"الجيش الروسي ثاني أكبر جيش في روسيا"، بهذه الكلمات سخر معلقون غربيون من مشهد تقدم قوات فاغنر نحو موسكو الذي يبدو أنه جزء من فيلم أمريكي رديء، حيث اقتربت من موسكو دون أن تلقى مقاومة من الجيش الروسي (ثاني أقوى جيش في العالم)، رغم أن موسكو سبق أن دمرت طموح هتلر ونابليون بجيشيهما الهائلين، فكيف حدث ذلك وما هو عدد قوات فاغنر، ونوعية أسلحتها؟
فلماذا لم نشهد أي محاولة من قبل الجيش الروسي لوقف تقدم قوات فاغنر التي وصلت إلى مسافة 200 كليومتر من العاصمة الروسية، حسب تصريحات يفغيني بريغوجين، مالك ومؤسسة شركة فاغنر العسكرية نفسه.
قوات الشرطة والشيشان تدافع عن موسكو ومزاعم بأن بوتين هرب منها
وخلال تقدمه السريع والمذهل نحو موسكو، زعم يفغيني بريغوجين أن ما فعله لم يكن انقلاباً بل "مسيرة عدالة"، بسبب مؤامرات وزير الدفاع الروسي سيرغي شويغو ورئيس الأركان فاليري غيراسيموف بحق قواته، بينما وصف المسؤولون الروس تصرفات بريغوزين بأنها "انقلاب منظم" قبل أن يتم إنهاء الأزمة.
إذا كان تراجع مؤسس فاغنر عن التقدم نحو موسكو بعد أن أصبح على بعد مئتي كيلومتر، يعد لغزاً كبيراً، فإن اللغز الأكبر، هو كيف سيطرت قوات فاغنر على موقع القيادة الروسية الجنوبية التي تدير الحرب في أوكرانيا في روستوف، ثم توغلت لمسافة تقدر بنحو 800 كيلومتر، دون أن تريق قطرة دم واحدة، حسب قول يفغيني بريغوجين، أو بمعنى آخر دون أن تلقى مقاومة تذكر من الجيش الروسي العظيم.
ورغم أن بعض التقارير تفيد بأن قوات فاغنر تعرضت لإطلاق نار من قِبل مروحيات روسية، التي تقول شركة المرتزقة، إنها أسقطتها.
لكن في المجمل توغلت هذه القوات داخل روسيا دون مقاومة تذكر، فيما أفادت تقارير بأن قوات الشرطة والجيش نصبت حول موسكو المتاريس والسواتر الترابية لحمايتها من قِبل قوات فاغنر، كما أرسل رئيس الشيشان رمضان قديروف ثلاثة آلاف من قواته للتصدي لفاغنر.
وزعمت وسائل إعلام غربية أنه خلال زحف فاغنر نحو موسكو، يوم السبت، أثارت مغادرة الطائرة الرئاسية لبوتين من موسكو شائعات بأنه فر من العاصمة الروسية مع تقدم قوات المرتزقة التابعة لمجموعة فاغنر.
انتهت الأزمة عبر وساطة من حليف بوتين (يوصف بالغرب بتابعه) رئيس بيلاروسيا ألكسندر لوكاشينكو والتي أفضت لذهاب بريغوجين لمينسك، مع إعلان الحكومة الروسية منح إعفاء لمقاتلي فاغنر الذين شاركوا في الزحف من المحاكمة، في حين أن أولئك الذين لم ينضموا سيعرض عليهم عقوداً من قِبل وزارة الدفاع.
ليس من الواضح ما إذا كان أي مقاتلي فاغنر سيلحقون بقائدهم في بيلاروسيا، كما أفادت وسائل إعلام روسية بأن القضية الجنائية ضد بريغوجين لا تزال مفتوحة، كما قال النائب الروسي أندريه غوروليوف، أحد داعمي الكرملين البارزين، يوم الأحد 25 يونيو/حزيران 2023، إنه "لا يوجد خيار" إلا إعدام بريغوجين وشخصية بارزة أخرى من "فاغنر".
وقال وزير الخارجية الأمريكية أنتوني بلينكين إن الأزمة الحالية في روسيا هي "قصة ما زالت تتكشف خباياها"، وأضاف: "لم نرَ الفصل الأخير".
