ما مصير قوات فاغنر في السودان وليبيا وسوريا وغيرها من الدول العربية والإفريقية بعد تمردها على سيدها السابق الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، يبدو هذا الأمر يشكل تحدياً لروسيا ودول المنطقة وحتى الغرب، وسط مخاوف من أن تتحول لقوة فوضوية بلا قيادة.
فقد يكون لتمرد مجموعة "فاغنر" تداعيات كبيرة، ليس فقط على الحضور العسكري للمجموعة في الشرق الأوسط، وإنما كذلك على الشبكات المالية والعسكرية التي ترعاها في المنطقة، لا سيما إذا عجزت موسكو عن السيطرة على هذه الشبكات أو تعويضها، حسبما ورد في تقرير لموقع Middle East Eye البريطاني.
ويعتقد أن هناك نحو 15 ألف مقاتل تابع لفاغنر في الدول الإفريقية بما فيها الدول العربية الإفريقية، إضافة إلى أعداد غير معروفة من مقاتليها في سوريا.
إليك الدول التي أصبحت توجد فيها فاغنر بقوة
وعلى مدار العقد الماضي، استطاعت مجموعة المرتزقة الروسية أن تبني شبكة عنكبوتية من العلاقات العسكرية والتجارية والسياسية، وتمكنت من توسيع تلك الشبكة إلى ليبيا وسوريا والسودان والإمارات.
كانت قوات فاغنر المقاتلة في أوكرانيا ركناً من أركان الدعم للجيش الروسي في ساحة المعركة حتى وقت قريب، ولم يمضِ سوى بضعة أسابيع على تقديم هذه المجموعة الخاصة أول انتصار ملموس لروسيا على القوات الأوكرانية، بعد أن استولت على مدينة باخموت ذات الأهمية الاستراتيجية.
لكن ربما لم تكن القدرات الكبيرة للمجموعة لتتنامى إلى هذا الحد لولا الخبرة التي حصدتها في الشرق الأوسط وإفريقيا. فقد اكتسبت فاغنر أنيابها من القتال الشرس إلى جانب القوات الروسية في ساحات المعارك بسوريا؛ ثم بقتالها منفردة في ليبيا؛ فضلاً عن مشاركة مقاتليها في النزاعات الجارية في السودان ومالي وجمهورية إفريقيا الوسطى.
دخلت ليبيا بدعم إماراتي ومنها توسعت للعديد من الدول الإفريقية
قال أندرياس كريغ، الأستاذ المشارك للدراسات الأمنية بكلية كينغز كوليدج لندن، لموقع Middle East Eye البريطاني، لقد "بدأت فاغنر عملياتها العسكرية في إفريقيا بالمشاركة في نزاع ليبيا، وقد أجادت استغلال ذلك. فقد ذهبت إلى هناك بدعمٍ من الإمارات، ثم اتخذت ليبيا قاعدة انطلاق لتوسعها الكبير بعد ذلك".
وتعزَّز وجود فاغنر في السودان عبر عملها في استخراج وتهريب الذهب، وتعاونها مع قوات الدعم السريع السودانية.
فاغنر ليست شركة رسمية في روسيا، لأن القوانين الروسية لا تسمح بإنشاء شركات عسكرية خاصة، ومع ذلك فإن المجموعة أقامت شركات وهمية خارج البلاد تستخدمها في تمويل عملياتها، وتعزيز نفوذها.
وأوضح كريغ أن المجموعة تمكنت من استغلال قاعدتها "ذات الأهمية الاستراتيجية" في ليبيا لإنشاء روابط لها مع محمد حمدان دقلو، المعروف باسم حميدتي، والذي يتزعم قوات الدعم السريع التي أعلنت التمرد في السودان وتحارب الجيش.
نقلت 130 مليار دولار من الذهب السوداني للإمارات
كانت فاغنر حتى وقت قريب حليفاً وثيقاً للرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وقد فرضت الولايات المتحدة ودول أخرى عقوبات عليها بسبب شبكة استثماراتها الممتدة في السودان ومالي وجمهورية إفريقيا الوسطى.
يزعم مراقبون أن شحنات من الذهب تبلغ قيمتها مليارات الدولارات قد نُقلت من السودان إلى الإمارات، ويذهب كثيرون إلى أن شركة فاغنر هي التي تولت تسهيل هذا الأمر.
تواصل موقع Middle East Eye مع وزارة الخارجية الإماراتية طلباً للتعليق على ما ورد في هذا التقرير، لكنه لم يتلق رداً حتى وقت النشر.
وصرح مسؤولون أمريكيون بالزعم أن بعض مناجم الذهب التي سيطرت فاغنر على امتيازات التعدين فيها قد نُقلت حصص كبيرة من مستخرجاتها إلى مخزون موسكو من الذهب -البالغ 130 مليار دولار- واستفاد بوتين منها في التفلت من تأثير العقوبات الاقتصادية المفروضة على نظامه بسبب الحرب في أوكرانيا.
قال كريغ: "اعتمد الكرملين على الإمارات لتسهيل كثير من عمليات فاغنر في جميع أنحاء إفريقيا خلال عام 2018، لأن المجموعة كانت لا تزال توصف في ذلك الوقت بأنها قوة ناعمة لروسيا [غير معترف بها رسمياً]، رغم أنها كانت قوة صلبة في الوقت نفسه".
في العام الماضي، اتهمت الولايات المتحدة مرتزقة فاغنر باستغلال الموارد الطبيعية في جمهورية إفريقيا الوسطى ومالي والسودان ودول أخرى في القارة، ولم تكن المجموعة لتتمكن من ذلك من دون الإمارات.
