كان لتمرد فاغنر، على الأرجح، وقع الصاعقة في الجمهوريات السوفييتية السابقة في آسيا الوسطى والقوقاز، وهي المناطق التي خضعت للسيطرة الروسية منذ نحو قرنين أو أقل قليلاً، وظلت مواطن النفوذ الرئيسية لموسكو بعد سقوط الاتحاد السوفييتي، وكان جزء من هذا النفوذ منبعه هيبة بوتين الشخصية.
ستكون للأحداث التي جرت الجمعة 23 يونيو/حزيران، أصداء خارج روسيا أيضاً ولكن بالأكثر داخل الدول المجاورة، حسبما ورد في تقرير لمجلة Foreign Policy الأمريكية.
فهذه الدول عانت لقرون من هيمنة الجيش الروسي، وكان جزء من قوة النفط الروسي في هذه المنطقة أنها كانت تخشى بأسه، ولكن هذا البأس تبين أنه أقل شدة مما توقعته هذه الدول.
التغير بدأ بعد الغزو الروسي لأوكرانيا
فقبل ثورة فاغنر، أدى هجوم بوتين المدمر على أوكرانيا إلى فرض بعض تدابير إعادة تقييم نوايا وقوة روسيا، وذلك داخل دول مثل أرمينيا وأذربيجان وكازاخستان ومولدوفا وأوزبكستان وغيرها.
أغلب هذه الدول لن تؤيد الغزو الروسي لأوكرانيا حتى ولو على استحياء، كما حاولت المحافظة على علاقتها مع الغرب، وضمن ذلك مساعٍ لتصدير الطاقة بعيداً عن المسارات الروسية.
وإذا كانت الحرب قد كشفت نقاط الضعف في الجيش الروسي وفي إمكانية الاعتماد على روسيا كحليف؛ فإن التمرد كشف عن نقاط ضعف تخص بوتين نفسه.
ومن المفارقات أن أحداث الأيام الماضية جاءت كتذكير بطبيعة السلطة الشخصية للغاية في نظام بوتين، كما مثلت ضربةً قوية لتلك السلطة في الوقت ذاته.
ومن المؤكد أن خطاب بوتين المقتضب على نحوٍ غير مألوف في مساء الإثنين 26 يونيو/حزيران، لن يغير واقع الأمور، لأن الضرر قد وقع بالفعل. بينما جاء بيان الفيديو الخاص ببريغوجين في اليوم نفسه ليؤكد وجود طرف آخر على المسرح، الذي كان من المفترض أن يستقبل عرضاً منفرداً لبوتين. إذ تُعَدُّ السلطة شخصيةً وقائمة على الأداء بشدة في هذه المنظومة، ما يعني أن أي استعراض واضح للقوة بواسطة طرف آخر داخل المجتمع الروسي سيقوض تأثير تلك السلطة. ونكرر مرةً أخرى أن الأمر لم ينته بعد.
وليست تساؤلات الموجودين في محيط روسيا مُلحةً بقدر تساؤلات النخب الروسية، التي تحاول الإلمام بديناميات السلطة المتغيرة داخل بلادها. بينما يجب أن لا نتوقع تغييرات درامية على المدى القصير في السياسة الخارجية لجيران روسيا، سواءً في آسيا الوسطى أو جنوب القوقاز. ويرجع السبب جزئياً إلى أن التركيز على الدور الجيوسياسي لروسيا يُغفل حقيقة السياسات الشخصية، باعتبارها الأساس الذي اعتمدت عليه علاقات العديد من تلك الدول مع روسيا في عهد بوتين.
إليك طبيعة علاقة بوتين بحكام منطقتي آسيا الوسطى والقوقاز
فعلى مدار عقدين، مارس بوتين سياسة خارجية تعتمد على مصافحة الحكام المستبدين. ولم يكن بوتين مقرباً من هؤلاء الحكام على المستوى الشخصي مطلقاً. لكنه صاغ سياسة خارجية تقدم دعماً متبادلاً -وإن كان غير متكافئ- لأنظمة الاستبداد والفساد ذات الصلة في "الخارج القريب".
ولا يشجع بوتين من يصفهم التقرير بـ"المتوسلين المتفاخرين". حيث يرى في الديكتاتور البيلاروسي ألكساندر لوكاشينكو مجرد زعيمٍ فاشل، حتى وإن كان مفيداً له. كما رأى بوتين أن الرئيس الأوكراني السابق فيكتور يانوكوفيتش المقرب من موسكو، مجرد شخص مراوغ وضعيف. ولطالما كان فرض سيطرة المرء على دولته أحد الطرق المهمة لكسب احترام بوتين، بينما كان الضعف مدعاةً للاستهزاء دائماً.
ومن هذا المنطلق، سنجد أن أحداث الأسبوع الماضي تجعل المنطقة كحي يُهيمن عليه الرجال الأقوياء والعصابات، بينما يشهدون الكشف عن نقطة ضعف أحد قادة العصابات الكبار. ولن يشعر بقية أعضاء العصابة بالحماسة لرؤية سقوطه عن العرش، لكنهم يرصدون الموقف جيداً. وربما يُعيدون النظر للأمر بطريقة تختلف عن نظرتهم له بعد هجوم العام الماضي، حتى يعرفوا إلى أي مدى يمكنهم الاعتماد على بوتين، وإلى أي مدى سيكونون بمفردهم في حال اندلاع أزمة محلية. ولم تأتِ الأفكار هذه المرة مدفوعةً بعدوان بوتين على بلدٍ مجاور يحاول فرض سيادته، بل بسبب ضعف وهشاشة النظام الذي كشفه التمرد.
