يبدو أن الديمقراطية التونسية قد دخلت في محنة طويلة الأمد، فالرئيس قيس سعيد رغم تراجع شعبيته، فإنه ماضٍ في ترسيخ حكمه الاستبدادي في ظل انقسام المعارضة، وشماتة بعضها في حزب النهضة، بينما الغرب أعينه فقط على مسألة وقف الهجرة من تونس.
يقول دانيال برومبرغ مدير دراسات الديمقراطية والحوكمة في جامعة جورج تاون الأمريكية في مقال له بموقع Responsible Statecraft الأمريكي إنه توصل إلى استنتاج واحد من رحلته الأخيرة إلى تونس، هو أن إعادة إحياء الديمقراطية في البلاد سوف تتطلب كفاحاً طويل الأجل.
ويقول: "من المؤكد أن أي عدد من الأحداث المفاجئة قد تهز نظام الرئيس قيس سعيد. لكن الاحتمال الأرجح أنه سوف يعزز سلطته على المديين القريب والمتوسط، في جهودٍ قد تؤدي إلى "إعادة انتخابه" في 2024. وسوف يفعل ذلك على الأرجح بدون مواجهة معارضة كبيرة.
شعبية قيس سعيد تراجعت ولكن الاتحاد العام للشغل لن يستطيع تحديه والغرب عينه على المهاجرين
تراجعت شعبية سعيد لفترة، لكنه يحتفظ بدعم أكثر من أي قائد سياسي مخضرم آخر. فضلاً عن أن الطبقة المتوسط الحضرية والاتحاد العام التونسي للشغل، الذي أيد قرارات الرئيس ثم عارضها، لا يبدو أي منهما مستعداً لصدامٍ كاملٍ مع الرئيس.
يأتي الموقف الجيوسياسي أيضاً في صالح سعيد. لم يطالب القادة الأوروبيون ومسؤولو الولايات المتحدة بأن تأتي الإصلاحات الاقتصادية مصحوبة بأي نوع من تخفيف الضغط السياسي. وبالفعل، وفقاً لما أشارت إليه رئيسة الوزراء الإيطالية جورجيا ميلوني في زيارتها الأخيرة إلى تونس، فإن الهدف من اتفاقية المليار دولار التي عرضها الاتحاد الأوروبي على تونس، هو المساعدة في وقف تدفق اللاجئين إلى أوروبا. وفي نهاية المطاف، أصلح سعيد العلاقات مع الجزائر جنباً إلى جنب مع اتفاقية لمواصلة تزويد تونس بالغاز الطبيعي.
يعلم وزراء سعيد بالتأكيد أن الدعم لن ينقذهم من احتمالية التخلف عن سداد الديون الخارجية الضخمة المستحقة على تونس، التي تعد احتمالية حقيقية للغاية، وهي نقطة تؤكد عليها تقارير تفيد بأن الحكومة تبتكر مقترحاً بديلاً لصندوق النقد الدولي. ومع ذلك، لا يُرجح أن يفرض سعيد تدابير تقشف من شأنها أن تستثير غضب المجتمعات المهمّشة، التي يرى شبابها الساخط أن الاعتقالات غير القانونية ضد 30 قائداً سياسياً ما هي إلا انتقام مستحق من النخبة السياسية التي يدعي سعيد أنها خانت البلاد.
المعارضة العلمانية شامتة في حركة النهضة
في قلب نظريات المؤامرة التي يسوقها سعيد وحلفاؤه تكمن فكرة واحدة، وهي تحديداً أن عصابة النخبة الفاسدة "سرقت" ثورة البلاد التي اندلعت ما بين عامي 2010 و2011. يتردد صدى هذه الفكرة ليس فقط مع قاعدته من الشباب الساخطين، لكنها تجد أيضاً نوعاً من الصدى غير المباشر في دوائر النخبة. برغم استنكار (وإن كان استنكاراً صامتاً في كثير من الأحيان) هجوم سعيد على الحريات السياسية، يوجه كثير من المثقفين والمهنيين ورجال الأعمال اللوم إلى النخبة السياسية التونسية، ليس فقط بسبب الفشل في معالجة المشكلات السياسية والاجتماعية الهائلة التي تواجهها البلاد، بل بمنطقٍ أكثر جوهرية، بسبب فشلهم في بناء جسر بين برلمان 2014 والمجتمع في العموم.
ولَّدت هذه الرؤية شعور ازدواجية استسلامية بين الطبقة المتوسطة التي خرجت إلى شوارع تونس في 2011 للضغط من أجل ديمقراطية تنافسية. مع أنهم غير سعداء بالقمع الذي يمارسه سعيد، فإن كثيراً من المهنيين وقادة الأعمال غير مستعدين للخروج بحشودٍ لدعم المحتجين، الذين احتشدوا على مدى الأشهر القليلة الماضية بصورة منتظمة في شارع الحبيب بورقيبة في العاصمة تونس للمطالبة بإطلاق سراح النشطاء السياسيين.
