أُسدل الستار سريعاً على تمرد بريغوجين المسلّح في روسيا، لكن دراما الأربع والعشرين ساعة تركت أسئلة شائكة؛ منها ما يخص مصير فاغنر ومنها ما يتعلق بقبضة بوتين على السلطة، وهل لأمريكا دور فيما حدث ويحدث؟
كانت روسيا قد شهدت خلال 24 ساعة، من مساء الجمعة حتى مساء السبت 24 يونيو/حزيران، أخطر تحدٍ يواجه حكم الرئيس فلاديمير بوتين عندما استولت قوات فاغنر على مدينتي روستوف أون داي وفورونيغ في الجنوب، وأعلن زعيمها بريغوجين "الزحف" نحو موسكو لتخليص البلاد من "القيادة العسكرية الفاسدة"، بحسب تعبيره.
نعم، انتهت الأزمة سريعاً جداً ودون إراقة دماء بعد توسط رئيس بيلاروسيا لوكاشينكو، فأعلن بريغوجين وقف "الزحف" وأسقطت الاتهامات ضده وضد قواته المشاركة في "التمرد المسلح"، لكن كم وحجم الأسئلة التي خلفتها تلك الأحداث الدرامية المتسارعة لا يزال قائماً وبقوة.
ما مصير إمبراطورية فاغنر؟
فاغنر ليست مجرد مرتزقة يقاتلون في أوكرانيا أو سوريا أو ليبيا ودول أخرى، فمئات التقارير الاستقصائية الغربية رسمت صورة أكبر من ذلك بكثير، حيث نشرت صحيفة The New York Times الأمريكية تقريراً عنوانه "جنود بوتين السريُّون ينشرون نفوذه في إفريقيا"، يلقى الضوء على الأنشطة المتعددة التي يبدو أن "فاغنر" تتولاها وتبرع فيها، خاصةً في القارة السمراء.
وبينما تشهد إفريقيا بعثاً جديداً لمجموعات المرتزقة؛ حيث قد تعاقدت أطراف عدة معهم للقتال في عدد من الصراعات الضارية بالقارة، يبدو أن مجموعة فاغنر الروسية أصبحت إحدى أكثر هذه المجموعات شهرة، لكنها ليست مجرد مجموعة مرتزقة، بل هي شبكة غامضة تجمع بين القوة العسكرية والمصالح التجارية والسعي من أجل الغايات الاستراتيجية لوكيلها، وهي الآن في طليعة الأدوات التي تعتمد عليها روسيا لبلوغ آمال التوسع في إفريقيا.
وبالتالي فإن تمرد بريغوجين، الذي انتهى سريعاً، يطرح أسئلة منطقية بشأن تأثير ما شهدته روسيا على عمليات فاغنر خارج حدودها، وحتى قبل أن تنتهي تلك "الدراما"، كانت رويترز قد توجهت بتلك الأسئلة إلى دولتين إفريقيتين، ورفض متحدثان باسمي حكومتي مالي وجمهورية إفريقيا الوسطى التعليق على الاضطرابات ومدى تأثيرها على الاستراتيجيات الأمنية لبلديهما في مواجهة الجماعات المتشددة.
فالبلدان يتمتعان بعلاقات وثيقة مع روسيا وكانت تقارير قد أشارت إلى توقيعهما اتفاقيات مع فاغنر للحصول على دعم عسكري، إلا أن التصريحات الرسمية من البلدين في السابق قد أكدت على أن اتفاقيات التعاون العسكري الخاصة بهما كانت مع روسيا وليس مع فاغنر.
بصيرو دومبيا، وهو محلل سياسي في مالي، قال لرويترز: "وجود فاغنر في مالي يرعاه الكرملين وإذا كانت فاغنر على خلاف مع الكرملين… فإن مالي ستعاني بطبيعة الحال من تبعات ذلك على الجبهة الأمنية".
