صعد مصطفى كامل السيد، أستاذ العلوم السياسية وأحد منتقدي النظام المصري، إلى المنصة في قاعة مزدحمة بالقاهرة وانتقد الطريقة التي قيَّدت بها الأجهزة الأمنية في البلاد الحرية الأكاديمية، مثل هذه الانتقادات يمكن عادة أن تودي بصاحبها للمعتقل، ولكن الرجل نجا لأنه كان يلقيها في الحوار الوطني الذي أطلقه الرئيس السيسي والذي وفر منصة نادرة من الحرية في البلاد، ولكن هناك خلاف بين الحقوقيين والمعارضة بشأن جدوى المشاركة بها.
فهذا اللقاء كان جزءاً من "حوار وطني" أطلقه السيسي نفسه.
وقال السيد: "يُنظَر إلى الجامعات باعتبارها تهديداً للأمن القومي". واشتكى من عدم قدرة المحاضرين على السفر إلى الخارج للمشاركة بالمؤتمرات أو دعوة متحدثين إلى حرم الجامعات دون عملية مرهقة للحصول على موافقة. وقال متحدث آخر إنَّه يجري منع أبحاث العلوم الاجتماعية حول القضايا الداخلية بصفة متكررة.
نادراً ما تُسمَع مثل هذه الانتقادات العلنية الصريحة للقبضة القوية للأجهزة الأمنية في مصر منذ أوصل الانقلاب المدعوم جماهيرياً قائد الجيش السابق عبد الفتاح السيسي إلى الحكم قبل عقد من الزمن، حسبما ورد في تقرير لصحيفة The Financial Times البريطانية.
لكنَّ جلسات الحوار الوطني توفر مستوى لافتاً من الحرية مقارنة بما كان سائداً خلال السنوات الماضية.
إطلاق سراح معتقلين.. والحوار الوطني وفر فرصة نادرة للتعبير حتى لسجناء سابقين
وعُرِضَ على شخصيات المعارضة، ونشطاء حقوق الإنسان، ومنتقدي النظام –بمن في ذلك بعض ممَّن سُجِنوا أو يواجهون ملاحقات قضائية قائمة- للمرة الأولى منتدى للتعبير عن آرائهم والضغط من أجل الإصلاح.
ومنذ بدء الحوار في مايو/أيار الماضي، تُعقَد الجلسات، المفتوحة أمام الصحافة، في مركز مؤتمرات حكومي بالقاهرة ثلاثة أيام أسبوعياً. وأفرج السيسي عن أكثر من ألف معتقل سياسي منذ الإعلان عن خطة المبادرة العام الماضي كإجراء لبناء الثقة.
وقليلون هم مَن يعتقدون أنَّ هذه الخطوة ستُحوِّل الدولة الاستبدادية في مصر إلى ديمقراطية بعد 10 سنوات من القمع الشديد للمعارضة والنقاش السياسي. وينظر بعض نشطاء حقوق الإنسان إليها باعتبارها محاولة سخيفة تهدف لتلميع صورة نظام قمعي قبل انتخابات العام المقبل.
لكنَّ كثيرين في المعارضة العلمانية يأملون أن تجلب العملية تنازلات وتُوفِّر نافذة صغيرة لأصوات المعارضة في وقتٍ تسوده أزمة اقتصادية طاحنة وتقترب فيه الانتخابات.
وقال محمد أنور السادات، النائب السابق بالبرلمان وعضو تحالف "الحركة المدنية الديمقراطية" المعارض الذي يشارك في الحوار الوطني: "لا شك أنَّ الأزمة الاقتصادية والضغوط الأخرى جعلت النظام يشعر أنَّ عليه الانفتاح والسماح للناس بالحديث".
أبرز المكاسب إطلاق سراح ألف من السجناء
وأضاف: "لا أعتقد أنَّ هذا سيصبح أسلوب حياة. لكن إذا ما أخرج الحوار نتائج مثل الإفراج عن السجناء أو قانوناً لحرية المعلومات، سيكون ذلك مفيداً".
كان السيسي قد أطاح في عام 2013، وهو حينئذ وزير الدفاع، بالرئيس الإسلامي المنتخب محمد مرسي، مُنهياً بذلك تجربة قصيرة وفوضوية مع الديمقراطية بدأت بثورة البلاد عام 2011 ضد الحكم الاستبدادي.