يعكس هذا التردد عداءً عميقاً تجاه حزب النهضة الإسلامي، لا سيما تجاه قائده المعتقل الآن راشد الغنوشي، الذي يجادل البعض بأنه حالياً ينال عقابه. (دون توضيح ما فعل الرجل تحديداً الذي تمسك دوماً بالديمقراطية والشراكة مع المختلفين معه، وتنازل حزبه عن السيطرة أحياناً رغم أنه كان معه الأغلبية).
يقول الباحث الأمريكي: "الفكرة التي تقول (ما تزرعه تحصده) هي فكرة يسمعها المرء بين الحين والآخر. أنعش محام ناشط، كانت تجمعه علاقات قريبة في حزب النهضة، ذاكرة كاتب هذا المقال بأنه في عام 2012، أقال وزير العدل المحسوب على حزب النهضة 75 قاضياً حينها، وبرر قراره باتهامه إياهم بـ "الفساد". ولذلك فإن استخدام الرئيس سعيد نفس العذر عندما أقال 75 قاضياً في يونيو/حزيران 2022، يغذي وجهة نظر واسعة الانتشار تفيد بأن هجوم النهضة على القضاء خلق سابقة خطيرة فتحت الباب في نهاية المطاف أمام سياسات سعيد".
وهذا الحكم اللاذع لا يعبر عنه خصوم النهضة ذوو الميول العلمانية وحسب، بل أيضاً النشطاء الذين كانوا في الماضي أعضاء في الحزب.
تأتي هذه الآراء القاسية بالتوازي مع حنين متزايد لمشروع التحديث الذي قاده الرئيس التونسي الراحل الحبيب بورقيبة في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي. تحدث سائق تاكسي تونسي مع كاتب هذا المقال حديثاً طويلاً حول قيادة بورقيبة "الشجاعة" داخلياً وخارجياً.
نجد التأملات في إرث بورقيبة بين المثقفين والكتاب والفقهاء القانونيين في مجالات عدة، مثل مؤتمر دولي عُقد في تونس مطلع يونيو/حزيران. امتدح كثيرون من الحضور ما ارتأوا أنه جهود بورقيبة لتأسيس دولة متجذرة في مبادئ الهوية القومية التونسية والوطنية، بدلاً من الدين. ويزعم هؤلاء بأن مشروع بناء الدولة الحديث هذا، تقلص تقلصاً ممنهجاً عن طريق قادة النهضة، متناسين أن في معظم سنوات الفترة الماضية كان الرئيس قايد السبسي هو الذي يحكم البلاد هو من في الأصل من نخبة بورقيبة وزين العابدين بن علي، ورؤساء الوزراء أغلبهم كانوا من العلمانيين.
يقول كاتب المقال: "قد تكون هذه الاتهامات الواسعة مجحفة وبدون أساس. من المؤكد أن الكثير من اللوم يستحق أن يوجه إلى الكثير من القوانين والتسويات التي جرى التوصل إليها في أعقاب انتخابات 2014، ليس أقلها قانون مكافحة الإرهاب لعام 2015. قدم هذا القانون مادة قانونية إلى جهود سعيد الرامية لإسكات قادة النهضة. لكن تصاريف القدر التي انطوت على هذه المفارقة لا يمكن أن تُلقى هكذا عند عتبة حزب النهضة فحسب، خاصة أن أخطاء الحزب ليس أكثر أو أقل من أخطاء القوى السياسية الأخرى التي شاركتهم في الحكم (وأغلبها علمانية)".
الرئيس يغازل العلمانيين بمحاربة النهضة ويتبنى خطاباً محافظاً
من المفارقات أنه في حين أن جهود سعيد لإسكات النهضة ضمنت له قدراً من الدعم الضمني من التونسيين ذوي التوجهات العلمانية، فإن الرئيس التونسي يستدعي بصفة منتظمة أفكاراً ورموزاً إسلامية للمحافظة على قاعدته.
يثير نجاحه الواضح في التلاعب بصراعات الهوية تساؤلاً أساسياً: هل تؤدي محاولة سعيد لفرض رؤية استبدادية شعبوية في نهاية المطاف إلى استنهاض النشطاء السياسيين الجدد والمخضرمين لتشكيل تحالف سياسي قوي يمر عبر الانقسام الأيديولوجي بطرق ربما تستحوذ على مخيلة شباب تونس المحبط؟
توجد العديد من العوائق أمام خلق هذه النوعية من الوحدة، وأهمها هو شعور متزايد بالخوف من مصير حقوق الإنسان الأساسية.
