هل كان ممكناً أن يتمكن زعيم فاغنر يفغيني بريغوجين من الاستيلاء بطريقة ما على موسكو مطلع الأسبوع الماضي؟ يرجح الخبراء في العواصم الغربية أن الجواب لا، فهذا التمرد الاستثنائي الذي حدث يومي الجمعة والسبت الماضيين كان أبعد بكثير من محاولة انقلاب، وأقرب إلى استعراض مندفع خرج سريعاً عن السيطرة.
هل كان بإمكان بريغوجين الاستيلاء على موسكو فعلاً؟
تقول صحيفة The Guardian البريطانية إنه بالنظر إلى الأرقام التي شاركت في المسيرة العسكرية التي كانت منطلقة يوم السبت إلى موسكو، فأعلى التقديرات لأعداد المتمردين ليست قريبة بأي حال من الـ25 ألفاً التي ادعاها بريغوجين نفسه، وربما كانت أقرب إلى الـ4000 التي ذكرها معهد دراسة الحرب. وحتى هذا الرقم ليس سوى جزء صغير من إجمالي قوة فاغنر في أوكرانيا، التي تُقدر عموماً بـ15 ألفاً، أي بحجم فرقة جيش.
وربما بدت صفوف جنود فاغنر مخيفة إذا مررت بهم وهم في طريقهم إلى العاصمة الروسية، لكن موسكو هي ثاني أكبر مدن أوروبا، ويبلغ عدد سكانها حوالي 13 مليون نسمة. ورغم أن بريغوجين أحضر معه أنظمة الدفاع الجوي بانتسير، وأسقط ست مروحيات وعربة نقل في المعركة الوحيدة على الطريق السريع شمالاً، كانت أعداد الدروع الثقيلة والدبابات صغيرة (تسعة دبابات في الصف الأول، وفقاً لمدون عسكري روسي).
وفاغنر- جاء الاسم تيمناً بريتشارد فاغنر، الملحن المفضل لهتلر- في حقيقتها قوة مشاة خفيفة، ورغم أن مقاتليها المتمرسين من أقوى المقاتلين في روسيا، حيث ساعدوا في الاستيلاء على مدينة باخموت في أوكرانيا، استغرق الانتصار في تلك المدينة، التي كان عدد سكانها قبل الحرب 70 ألف نسمة، قرابة عام.
موسكو لم تكن مستعدة لتمرد فاغنر
ومن ناحية أخرى، يبدو جلياً أن الدولة الروسية لم تكن مستعدة بما يكفي، فلا يبدو أن جهاز المخابرات الروسي FSB، ولا أصدقاء رئيس مجموعة المرتزقة شكّوا بأن بريغوجين يخطط شيئاً، وإلا لكان الدفاع عن موسكو أفضل تنظيماً، ما لم يكن حتى العملاء السريون مرعوبين جداً من تحذير الرئيس فلاديمير بوتين.
بل وربما كانت لدى المخابرات الغربية فكرة أكبر عما سيحدث وفي وقت أبكر، إذ كشف مسؤولو الاستخبارات الأمريكية، بعد تمرد بريغوجين، أنهم حذروا كبار مسؤولي الإدارة يوم الأربعاء الأسبوع الماضي من أنه يفكر في نوع من التمرد على أمر مدعوم من بوتين، بإجبار فاغنر على الاندماج في وزارة الدفاع الروسية، والخضوع لها بحلول 1 يوليو/تموز.
ولم يتوفر في موسكو دفاع جاهز يوم السبت الماضي. وقال المدون العسكري الروسي ريبار إن وحدات الاحتياط كانت تُنقل بالطائرات إلى جميع أنحاء البلاد، وكانت وحدات أخرى تصل بالقطار من سان بطرسبرغ. ويقدر السير لورانس فريدمان، الأستاذ الفخري لدراسات الحرب في كينغز كوليدج لندن، في مدونة أن القوة الدفاعية كانت قريبة من قوة الحرس الوطني البالغ قوامه 10 آلاف فرد "ولكنها لم تكن بالضرورة مزودة بالقدرات أو الدوافع للمقاومة لفترة طويلة".
