نشر ما تسميه الاستخدام "المتدرج" لقوات القانون والنظام في الشوارع. وتريد الحكومة أن تكون منصات وسائل التواصل الاجتماعي، وضمن ذلك Snapchat وTikTok، أكثر تعاوناً في تحديد أولئك الذين يحرضون الآخرين على العنف.
لكن بحسب مجلة الإيكونومست، كل هذا ليس في صالح ماكرون. غضب نقابة شرطة يمينية عندما وصف الرئيس مقتل نائل في اليوم الذي وقع فيه بأنه "لا يمكن تفسيره ولا يغتفر".
وفي خطاب رسمي يوم 30 يونيو/حزيران 2023، ألقت السيدة لوبان باللوم على "القوة الانفرادية" ودعت إلى فرض حظر تجول محلي وكذلك، إذا لزم الأمر، إعلان حالة الطوارئ. وأصرت على وجود صلة بقوانين الهجرة "المتساهلة" بالعنف في الشارع، على الرغم من أن نائل كان مواطناً فرنسياً نشأ في فرنسا.
كان ماكرون حريصاً على إدانة العنف، ودعم الشرطة في آن واحد، وكذلك التعبير عن انفعالاته عند إطلاق النار. وفي 29 يونيو/حزيران، وضع المدعي العام الشرطي الذي أطلق النار على نائل قيد التحقيق الرسمي بتهمة "القتل العمد".
لكن الصدمة الأولية في فرنسا من إطلاق الشرطة النار على نائل، تحولت إلى الغضب من العنف والتخريب والنهب، فضلاً عن عدم قدرة الحكومة على السيطرة عليها. هذا ينسجم مع أجندة القانون والنظام على اليمين السياسي واليمين المتشدد. وكلما طالت فترة العنف، زادت فرص أن تكون السيدة لوبان، السياسي المستفيد من كل ما يحدث.