يُذكر أن زعماء الدول يتغيرون ببطء حتى في الأماكن التي لم تشهد تحولاً سياسياً كبيراً بعيداً عن فلك الكرملين. وربما يسأل أولئك الزعماء الجدد أنفسهم عن الدور الذي ستلعبه دبلوماسية المصافحة الشخصية مع بوتين في مستقبلهم الشخصي، ومنهم قاسم-جومارت توكاييف في كازاخستان، وشوكت ميرضيايف في أوزبكستان، وصدر جباروف في قرغيزستان. وقد يتذكر هؤلاء بمشاعر مختلطة كيف كان بوتين يتعامل بشيء من الازدراء المتعالي مع أولئك الذين يسمحون بتفاقم التحديات لسلطتهم الشخصية.
ويراقب رئيس الوزراء الأرميني نيكول باشينيان والرئيس الأذربيجاني إلهام علييف الوضع أيضاً، رغم أن مشكلات بوتين تعد تأكيداً لما يعرفونه أكثر من كونها أنباءً جديدة. ولا شك في أنّ تضاؤل الدور الروسي في السنوات الأخيرة كان من أكبر التحولات في سياسة الصراع بين دولتي القوقاز. فقبل الأسبوع الماضي، لم تكن لدى باشينيان أي آمال ساذجة في أن بوتين مهتم بمساعدة أرمينيا في حل خلافاتها الحدودية القائمة مع خصمتها. لكنه قد يشكك الآن في مدى فاعلية بوتين حتى ولو حاولت موسكو التدخل. ومن ناحيته، لطالما تمتع علييف بدرجة استقلال يفتقر إليها غيره من زعماء المنطقة، وهو استقلال مبني على ثروة الغاز والدعم التركي وعلاقته بالغرب وإسرائيل وسيطرته القوية على السلطة في بلاده. أي إن مشكلات بوتين ستؤكد إطلاق يد علييف بصورة أكبر.
وبالنسبة لجورجيا المجاورة، فمن المستبعد أن تساعد الأحداث الأخيرة في حل مشكلة التراجع الديمقراطي الذي شهدته البلاد في السنوات الماضية. وما تزال الأسئلة مطروحةً بشأن العلاقات الاقتصادية والسياسية الروسية مع رئيس الوزراء الجورجي السابق بدزينا إفنشفلي. لكن الشكوك بشأن روسيا اليوم -وليس بشأن العلاقات المذكورة- هي التي قد تضخم الخلاف السياسي الجورجي وتؤخر عودة المسار الديمقراطي.
هل تستفيد الصين من تراجع نفوذ روسيا بالمنطقة؟
وربما يميل الأمريكيون الذين يركزون على المنافسة مع الصين، إلى افتراض أن انتكاسة بوتين الأخيرة تفتح المجال أمام بكين، سواءً في وسط آسيا أو غيرها من المناطق. لكن النظرة شديدة الآلية للسياسات الإقليمية قد تُسفر عن إعداد تحليلات منقوصة في هذا الصدد. فأولاً، تُعتبر الصين قوة عالمية بالفعل ولديها علاقات اقتصادية وسياسية كبيرة مع الدول الموجودة في محيط روسيا. أما السبب الآخر الذي يرجح استقبال انتكاسة بوتين بمشاعر متضاربة في بكين، فهو أن الزعيم الصيني شي جينبينغ قد راهن على بوتين. وسيكون من الصعب تغيير هذا الرهان بسهولة، بغض النظر عن تقييم شي الحالي لمدى حكمة رهانه. ويُمكن القول إنّ ضعف بوتين يمثل صداعاً في رأس الصين بقدر ما يمثل فرصة، خاصةً إذا أدى ذلك الضعف إلى زعزعة استقرار روسيا. وربما يختلف كلا البلدين في ما بينهما، لكن الرئيس الصيني لا يريد لروسيا أن تكشف -أمام أنظار العالم- مخاطر بناء نظام استبدادي مركزي يعتمد على السلطة الشخصية للغاية لحاكم مستبد.
ولن تكون الدول المجاورة لروسيا هي الوحيدة التي ستحاول فهم تفاصيل حادثة بريغوجين خلال الأسابيع والأشهر المقبلة. إذ استهزأ العديد من الأمريكيين والأوروبيين بأي فكرة تقترح وجود صدوع في سلطة بوتين، أو أن نظامه قد ينهار. بينما يجب على هؤلاء اليوم أن يقروا بأن التمرد تركه في مظهر أضعف وترك نظامه السياسي في حالةٍ أكثر هشاشة، على الرغم من قضائه الظاهري على الخطر القريب. ويجب أن يقضي المخططون الاستراتيجيون داخل العواصم الغربية مزيداً من الوقت في دراسة السيناريوهات المحتملة لتعثر سيطرة بوتين.
ونستطيع القول إجمالاً إن أحداث الأيام القليلة الماضية تأتي كتذكرةٍ بالدرس القائل إن جميع الأنظمة الاستبدادية تظل مستقرة إلى أن تفقد استقرارها على حين غرة. ولم تكن أحداث الأسبوع الماضي في روسيا ثورةً أو حرباً أهلية كما اقترح البعض، بل ما يزال الوقت مبكراً للغاية على معرفة أثرها النهائي، سواءً في روسيا أو داخل المنطقة وخارجها.