تعني نتيجة الأزمة سحب بعض أفضل القوات الروسية في أوكرانيا من ساحة المعركة وهي قوات فاغنر التابعة لبريغوجين والقوات الشيشانية التي تم إرسالها للتصدي له.
إليك قدرات الجيش الروسي ثاني أقوى جيش في العالم مقابل عدد قوات فاغنر
قبل الحرب الأوكرانية كان عدد قوات الجيش الروسية الإجمالية أكثر من مليون ومئة ألف جندي بما يجعله الجيش الخامس في العالم من حيث العدد، وهو عدد أكبر من عدد الجيش الأمريكي إذا وضع في الاعتبار أن عدد سكان الولايات المتحدة أكثر من ضعف سكان روسيا، بينما يبلغ الجيش الأمريكي نحو 1.4 مليون جندي.
من الصعب معرفة عدد الجيش الروسي حالياً، ولكن روسيا استدعت نحو ثلاث مئة ألف جندي من الاحتياط في التعبئة الجزئية التي أجرتها بسبب حرب أوكرانيا، بينما تقول المصادر الغربية إن الروس فقدوا نحو مئة ألف قتيل في أوكرانيا بينهم أعداد كبيرة من ميليشيات فاغنر قد تصل لأكثر من 20 ألفاً منهم.
قد يعني ذلك أن عدد الجيش الروسي يبلغ نحو 1.4 مليون جندي (قريب من الجيش الأمريكي)، بينما عدد قوات فاغنر نحو 25 ألف مقاتل لقوات فاغنر التي زحفت نحو موسكو، حسب تصريحات بريغوجين نفسه، وهي أعداد تصل إلى 30 أو 25 ألفاً وفقاً لأقصى تقديرات، فيما تفيد تقديرات غربية صدرت مؤخراً بأن عدد قوات فاغنر نحو 8 آلاف مقاتل فقط.
ولكن من حيث الأسلحة والقدرات، يوصف الجيش الروسي بأنه ثاني أقوى جيش في العالم.
وكانت روسيا قبل الحرب تمتلك نحو 17 % من الدبابات في العالم بما يقدر بأكثر من 12 ألف دبابة محتلة المركز الأول عالمياً بلا منازع.
ولدى روسيا أسطول ضخم يضم مئات من المقاتلات منها 229 طائرة سوخوي 27 العريقة، ومتغيرات أحدث مها تشمل 111 من طائرات سوخوي 30 الروسية الشهيرة التي تقارَن بالـ"إف 15 سترايك إيجل" الأمريكية، كما تمتلك موسكو 92 من النسخة الأحدث من هذه العائلة وهي المقاتلة سوخوي 35، إضافة إلى 124 من المقاتلة القاذفة سوخوي 34 المطورة عن الأصل نفسه، ونحو 200 طائرة مقاتلة من طراز ميغ 29.
إضافة إلى عدد محدود من مقاتلات شبحية من طراز سوخوي 57 الشبحية من الجيل الخامس التي بدأت تدخل الخدمة بشكل محدود.
كما أن روسيا لديها بضع مئات من القاذفات الاستراتيجية، منها قاذفات توبيولوف 22 إم، وتوبيولوف 95 (مناظرة للقاذفة الأمريكية الشهيرة بي 52)، وتوبيولوف 160 الأسرع من الصوت (المنافسة للقاذفة الأمريكية بي 1 بي)، وكلها قاذقات ثقيلة بعيدة المدى قادرة على إطلاق صواريخ كروز، وحمل أسلحة تقليدية ضخمة وكذلك أسلحة نووية، ومئات من القاذفات المتوسطة سوخوي 24، وقاذفات الدعم القريب سوخوي 25.
ولدى روسيا أكثر من ألف من المروحية الشهيرة متعددة المهام ميل مي 17/8، ونحو 109 مروحيات من طراز كيه إيه 52، و108 من طراز ميل مي 28، وكلتاهما تعد منافساً للمروحية الأمريكية الهجومية الشهيرة أباتشي، و329 من المروحية الهجومية الشهيرة ميل مي 24 وهي قديمة نسبياً، ولكن مشهود لها بالكفاءة.
الأهم لدى روسيا أكبر سلاح مدفعية في العالم، وأنظمة صواريخ أرض- أرض قصيرة المدى مؤهلة للاستخدام في المعارض، بعضها استراتيجي مثل صواريخ إسكندر الشهيرة، إضافة لإعداد هائلة من المدفعية الصاروخية.