بريغوجين كان بإمكانه اختراق خطوط الدفاع الأولى
وكان الدفاع يُحشد على عجل على نهر أوكا، جنوب العاصمة، ونُشرت مقاطع فيديو تظهر أجزاء أخرى من الطريق السريع شمالاً، يحفرها مدنيون في الغالب. وقد أُرسل الطيران الروسي لمجابهة فاغنر، لأن هذا هو كل ما كان متاحاً، ويُعتقد أن بريغوجين كان بإمكانه اختراق خطوط الدفاع الأولى والوصول إلى الطريق الدائري الخارجي لموسكو.
وماذا بعد؟ حتى الآن، بعد أسبوع، ليس واضحاً في الدوائر الغربية إن كانت نية بريغوجين في الواقع هي إطاحة بوتين، وليس إطاحة منافسه، وزير الدفاع سيرغي شويغو، ورئيس الأركان فاليري غيراسيموف. وهذا هو شكل المحادثات المتوقعة بين كبار المسؤولين الروس وجهاً لوجه بعيداً عن الهواتف المحمولة.
لكن زعيم المتمردين اقترب من ذلك صباح السبت، فرداً على إدانة غاضبة من بوتين قال: "لن يسلم أحد من فاغنر نفسه ويعترف بأمر من الرئيس". ويبدو أن تفكير بريغوجين كان يتطور بسرعة، لأسباب ليس أقلها أن فاغنر قد سيطر بسهولة على مدينة روستوف، التي يبلغ عدد سكانها مليون نسمة، مساء اليوم السابق.
ومن الوارد أن تسقط العاصمة في أيدي أعداد صغيرة من الجنود، فقد استولت حركة طالبان على كابول بسهولة، في أغسطس/آب عام 2021، بعد فرار الرئيس أشرف غني. وغالباً ما يقرر الزخم في لحظة حاسمة معركة أو حرباً أو انقلاباً، لكن اللحظة الحاسمة هنا هي أنه بعد مغادرة بريغوجين لروستوف لم يكن لديه أي من هذه الأشكال السياسية، كما تقول المجلة الأمريكية.
وتَبرز إحدى التفاصيل عن فترة الثماني ساعات يوم السبت بين بداية مسيرة بريغوجين "من أجل العدالة" وتغير موقفه بالقرب من كراسنوي، على بعد 330 كيلومتراً جنوب موسكو، وهي غياب آخرين في المؤسسة الروسية يدعمونه علناً. ففي أحسن الأحوال، ربما كان يتمتع بدعم خفي من الجنرال سيرغي سوروفيكين، قائد القوات الجوية الروسية، المحتجز الآن. ولكن بعد أسبوع تقريباً، فحتى هذا ليس واضحاً.
مستقبل فاغنر
لكن الواضح أن سلطة بوتين قد تراجعت، والحقيقة أيضاً أن بريغوجين كان شخصية فريدة بين النخب الروسية، زعيماً شبه عسكري له صورة عامة شبه مستقلة. ويُرجح أن تُحلَّ شركة فاغنر في روسيا، ويذهب بضعة آلاف من مقاتليها إلى بيلاروسيا، فيما يرى الخبراء أن عملياتها الدولية في إفريقيا مفيدة جداً لموسكو ولا ينبغي حلها.
لم تكن قوات فاغنر في خط المواجهة في أوكرانيا وقت التمرد، ومن غير المرجح أن يكون غيابها هناك مفيداً لكييف، التي تكافح لإحراز تقدم في هجومها المضاد الصيفي، لكنّ جزءاً من الحروب فقط يحدَّد في ساحة المعركة نفسها، فالوحدة السياسية على الجبهة الداخلية مهمة أيضاً، وهذه المرة تماسكت النخب الروسية، لكن مسيرة بريغوجين والرد عليها في اللحظة الأخيرة يؤكد تنامي هشاشة الكرملين.