وهو يشرف منذ ذلك الحين على أقسى عمليات القمع بحق المعارضين في تاريخ مصر الحديث. كان الهدف الرئيسي هو جماعة الإخوان المسلمين، التي فازت بالانتخابات بعد ثورة 2011. لكنَّ منتقدي النظام من كل الأطياف السياسية تعرَّضوا للاعتقال أيضاً. وتقلَّص المجال أمام المعارضين بصورة كبيرة، فأصبحت الاحتجاجات مُقيَّدة، وتخضع معظم المؤسسات الإعلامية لسيطرة الأجهزة الأمنية.
في الوقت نفسه، تعاني الحكومة من أزمة في العملة الأجنبية بعدما أدَّى غزو روسيا الشامل لأوكرانيا في فبراير/شباط 2022 إلى انكشاف اقتصاد البلاد القائم على الديون مع فرار المستثمرين إلى الملاذات الآمنة.
وأدَّت سلسلة من التخفيضات إلى خفض قيمة الجنيه المصري إلى النصف مقابل الدولار، في حين وصل التضخم إلى 59% في مايو/أيار الماضي بحسب الإحصاءات الرسمية. وقد زاد هذا من معاناة السكان الذين يُصنِّف البنك الدولي 60 % منهم على الأقل باعتبارهم فقراء أو مُعرَّضين للخطر اقتصادياً.
السيسي يرى أن الأولوية كانت لبقاء الدولة
وقال ضياء رشوان، مُنسِّق الحوار الوطني المُعيَّن من جانب الحكومة، في مؤتمر صحفي عقب انطلاق المبادرة في مايو/أيار الماضي، إنَّ السيسي مقتنع بأنَّ "الإصلاح السياسي في مصر متأخر، لأنَّ الأولوية في السنوات الماضية كانت لضمان بقاء الدولة".
وقال الرئيس في الأيام الأخيرة إنَّه سيُنشئ مفوضية لمنع التمييز ويصدر قانوناً لحرية تداول المعلومات استجابةً للحوار. وتعهَّد أيضاً بالموافقة على توصيات الحوار التي تقع ضمن صلاحياته "بصورة غير مشروطة".
لكنَّ التوقعات من العملية تبقى محدودة، لأنَّ السلطات وضعت قواعد تمنع مناقشة القضايا الكبرى مثل الدستور والسياسة الخارجية والأمن القومي. والحكومة نفسها غير مُمثَّلة في المباحثات.
إنه أقرب لجلسات استماع منه لحوار وطني حقيقي
قال حسام بهجت، مدير المبادرة المصرية للحقوق الشخصية: "إنَّهم غير حاضرين حتى لا يتحدثوا أو يردوا. هذا ليس حواراً. إن كنت كريماً، يمكن أن تصفه بأنَّه سلسلة من جلسات الاستماع العامة". وأضاف أنَّ عدد السجناء المُفرَج عنهم "يتقزَّم" بفعل الاعتقالات الجديدة منذ بدء التحضيرات للحوار.
قَبِلَ بهجت دعوة للمشاركة في المباحثات، ويحضر العديد من موظفيه الجلسات. وتعرَّض قراره بالموافقة للهجوم من جانب البعض داخل حركة حقوق الإنسان، الذين يؤمنون بأنَّه لا يجب أن يكون هنالك حوار قبل الإفراج عن كافة المعتقلين السياسيين.
يرفض بهجت الانتقادات، وقال: "نحن منظمة مناصرة، وحين نُدعى لتقديم تقييماتنا أو عرض مقترحات للإصلاح، نشارك دوماً دون أوهام أو توقعات". وأضاف: "يبقى أي مؤتمر لمناقشة القضايا المحلية، حتى لو كان محدوداً، فرصة. ومن الأفضل أن تكون في حالة حوار بدلاً من حالة قمع".
ويرى أستاذ العلوم السياسية مصطفى كامل السيد أنَّه ليس من الممكن إلا اتخاذ خطوات صغيرة على أي حال. وأضاف: "النظام المصري سلطوي بقوة وبقسوة. وإذا ما أمكننا تحريكه ليصبح نظاماً سلطوياً أقل قسوة، ستكون تلك خطوة إلى الأمام".