فلماذا لم تستخدم هذه الأسلحة وهذه الحشود من الجنود، رغم أن عدد قوات فاغنر يقدر بنحو 30 أو 35 ألف مقاتل في أعلى تقدير؟
أكبر تهديد لحكم بوتين، ويبدو أنه كان مبيّت النية
كانت مسيرة بريغوجين هي المحاولة الأكثر جرأة ضد بوتين خلال السنوات العشرين التي قضاها في السلطة، وتذكر بمحاولة الانقلاب التي حدثت في نهاية العهد السوفييتي ضد ميخائيل غورباتشوف زعيم البلاد آنذاك والتي أفضت لتفكيك الإمبراطورية السوفييتية لـ15 جمهورية، كما هي تذكر بالفوضى التي حدثت في نهاية الحرب العالمية الأولى والتي أدت للثورة البلشفية، والحرب الأهلية الروسية التي استمرت لعشرينات القرن العشرين وأدت لمجاعات ومذابح مروعة.
بينما يقول بريغوجين إن تحركه جاء بعد قصف روسي ضد قواته المتواجدة في أوكرانيا، فإن الولايات المتحدة تزعم أنه كان لديها معلومات استخبارية تفيد بأن بريغوجين كان يحشد قواته بالقرب من الحدود مع روسيا لبعض الوقت. يتعارض هذا مع ادعاء بريغوجين بأن تمرده كان رداً على هجوم الجيش الروسي على معسكراته في أوكرانيا يوم الجمعة.
سيطر على القيادة العسكرية الجنوبية دون طلقة رصاص، وتقدم نحو موسكو دون مقاومة
وأعلنت مجموعة فاغنر يوم السبت سيطرتها على جميع القواعد العسكرية في مدينة روستوف أون دون بجنوب روسيا، وقيل إنها كانت تسيطر على منشآت عسكرية في فورونيج، وهي مدينة تبعد حوالي 500 كيلومتر جنوب موسكو.
بعد أن سيطر بريغوجين على مقر المنطقة العسكرية الجنوبية، وهي القيادة التي يفترض أن تحمي روسيا من أي هجوم أوكراني من ناحية الجنوب الشرقي للبلاد، طالب بتسليم وزير الدفاع الروسي سيرجي شويغو ورئيس الأركان العامة فاليري جيراسيموف إليه وإلا سيرسل رجاله إلى موسكو.
ثم تقدمت قوات فاغنر نحو موسكو دون عوائق إلى حد كبير. أفادت وسائل إعلام روسية بأن قوات فاغنر أسقطت عدة مروحيات وطائرة اتصالات عسكرية، ولكن وزارة الدفاع الروسية لم تعلق، حسبما ورد في تقرير لموقع Vox الأمريكي.
كانت قوات الأمن في حالة تأهب قصوى في موسكو، حتى مع استمرار الحياة بشكل طبيعي نسبياً على ما يبدو، ولكن السلطات أعلنت يوم الإثنين يوم عطلة وفرضت نظام مكافحة الإرهاب لتعزيز الأمن.
استعدت موسكو لوصول قوات فاغنر من خلال إقامة نقاط تفتيش بمركبات مدرعة وقوات على الحافة الجنوبية للمدينة. أفاد التلفزيون الشيشاني الرسمي في الشيشان بأنه تم سحب حوالي 3000 جندي شيشاني من القتال في أوكرانيا وتم نقلهم بسرعة إلى هناك في ساعة مبكرة من صباح السبت. أقامت القوات الروسية المسلحة بالبنادق الآلية نقاط تفتيش على المشارف الجنوبية لموسكو. حفرت أطقم أجزاء من الطرق السريعة لإبطاء زحف فاغنر.
اتخذت قوات الأمن الروسية التي كانت ترتدي السترات الواقية من الرصاص ومجهزة بأسلحة آلية موقعها بالقرب من طريق سريع يربط موسكو بجنوب روسيا، بحسب صور نشرتها صحيفة فيدوموستي الروسية يوم السبت.
كل ذلك تم دون اشتباكات تذكر، باستثناء الاشتباك الوحيد الذي وقع حسب التقارير في منطقة فورونيج، ين وحدات فاغنر والقوات الروسية، مما ألحق أضراراً بعدد من السيارات.