في بلد صغير يستخدم كثيرون للغاية منه موقع فيسبوك، تبقى مكافحة هذه المشكلة معركة شاقة. ففي نهاية المطاف، يستخدم النشطاء نفس المنصات التي تُستخدم لتخويف نقاد الرئيس. فضلاً عن أنهم يواجهون احتمالية حقيقية للغاية تتمثل في استخدام الحكومة بعض القوانين التي استدعتها ضد القادة السياسيين، وهذه المرة لإسكات النشطاء على الإنترنت.
الرئيس يطالب بالمساعدات الدولية وهكذا ردت عليه الصين
بعيداً عن الساحة الداخلية، تتمثل إحدى الموضوعات التي تشغل بال كثير من التونسيين، في التضاريس الجيوسياسية المتقلبة للمنطقة. فبينما كان سعيد يسرع جهوده لتخويف خصومه الواقعيين والمتخيلين، حاول كذلك التشكيك في الانتقادات الدولية الموجهة إلى تدابيره الاستبدادية عن طريق العزف على أوتار فكرة سيادة الدولة والسيادة الوطنية. في الوقت ذاته، حاول دعم نظامه عن طريق السعي وراء الحصول على الدعم المالي والسياسي من القوى الإقليمية والعالمية بطرق أثارت الاستغراب. وبالفعل، سارع التونسيون بلفت الانتباه (وأحياناً بحسٍ ساخرٍ) إلى أن الرئيس في حين أنه يرفض "الإملاءات" الخارجية، تشير أفعاله إلى أنه يسعد تماماً بعقد صفقات مع القوى الأجنبية ما دامت هذه التسويات سوف تعزز سلطته على الجبهة الداخلية.
فالرئيس الذي يستحضر ثيمات القومية العربية يتفاوض مع المسؤولين الإيطاليين والفرنسيين لتهدئة مخاوفهم بشأن اللاجئين، هو في ذاته موضوع الكثير من التعليقات الساخرة. وبالمثل، أثيرت الشكوك بسبب دعوة الرئيس إلى توسيع العلاقات الدبلوماسية والاقتصادية مع الصين. صحيحٌ أن تواصله مع الصين يُفترض أنه مُصَمَّمٌ لتشتيت الضغط الغربي الذي يستهدف الإصلاح الاقتصادي، لكن سفير الصين أكد مؤخراً على موقف حكومة بلاده الذي يقول إن تونس يجب عليها أن توقع على اتفاق صندوق النقد الدولي الذي رفضه سعيد أكثر من مرة. هذه التصريحات أثارت موجة سخرية هادئة بين المحللين التونسيين، حول طبيعة وحدود "السيادة" التونسية.
كذلك يُعرّف المنطق الصلب للسياسة الواقعية النهج العام الذي تنتهجه إدارة بايدن مع تونس. ففي حين أن المخاوف المتزايدة بشأن انتزاع سعيد للسلطة في تونس قد أُثيرت داخل الكونغرس، ثمة القليل من التوقعات بأن البيت الأبيض مستعد لإعطاء أولوية إلى قضية الديمقراطية في علاقته مع حكومة سعيد.
السيناريو الخطير احتمال وقوع انفجار اجتماعي خطير
طرح العديد من خبراء منظمات المساعدة الديمقراطية الأمريكية المستقرة في تونس، تقييماً مماثلاً حول سياسة الولايات المتحدة تجاه الشرق الأوسط. ويبدو هؤلاء غير سعداء بكل وضوح من إخفاق الإدارة في إبداء موقف واضح ومتسق يعبر عن معارضة تدابير سعيد القمعية. ويجادلون في الوقت ذاته بأنه في ظل غياب أية إشارة لوجود حركة شعبية مستدامة -وبالنظر إلى الانقسامات الدائمة بين النخبة السياسية لتونس- فإن أية مساعدة ديمقراطية أمريكية يجب أن تتكيف مع الحقائق الحالية، حتى وإن كانت صعبة. وليس تحريك بؤرة هذا التركيز البراغماتي إلا نابعاً من قناعة بأن إحياء الديمقراطية في تونس يتطلب استراتيجية طويلة الأجل، تعمل عبر المؤسسات والقوى السياسية الناشئة، بدلاً من العمل ضدها.
ولا يمكن لأي نظرة متوسطة الأجل أو طويلة الأجل كهذه، أن تتجاهل احتمالية وقوع انفجار سياسي اجتماعي في تونس في أي وقت، وهي احتمالية واقعية جداً. إذا حدث انفجار واستجابت الشرطة (والجيش على وجه الخصوص) بالقوة الفتاكة، فإن توازن القوى السياسي والاجتماعي محلياً، الذي أبقى حتى الآن على محاولة الرئيس لإعادة صياغة النظام السياسي، قد يُعرَقل، بل قد يُقلب هذا التوازن رأساً على عقب. ويمكن لمثل هذه التطورات الدراماتيكية أن تضع الجيش في موقف حساس، بالنظر إلى الفكرة التي لا تزال تمثل قناعة منتشرة بأن الجيش لا يزال المؤسسة السياسية الوطنية الأكثر موثوقية.