قبل الحرب في أوكرانيا، كانت أوروبا هي المستورد الأول والأكبر للغاز الروسي، فكيف تمكنت روسيا من إيجاد بدائل لسلعتها الوفيرة رغم العقوبات الغربية؟
روسيا هي أكبر منتجي الغاز الطبيعي في العالم وتمتلك أضخم الاحتياطات، كما تمثل صادرات موسكو من الغاز المسال مصدراً رئيسياً للدخل. وكان الجزء الأكبر من البنية التحتية المتعلقة بالغاز الطبيعي، أي خطوط أنابيب نقله، متجهاً ناحية الغرب، أي أوروبا، حيث أهم المشترين.
ومنذ بدء الهجوم الروسي على أوكرانيا، الذي تصفه موسكو بأنه "عملية عسكرية خاصة" بينما يصفه الغرب بأنه "غزو عدواني غير مبرر"، استهدفت العقوبات الغربية على الكرملين مصادر الدخل الرئيسية، من صادرات الغاز والنفط، وهو ما تسبب في ارتفاع الأسعار بصورة قياسية.
العقوبات تستهدف الغاز الروسي
وكالة Bloomberg الأمريكية نشرت تقريراً عنوانه "أين ذهب كل هذا الغاز الروسي؟"، رصد كيف أن جزءاً كبيراً من البنية التحتية الحالية لتصدير الغاز في روسيا كان موجهاً ناحية الغرب، ولكن لسوء حظ موسكو، أصبح معظم زبائنها الآن باتجاه الشرق وجزء كبير من البنية التحتية التي تحتاجها لتزويدهم بالغاز لم يُشيّد بعد.
وهذا الانعدام في التوافق بين خطوط الأنابيب والزبائن- والذي قد يستغرق حله سنوات- جزء من سؤال أكبر أثاره هجوم موسكو على أوكرانيا. فلو أن الحرب قطعت الصلات بين روسيا وأوروبا، أكبر أسواقها لتصدير الغاز، فما الذي فعلته روسيا- التي تمتلك أكبر احتياطيات غاز في العالم- بكل هذا المخزون من الغاز؟
بيتر ترتساكيان، المدير الإداري لشركة ARC Financial، وهو مستثمر مخضرم في مجال الطاقة، قال للوكالة الأمريكية: "حين تخضع البلدان لعقوبات، تجد صعوبة في البداية في التكيف مع الوضع الجديد. ولكن كلما زادت حدة العقوبات، صارت أكثر إبداعاً في إيجاد طرق للتغلب عليها".
وهذا ما حدث بالفعل، إذ سرّعت روسيا توجهها نحو الصين، ومطلع هذا العام، أعلن الرئيس فلاديمير بوتين أن تطوير منشآت إنتاج ومعالجة وشحن الغاز في شرق روسيا، بالقرب من الحدود مع الصين، له "أهمية استراتيجية حقيقية". ومع ذلك، فشلت زيارة الرئيس الصيني شي جين بينغ، لموسكو في مارس/آذار الماضي، في الخروج بالتزام فوري من بكين لشراء مزيد من الغاز الروسي.
ويتطلب تحوُّل الكرملين إلى الصين إنشاء خطوط أنابيب جديدة لتكملة خط قوة سيبيريا Power of Siberia، الذي بدأ تشغيله في ديسمبر/كانون الأول عام 2019. والشحنات المتجهة إلى الصين ليست سوى جزء بسيط من تلك التي كانت تتدفق إلى أوروبا قبل الحرب، لكنها نمت ويتوقع أن ترتفع بنسبة 42% هذا العام إلى 22 مليار متر مكعب قبل أن ترتفع إلى 38 مليار متر مكعب سنوياً بحلول عام 2025، وهي كمية تكفي لتلبية الاستهلاك السنوي لفرنسا.
وقبل الحرب في أوكرانيا، وقعت شركة غازبروم صفقة توريد ثانية مع الصين، بموجبها ستنقل شركة الطاقة 10 مليارات متر مكعب أخرى من الغاز سنوياً على مدار 25 عاماً عبر خط أنابيب ثانٍ يُعرف باسم طريق الشرق الأقصى، لم يُشيّد بعد.