وقال حاكم منطقة ليبيتسك، على بُعد حوالي 400 كيلومتر من موسكو، إن مرتزقة فاغنر كانوا يسافرون عبر المنطقة عندما ذكرت وكالة الأنباء الروسية الحكومية تاس أن المتمردين تلقوا وعوداً بالعفو إذا ألقوا أسلحتهم.
فهل زحف فاغنر بهذه السهولة، تجاه موسكو، جاء نتيجة ضعف قوات الجيش الروسي في مواجهته أم بسبب مباغتة فاغنر للجيش الروسي أم أنه كان هناك تعاطف داخلي عسكري وشعبي معه.
هل كان هناك تأييد داخلي لزحف فاغنر نحو موسكو؟
يعتمد أي انقلاب ناجح على ضرورة توافر بعض العناصر منها دولة مركزية ضعيفة، وعلاقة خلافية بين الجيش والحكومة المدنية، وحلفاء في الداخل مستعدون لدعم محاولة الإطاحة.
كما أنه في بعض الدول الكبيرة التي تمتلك جيوشاً قوية وكبيرة مثل بعض الدول العربية كصمر والجزائر، فإن استقلالية الجيش عن السلطة التنفيذية (إذا كانت غير عسكرية غالباً)، وعدم وجود قوات موازية مثل الحرس الوطني أو قوات شرطة قوية، تسهل مهمة الإنقلاب.
وقال جرايم روبرتسون، أستاذ العلوم السياسية في جامعة نورث كارولينا-تشابل هيل الأمريكية، لـ Vox، إذا نجحت محاولة بريغوزين، لكان ذلك أمراً شاذاً جداً.
لا أعرف من هم حلفاؤه في الكرملين، إن وجدوا. قال روبرتسون: "من الواضح أن لديه علاقات مع الأوليغارشية في سانت بطرسبرغ والأثرياء المحيطين ببوتين". "لكنه كان دائماً شخصية خارجة عن النخب الروسية إلى حد ما".
تفيد تقارير بأن بعض الجنرالات المتقاعدين الكبار يعملون مع فاغنر وبالتالي هم يمثلون حلقة وصل بين بريغوجين وبين الجيش الروسي، كما أنه سبق أن امتدح بعض قادة الحرب في أوكرانيا وطالب بأن يحلوا محل وزير الدفاع ورئيس الأركان.
وقال روبرتسون لـ Vox إن مسيرة بريغوزين الفاشلة كشفت عن ثغرات في قوة الدولة المركزية، التي صممها بوتين بحرص خلال فترة حكمه.
فلقد أمضى بوتين، حسب قوله، السنوات الخمس عشرة الماضية في محاولة منع الانقلاب عليه.
أحد الأشياء الرئيسية التي سيقولها لك أي عالم سياسي هو أنك بحاجة إلى الكثير من قوات الأمن والعسكرية المنفصلة لجعل تنسيق الانقلاب صعباً للغاية – لقد كان بوتين متعصباً في توليد الكثير والكثير من المؤسسات المسلحة المختلفة العسكرية لجعل من الصعب حقاً تنسيق أي شيء ضده".
ويبدو أن هذا التقسيم والمنافسة بين المجموعات العسكرية والأمنية هو الذي خلق صعوبات في الحرب بأوكرانيا ثم أدى إلى الخلاف بين فاغنر والجيش، وأخيراً يبدو أنه زاد صعوبة التصدي لقوات فاغنر وهي تتجه للعاصمة.
يؤشر استيلاء فاغنر على مقر القيادة العسكرية الجنوبية دون إطلاق نار، وحديثه المذاع مع قادة الجيش في هذه القاعدة الذي قال لهم فيه: "إننا جئنا بالدبابات للاستيلاء على المقر وليس التفاوض"، إلى أن القادة والعسكريين لم يكونوا يؤيدونه ولكن لديهم بعض التفهم مع شكاواه، وليسوا غاضبين منه بقدر، ما قد يكون لديهم خليط من الإعجاب والخوف منه.
يظهر ذلك في علاقة مقاتلي فاغنر مع المدنيين، لم تظهر فيديوهات احتفاء بدخول قوات فاغنر للمدن، ولا معارضة لهم، ولكن ظهر فيديوهات احتفاء كبيرة بهم، لدى خروجهم من المدن بعد انتهاء الأزمة بما في ذلك عناق من قبل رجال ونساء مدنيات لجنود فاغنر.