والأمر لا يختلف كثيراً في مالي عنه في جمهورية إفريقيا الوسطى، حيث يقوم مئات العناصر من روسيا، ومن بينهم العديد من مقاتلي مجموعة فاغنر، بمساعدة الحكومة في محاربة العديد من الحركات المتمردة منذ عام 2018.
وتزايد ارتباط جمهورية إفريقيا الوسطى ومالي بروسيا في السنوات الأخيرة؛ إذ سعى الكرملين لكسب نفوذ أكبر في دول إفريقيا الناطقة بالفرنسية مما أثار استياء فرنسا، القوة الاستعمارية السابقة، التي تواجه احتجاجات مناهضة لها في المنطقة وسط تدهور علاقاتها مع العديد من حكومات غرب إفريقيا.
عمليات فاغنر في إفريقيا لها أبعاد مالية أيضاً؛ إذ اتهمت الولايات المتحدة في أكتوبر/تشرين الأول الماضي المجموعة العسكرية الخاصة باستغلال الموارد الطبيعية في جمهورية إفريقيا الوسطى ومالي وأماكن أخرى لتمويل القتال في أوكرانيا، وهي تهمة رفضتها روسيا في ذلك الوقت.
ووفقاً لما ورد في وثائق أمريكية مسربة، فقد رسخت المجموعة علاقات قوية مع العديد من الحكومات الإفريقية على مدى العقد الماضي من خلال عمليات في ثماني دول إفريقية على الأقل منها مالي وجمهورية إفريقيا الوسطى وليبيا.
كان إيفان جيشاوا، المحاضر في جامعة بروكسل للدراسات الدولية، قد قال لرويترز، قبل أن تنتهي الأزمة: "العواقب المحددة بالنسبة لمالي تعتمد في الواقع على عوامل غير معروفة إلى حد كبير مثل الاستقلالية التنظيمية لفاغنر وتسلسل قيادتها، وبالطبع ما إذا كانت الأمور تتصاعد أم لا بين (الرئيس الروسي فلاديمير) بوتين وفاغنر".
ترسم هذه التفاصيل، التي ربما تمثل فقط قمة جبل الجليد من القصة، صورة ضبابية للغاية بشأن مصير فاغنر، ليس فقط كمجموعات قتالية أو مرتزقة، ولكن أيضاً كذراع بوتين لنشر النفوذ الروسي حول العالم، وبخاصة في إفريقيا. فلا توجد بعد إجابات عن مصير الشركة الأمنية الخاصة بعد توجه بريغوجين إلى بيلاروسيا، بحسب الاتفاق الذي أنهى التمرد.
فهل سيظل بريغوجين رئيساً لفاغنر من منفاه؟ الإجابة بالنفي قطعاً، فماذا عن المقاتلين الذين يدينون له بالولاء؟ وماذا عن أنشطة الشركة المالية والاتفاقيات الموقعة مع حكومات في إفريقيا وغيرها؟ هل سيتم دمج فاغنر في وزارة الدفاع الروسية رسميا كما كان المخطط الذي رفضه بريغوجين وأدى إلى ما حدث؟ ستظل هذه الأسئلة وغيرها عالقة في انتظار أن يستقر الغبار الكثيف المخيم على المشهد، رغم تفادي انفجار قنبلة تمرد بريغوجين.
هل ضعفت قبضة بوتين على السلطة؟
ربما تكون النقطة الأكثر تناولاً بالبحث والتحليل في وسائل الإعلام العالمية عموماً، والغربية خصوصاً، تتعلق بمدى إحكام الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لقبضته على السلطة، بل إن شبكة CNN الأمريكية نشرت تقريراً عنوانه "بداية النهاية لبوتين"، فإلى أي مدى يبدو هذا الطرح واقعياً؟
هناك عدة حقائق يمكن الانطلاق منها لتفسير الموقف حتى اللحظة، أولها أن ما أقدم عليه بريغوجين حين استولت قواته على مدينة روستوف أون دون وزحفت نحو موسكو لم يكن انقلاباً أو تمرداً موجهاً نحو بوتين، لكنه كان تحركاً يهدف إلى "التخلص من القيادة العسكرية" ممثلة في وزير الدفاع سيرغي شويغو ورئيس هيئة الأركان العامة فاليري جيراسيموف.