وبلغت المحادثات حول ما يسمى بمشروع قوة سيبيريا 2- الذي سيضاعف تدفق الغاز الروسي إلى الصين إلى ما يقرب من 100 مليار متر مكعب- "مرحلتها النهائية" منذ شهور، وفقاً لموسكو. لكن حتى لو أُبرم اتفاق بحلول نهاية عام 2023، فسيستغرق بناء خط الأنابيب خمس سنوات على الأقل، في تأكيد على أنه من الصعب على موسكو أن تجد بديلاً لأوروبا بين عشية وضحاها.
ورغم أن البعض في السوق يرى أن الاستئناف الجزئي لتدفقات الغاز إلى أوروبا ممكن، فالحقيقة هي أنه في مرحلة ما، كان الاتحاد الأوروبي سيدير ظهره للغاز الروسي. ولكن، ظن كثيرون أن الدافع وراء ذلك سيكون هدف الاتحاد الأوروبي خفض انبعاثات غاز الاحتباس الحراري إلى الصفر بحلول عام 2050، وليس حرباً هي الأكبر في أوروبا منذ الحرب العالمية الثانية، وأنه سيكون لديهم الوقت للتكيف.
تقول كاترينا فيليبينكو، مديرة أبحاث الغاز العالمية في Wood Mackenzie: "حتى لو انتهت الحرب غداً، ولو تغير النظام في روسيا- وعادت إلى إطار القانون الدولي- فقد قوضت روسيا ثقة الشركات والحكومات الأوروبية، وإعادة بناء تلك الثقة والعودة إلى أي شكل من زيادة شحنات الغاز ستستغرق وقتاً".
روسيا تطرق جميع الأبواب لبيع الغاز
حظرت بعض الدول مثل المملكة المتحدة ودول البلطيق الغاز الروسي، بما يشمل الغاز الطبيعي المسال، تماماً. وطالبت حكومات أخرى في المنطقة الشركات بتقليل الاعتماد عليه. لكن الحظر الشامل على تدفقات الغاز من روسيا كان حتى الآن غير مستساغ سياسياً في الاتحاد الأوروبي. ومع ذلك، أثرت السرعة التي تكيفت بها أسواق أوروبا الغربية مع خفض الغاز في خطوط الأنابيب الروسية على شركة غازبروم أكثر من غيرها. فقد تراجع إنتاجها بنسبة 20% عام 2022 إلى 412.6 مليار متر مكعب، وهو أدنى مستوى منذ 15 عاماً على الأقل. وانخفض صافي دخلها الخاص بالمساهمين بأكثر من 41% إلى 1.23 تريليون روبل.
وتُعرف تركيا عادةً بأنها من بين أكبر ثلاثة مشترين لغاز شركة غازبروم. إذ بلغت صادرات الغاز عبر خطوط الأنابيب الروسية إلى البلاد قرابة 27 مليار متر مكعب عام 2021، ارتفاعاً من 16.4 مليار عام 2020، وفقاً لأحدث بيانات شركة غازبروم.
وتسعى روسيا الآن إلى الاستفادة من تلك العلاقة والاستعانة بتركيا لنقل صادراتها إلى أوروبا. ورحب الرئيس رجب طيب أردوغان، الذي يقوم بدور الوساطة بين روسيا وأوكرانيا، بفكرة بوتين إنشاء مركز تجاري في تركيا، حيث يمكن تسويق غاز موسكو، لكن التفاصيل لا تزال مبهمة.
وشاركت شركة غازبروم بالفعل خططها لإنشاء هذا المركز مع أنقرة. وكثفت الشركة أيضاً محادثاتها مع بعض الجمهوريات السوفييتية السابقة. فوقعت عقد توريد مع أوزبكستان في يونيو/حزيران، وتناقش مع أذربيجان وتركمانستان فرص التعاون معها. لكن يبدو أن المحادثات مع كازاخستان قد أحرزت تقدماً أكبر بعد أن وقع الجانبان اتفاقية تعاون بداية عام 2023 يمكن أن تعزز واردات الغاز الروسي، ولكن سينتج عنها أيضاً بناء خطوط أنابيب جديدة لنقل الوقود إلى الصين.