وعرضت وسائل إعلام روسية مقطع فيديو للقوات وهي تحمل أسلحتها وإمدادات أخرى في شاحنات بيضاء في روستوف، بينما هتف مؤيدون محليون باسم الجماعة – بعد ساعات فقط من مشاهدة المقاتلين وهم يقومون بدوريات ويلتقطون صور سيلفي مع السكان في الشوارع.
يبدو موقف المؤسسة العسكرية والأمنية والشعب الروسي أنه كان هناك عدم تأييد وعدم معارضة في الوقت ذاته، بدا موقفاً أقرب للحياد، وهو أمر يشكل صعوبة أمام حشد قوات الجيش للقتال ضد فاغنر.
يظهر رد فعل الجيش والشعب استياءً محتملاً من حرب أوكرانيا وتفهم لأسباب انتقادات قائد فاغنر لقيادة الجيش، دون تأييد لطريقته، وكأنهم يريدون وصول الرسالة للكرملين دون تأييد إنقلاب بريغوجين المحتمل.
ولكن الأمر كان سيكون مختلفاً إذا دخل العاصمة، ففي الأغلب لن يقبل الروس -مدنيين وعسكريين- بأن تدب الفوضى في بلادهم.
هل كانت قوات الجيش الروسي غير كافية للتصدي لجيش فاغنر؟
رغم الفارق بين عدد قوات فاغنر التي تقل عن 30 ألفاً، مقابل عدد الجيش الروسي الذي يقارب مليوناً و400 ألف، كما سبق الإشارة، فإنه يجب ملاحظة عدة أشياء، منها أن أغلب القوات الروسية ليست متاحة بالضرورة للدفاع عن موسكو، خاصة في ظل مباغتة فاغنر لقيادة البلاد.
إن الجزء الأكبر من القوات الروسية الفعالة يبدو منتشراً في أوكرانيا؛ حيث يعتقد أن 200 ألف من القوات الأصلية تشارك في القتال منذ بداية الحرب إن لم يكن أكثر، إضافة لـ300 ألف من قوات الاحتياط التي ذهب جزء كبير منها لهناك، وقد يكون عدد القوات الروسية في أوكرانيا قد زاد أكثر مع بدء الهجوم المضاد لكييف.
وهذا قد يبقي لروسيا أقل من 900 ألف جندي خارج أوكرانيا، إضافة إلى أن عدد الجيش ليس كله من القوات البرية المقاتلة، فهناك القوات البحرية والجوية، والأمن.
ويقدر حجم القوات البرية الروسية في فبراير/شباط 2022 بنحو 300 ألف جندي فقط، بينهم قوات مخصصة لخدمات اللوجيستية وسلاح المهندسين والإداريين وغيرهم من التخصصات غير المجهزة للقتال البري، عكس قوات فاغنر التي تتكون بالأساس من المقاتلين.
كما أن روسيا بلد شاسع المساحة، وهي تحتاج لنشر عشرات آلاف من القوات لحماية حدودها الطويلة في آسيا مع الصين ومنغوليا، والحدود القصيرة ولكن الوعرة والإشكالية في القوقاز، والأهم أنه مع تصاعد التوتر مع الناتو، واستعداد السويد للانضمام للناتو وانضمام فنلندا المجاورة لها، فإنها بحاجة لمجموعة من أفضل قواتها لنشرها قرب الحدود مع جمهوريات البلطيق والدول الإسكندنافية.
وقد يكون هناك قوات روسية كبيرة منشورة في بيلاروسيا لتهديد أوكرانيا والتصدي لتهديد بولندا لمينسك، فبولندا هي أكبر دولة في أوروبا الشرقية سكاناً وقوتها العسكرية تشهد تصاعداً واضحاً، وهي الأكثر جرأة في تحدي روسيا ومساعدة كييف.
يعني كل ذلك أن حجم الاحتياطات الموجودة للدفاع عن موسكو قد لا يكون كبيراً، وأن النسبة بين عدد قوات الجيش الروسي المتاحة للتصدي للزحف وبين عدد قوات فاغنر ليست كبيرة كما قد يبدو الأمر من الوهلة الأولى.