وبالتالي، فإنه من الناحية العملية، لم تكن سلطة بوتين أو قيادته لروسيا مهددة في أي لحظة من تلك الساعات الأخطر في تاريخ البلاد الحديث. بل يرى البعض أن بوتين نفسه لعب دوراً فيما وصلت إليه الأمور، دون أن يقصد بطبيعة الحال، من خلال سياسة "فرق تسد" التي يتبعها في تعامله مع الأجهزة الأمنية والعسكرية ومراكز القوى في الكرملين.
فبريغوجين لم يتحرك فجأة؛ إذ سبقت أحداث السبت انتقادات علنية لاذعة وصلت إلى حد الشتائم، ووصف شويغو وجيراسيموف وباقي قيادات الجيش الروسي بأنهم "حثالة وكلاب"، واتهامات بأنهم "يسرقون" الذخيرة ويتسببون في مقتل المئات من قوات فاغنر التي تحارب في الصفوف الأولى في أوكرانيا.
استمرت تلك الانتقادات والتشققات الداخلية شهوراً طويلة دون أن يحرك بوتين ساكناً أو يتدخل فيما يحدث، حتى قبل أسبوعين تقريباً عندما أصدرت وزارة الدفاع قراراً يلزم أفراد المجموعات القتالية الخاصة؛ مثل فاغنر وكتائب أحمد الشيشانية، بتوقيع عقود مع الوزارة، وهو ما رفضه بريغوجين. ومن الطبيعي ألا يصدر هكذا قرار عن شويغو دون موافقة بوتين.
ربما يكون هذا الموقف هو السبب المباشر وراء تحرك بريغوجين، الذي وصفه بوتين بأنه "تمرد مسلح" وطعنة في الظهر"، ليتضح لبريغوجين أنه ربما يكون قد "قضم أكثر مما يمكنه أن يبتلع"، أي أنه أساء تقدير الموقف. عند هذه النقطة يمكن النظر إلى تصرف بوتين، الذي لجأ إلى حليفه لوكاشينكو للتوسط في الصراع، على أنه تصرف حكيم جنَّب الرئيس الروسي الاضطرار إلى إنهاء التمرد بالقوة، وهو ما كان سيعني بالضرورة سقوط الآلاف من القتلى من الجانبين، حتى وإن كانت النتيجة محسومة سلفاً لصالح الجيش الروسي للفارق الهائل في العدد والعتاد.
لكن المؤكد هو أن بوتين تعرض لإحراج كبير أمام أعدائه في الخارج ومعارضيه في الداخل، فهل سيدفع بريغوجين الثمن باهظاً، كما يحذره مسؤولون أمريكيون؟ مدير المخابرات الأمريكية السابق وجه نصيحة لزعيم فاغنر: "لا تترك نافذتك مفتوحة!"، كناية عن احتمال تعرض بريغوجين للاغتيال قنصاً.
"بوتين لا يسامح الخونة. وحتى لو قال بوتين لبريغوجين أن يذهب إلى بيلاروسيا، فزعيم فاغنر لا يزال خائناً وأعتقد أن بوتين لن يسامحه أبداً"، بحسب ما قالته جيل دويرتي، مديرة مكتب CNN السابقة في موسكو وخبيرة الشأن الروسي.