وجميع هذه الخيارات- المركز التجاري في تركيا والأسواق الجديدة في آسيا الوسطى وخطوط الأنابيب الجديدة إلى الصين- تلزمها جهود سياسية كبيرة كي تتقدم، ما يترك لروسيا خيارات محدودة على المدى القصير بشأن ما عليها فعله بغازها الاحتياطي.
وتتخذ كل من هولندا وإسبانيا خطوات لحظر واردات الغاز الطبيعي المسال من روسيا، ولكن يستبعد أن تتوقف المنطقة ككل عن شراء هذا الوقود فائق البرودة من موسكو في أي وقت قريب.
وتتطلع موسكو إلى مضاعفة إنتاج الغاز الطبيعي المسال ثلاث مرات بحلول نهاية العقد، ويمكنها استغلال سعة خط الأنابيب الفائضة بعد انخفاض التدفقات إلى أوروبا لتحقيق هذا الهدف. وترغب شركة Novatek في ربط منشأة غاز طبيعي مسال مقترحة في مورمانسك بشبكة غاز غازبروم، في خطوة قد تسمح للشركة بتسييل الغاز الذي كان يضخ في السابق إلى أوروبا.
وكانت شركة MET International السويسرية تتاجر في الغاز الروسي عبر خطوط الأنابيب. وهي الآن، إلى جانب شركات أخرى، تعتمد على صفقات عالمية للغاز الطبيعي المسال لسد الفجوات في احتياجات الغاز بأوروبا، وهي مهمة وصفها جيورجي فارغا، الرئيس التنفيذي لشركة MET، بالـ"ضخمة".
قال فارغا: "نوع العلاقة مختلف، عليك فجأة أن تتواصل مع تجار عالميين، ومنشآت آسيوية، وشركات أمريكية وإفريقية. هذا تحول كبير لمشتري الطاقة في أنحاء أوروبا".
توفير الغاز في الداخل
كانت روسيا تعمل بالفعل على توسيع شبكة الغاز المحلية قبل اندلاع الحرب في أوكرانيا. وتعمل الحكومة على تسريع هذه العملية في أنحاء روسيا لتعزيز الطلب ودعم الإنتاج. وقال بوتين العام الماضي، إنه "لا بد أن يصل الغاز، سواء كان خط أنابيب أو سائلاً، إلى المستهلك". وهو يطمح إلى رفع معدل وصول السكان المحليين للوقود إلى 83% بحلول عام 2030 من 73% العام الماضي.
ولتحقيق ذلك، من الضروري توصيل الغاز إلى منازل مثل منزل ألكسندرا وأناتولي أليكوف، اللذين يعيشان في قرية بمنطقة لينينغراد. وفي يناير/كانون الثاني، استقبل الزوجان زيارة من ديمتري ميدفيديف، الرئيس الروسي السابق ونائب بوتين في مجلس الأمن الروسي. وأثناء تناول الشاي والكعك- الذي نقله التلفزيون الحكومي بحرص- كشف ميدفيديف عن سبب زيارته: وهو أن منزلهما انضم لتوه إلى شبكة الغاز، بعد 15 عاماً من بنائه.
وقال ميدفيديف لكاميرات التلفزيون: "رأينا الابتسامات ترتسم على وجوه الشخصين اللذين وصل إليهما الغاز". وأضاف: "يمكنكم (ملاحظة الفرق)، كما يقولون"، في سخرية واضحة من المنازل الأوروبية التي اُضطرت إلى استبدال الغاز الروسي. وبعيداً عن الدعاية، ستشعر روسيا وصناعة الغاز فيها، على الأغلب، بهذا "الفرق" لسنوات قادمة.