كما أن معدات وقدرات القوات المتاحة للتصدي للزحف، على الأرجح، أقل من قوات الجيش الروسي الموجودة في أوكرانيا، وكذلك من قوات فاغنر، وتفيد تقارير بأن الجيش الروسي نشر دبابات تي 72 القديمة لحماية موسكو من فاغنر، بينما قوات الأخيرة كانت تضم دبابات تي 90 الأحدث لدى القوات الروسية.
إرسال قوات الشيشان لحماية موسكو مفارقة تاريخية ومؤشر مقلق
ويعد قرار استدعاء ثلاثة آلاف مقاتل شيشاني، بعد توعد رمضان قديروف رئيس الشيشان بسحق قوات فاغنر، مفارقة، فهذه الجمهورية التي اشتهرت بثوراتها المتعددة ضد موسكو والتي أباد الروس على مدار قرنين أجيالاً كاملة من ذكورها، ونفوا شعبها بالكامل إلى سيبيريا خلال الحرب العالمية الثانية، هي التي تدافع عن موسكو، ورجالها يبدون أكثر إخلاصاً لبوتين من جيشه.
ولكن قرار استدعائهم وكذلك نشر قوات الشرطة والحرس الوطني الذي أنشأه بوتين، مؤشر على نقص محتمل في قوات الجيش الروسي وأيضاً يؤشر لوجود شكوكا في ولائها أو على الأقل استعدادها لمحاربة فاغنر.
أما استدعاء قوات روسية من أوكرانيا، كان سيمثل فرصة لا تعوض لكييف، وتجدر الإشارة إلى أن الأخيرة يبدو أنها لم تستطع استغلال الأزمة بطريقة فارقة، رغم تهليل المسؤولين الأوكرانيين لما حدث.
في مقابل ذلك، فإن قوات فاغنر تمثل مجموعة من أفضل الجنود المتاحين لدى روسيا، ولديهم على ما يبدو مجموعة من أفضل الأسلحة الروسية، من بينها دبابات وعربات مدرعة، إضافة إلى أنظمة دفاعات جوية متنوعة وإن كانت في الأغلب متوسطة أو محمولة على الأكتاف، وهذا ما يفسر ما تردد عن إسقاطهم لمروحيات حاولت قصفهم، وقد أثبتت هذه المضادات فاعلية كبيرة في حرب أوكرانيا، كما أن الجيش الروسي أظهر قصوراً دوماً في تدمير الأهداف المتحركة ولاسيما ليلاً.
هل كان تمرد فاغنر مرشحاً للنجاح لو واصل بريغوجين زحفه نحو موسكو؟
لا يعني كل ما سبق أن تمرد فاغنر كان مرشحاً له النجاح لو استمر، يظل الجيش الروسي من أقوى جيوش العالم (مسألة أنه ثاني أقوى جيش تحتاج لمراجعة مع صعود الصين إضافة لأدائه بأوكرانيا)، مع قدرات قصف استراتيجية لا يفوقها إلا الجيش الأمريكي.
كما أن قوات فاغنر كانت ستعاني من مشكلات لوجستية خلال حركتها السريعة، وكذلك رغم علاقات مؤسس فاغنر وشعبيته في بعض الأوساط، لا يعني ذلك أنه يمكن أن يصبح رئيساً لروسيا أو الجيش أو البيروقراطية الروسية ستقبل به.
وقال جون أوليوت، ضابط استخبارات سابق في مشاة البحرية والمتحدث باسم مجلس الأمن القومي في عهد ترامب، إن قوات بريغوزين "كانت ستواجه خسائر فادحة من قوات بوتين، التي تتمتع بتفوق مطلق في الجو".
وكان قرار قائد فاغنر، المفاجئ المفاجئ بالانسحاب وقواته على أعتاب موسكو، دليلاً على ذكاء رغم تهوره السابق، علماً بأن تقارير غربية تزعم بأن المخابرات الروسية هددت بإيذاء عائلات قادة مجموعة "فاغنر" الروسية للمرتزقة.
كما أن قرار بوتين بالعفو، عنه رغم أنه قد ينظر له كضعف، ولكنه جنَّب روسيا سيناريو أسوأ وهو تمرد عسكري داخلي قد يستمر لفترة طويلة ويحتاج لسحب القوات من أوكرانيا، مما قد يؤدي لهزيمة روسية محتملة هناك، وهذا سيناريو أخطر على بوتين وعلى مجمل روسيا من مظاهرة فاغنر المسلحة التي يزعم أنها تهدف لتحقيق العدالة.