لكن بعيداً عن التحليلات، أياً كان توجهها، فالمؤكد هو أن بوتين يواجه بالفعل أصعب المواقف وأكثرها تعقيداً، فالهجوم الروسي في أوكرانيا، الذي يصفه بوتين بأنه "عملية عسكرية خاصة" بينما يصفه الغرب بأنه "غزو عدواني غير مبرر"، يمر بمرحلة حساسة للغاية في ظل الهجوم الأوكراني المضاد والدعم العسكري الغربي غير المسبوق لكييف.
وعلى الرئيس الروسي الآن التعامل مع تداعيات تمرد بريغوجين ومصير فاغنر وموقف قيادات الجيش، وعلى رأسهم شويغو وجيراسيموف، قبل أن تفلت الأمور من بين يديه، خصوصاً في ظل تحفز خصومه في الغرب عموماً، وفي واشنطن خصوصاً.
هل لعبت أمريكا دوراً في تمرد بريغوجين؟
إذا كان هناك طرف يشعر بالفرحة الغامرة لما تمر به روسيا فهو بالتأكيد أمريكا، وربما أكثر من أوكرانيا نفسها، ولا تبذل إدارة الرئيس جو بايدن أي مجهود لإخفاء تلك الفرحة، لكن السؤال هنا: هل لعبت أمريكا دوراً في تمرد زعيم فاغنر المسلح؟
التقارير والتصريحات الصادرة عن واشنطن توحي بذلك، حيث أفاد تقرير للبنتاغون أنهم كانوا على علم بنوايا بريغوجين منذ منتصف يونيو/حزيران، كما أكد وزير الخارجية أنتوني بلينكن أن "الموقف لم ينته بعد"، فما مدى دقة هذه التصريحات؟ وما الهدف منها؟
ربما تكون الإجابة عن السؤال الثاني أبسط وأوضح، فالهدف من تلك التصريحات هو إبقاء جذوة النار مشتعلة، فكلما طال أمد الأزمة الداخلية في روسيا، زادت فرص استفادة القوات الأوكرانية وربما يحققون أخيراً ما كان ينتظره الأمريكيون ولم يتحقق بعد جراء ذلك الهجوم المضاد الذي طال انتظاره.
فقد أشار بلينكن الأحد 25 يونيو/حزيران، إلى أن الاضطرابات في روسيا لم تنته بعد على الأرجح وقد تستغرق أسابيع أو شهوراً. وقال بلينكن لبرنامج (ميت ذا بريس) على شبكة (إن.بي.سي): "نرى المزيد من التصدعات في روسيا. من السابق لأوانه معرفة ما ستفضي إليه أو موعد ذلك. ولكن من المؤكد أن لدينا كل أنواع التساؤلات الجديدة التي سيتعين على بوتين إيجاد حلول لها في الأسابيع أو الأشهر المقبلة. تركيزنا ينصب بلا هوادة وبتصميم على أوكرانيا لنتأكد من أن لديها ما تحتاج إليه للدفاع عن نفسها واستعادة الأراضي التي احتلتها روسيا".
أما إذا ما كانت الولايات المتحدة قد لعبت "دوراً" في التمرد قصير الأمد لبريغوجين فلا توجد مؤشرات فعلية على ذلك حتى الآن، فمجموعة فاغنر وزعيمها تخضع لعقوبات أمريكية متنوعة منذ فترة، لكن يظل الجزم بأي شيء في هذه المرحلة أمراً بعيد المنال.
الخلاصة هنا هي أن تمرد بريغوجين المسلح قصير الأجل في روسيا قد انتهى سريعاً لكنه خلّف أسئلة كثيرة ومتعددة دون إجابات، وما بين الأمنيات الغربية بأن تكون هذه الأحداث بداية النهاية لروسيا بوتين من جهة، وبين سعي موسكو إلى احتواء الأزمة والتخفيف من تداعياتها السلبية على مسار الحرب في أوكرانيا تحديداً، سيمرّ وقت على الأرجح حتى تجد تلك الأسئلة إجابات قائمة على المعلومات وليس التحليل أو الأمنيات.