وقال كريغ: "حظي بريغوجين خصوصاً بعلاقات جيدة مع الإمارات، فهي شريك بارز لروسيا، ونخب النفوذ في أبوظبي والكرملين تجمعها شبكات من الصلات الشخصية والروابط التجارية".
هل يضغط بوتين على أبوظبي لتضييق الخناق على شبكات فاغنر؟
وقال كريغ إن أحد أبرز الأسئلة التي تواجهنا الآن هو: إلى أي مدى سيضغط بوتين على رئيس الإمارات محمد بن زايد آل نهيان، "لتضييق الخناق" على هذه الشبكات.
وزعم أن "فاغنر لن تستطيع تصريف أمورها إذا مُنعت من الوصول إلى الهياكل المالية، والخدمات اللوجستية، والبنية التحتية لتجارة الذهب التي قدمتها الإمارات".
على الرغم من أهمية الروابط المالية بين فاغنر والإمارات في السودان، وما جرته من مكاسب على جميع الأطراف المشاركة فيها، فإن المهارات العسكرية لمجموعة المرتزقة الروسية كانت هي المطلب الأول لكثير من الجهات في مناطق الصراع الأخرى.
انسحاب فاغنر من ليبيا قد يهدد حفتر
منذ عام 2019، عاونت فاغنر خليفة حفتر -القائد العسكري المنشق في شرق ليبيا وأمير الحرب بعد ذلك- في السيطرة على المناطق الجنوبية والشرقية في البلاد.
وقال فرحات بولات، الباحث بجامعة إكستر والمهتم بالشؤون الليبية: "إن انسحبت فاغنر من ليبيا ولم يحصل حفتر على مظلة أخرى من الحماية الأمنية الأجنبية، فإن هذا الانسحاب سيهدد نفوذ حفتر في شرق ليبيا وجنوبها".
ولذلك، يُتوقع أن يراقب الجيش التابع لحفتر، وحكومة طرابلس المعترف بها دولياً، الأحداث في روسيا مراقبةً وثيقة، وأن يتعقبا تداعيات الأمر على توازن القوى القائم في البلاد.
وقال بولات لموقع Middle East Eye: "لقد قدم مرتزقة فاغنر لقوات أمير الحرب الليبي خليفة حفتر الخبرة العسكرية اللازمة، والموارد التي لم تكن متوافرة لديهم"، واكتسب "الكرملين مزيداً من النفوذ في مواجهة القوى الغربية بفضل الحضور المتزايد لفاغنر في ليبيا، ومن ثم فإن انسحاب مقاتلي المجموعة قد يؤثر على المصالح الجيوستراتيجية لروسيا بإفريقيا. وإن كنا لا ندري بعدُ ما إذا كانت روسيا ستسحب مرتزقتها من ليبيا أم لا".
من جهة أخرى، كانت بعض التقارير غير المؤكدة قد أفادت بأن الجيش الروسي استهدف بالفعل مجموعة فاغنر في شمال سوريا، وهي منطقة أخرى تحظى فاغنر بالنفوذ فيها منذ وقت طويل.
نشاط فاغنر في سوريا كان بداية لترسيخ قدمها بالمنطقة
كانت سوريا من أوائل المناطق التي انتشرت فيها فاغنر خارج أوروبا. فقد أرسلت المجموعة مرتزقة للقتال مع نظام بشار الأسد في عام 2015، وشنَّ بوتين في الوقت نفسه حملة جوية على المعارضة السورية.
وقال جورجيو كافييرو، الرئيس التنفيذي لشركة "جلف ستيت أناليتيكس" الاستشارية، إننا يصعب علينا أن نستخلص "استنتاجات متماسكة" في الوقت الحالي، لا سيما أن ما حدث في روسيا قد تنشأ عنه "تداعيات لا يمكن الإحاطة بها للتأثير في حرب أوكرانيا، وفي السياسة الخارجية لروسيا في الشرق الأوسط كله"، لكن "لا شك في أن هذه الأحداث تقوِّض وحدة الموقف الروسية، وقد تغير من رؤية الجهات الفاعلة في المشرق لموسكو".
من الجدير بالذكر أن سوريا هي العمود الفقري للحضور الذي تبرز به موسكو قوتها في الإقليم. فقاعدتها البحرية في طرطوس توفر لها بوابة استراتيجية إلى شرق البحر المتوسط. علاوة على ذلك، فإن الشركات المرتبطة بفاغنر حصلت على حصص مربحة في حقول النفط والغاز بالأراضي التي كان يسيطر عليها تنظيم الدولة الإسلامية "داعش".
وقال يوناتان توفال، المحلل في المعهد الإسرائيلي للسياسات الخارجية الإقليمية (ميتفيم): "أياً كانت التغيرات الناشئة عن الأزمة الأخيرة، فمن المحتم أنها ستُزعزع من صورة القوة الروسية في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا".
في أعقاب الحرب على أوكرانيا، اضطرت روسيا إلى تقليص وجودها العسكري في سوريا، غير أن الحرب لم تؤثر في القوات النظامية الروسية وحدها، بل أثرت في حضور فاغنر أيضاً.
ولكن في المقابل، يعتقد أن توسع نفوذ فاغنر في السودان مع اندلاع الحرب الأهلية، وقبل ذلك بسبب الذهب.
وقال توفال لموقع MEE: "تكافح مجموعة فاغنر للحفاظ على تماسك عملياتها في جبهات متعددة، وزاد على ذلك الضغوط القوية التي تمارسها الولايات المتحدة على حلفائها في الشرق الأوسط لطردِ مرتزقة المجموعة من السودان وليبيا"، و"السؤال هنا هو ما إذا كانت هذه التطورات سينشأ عنها فراغ في النفوذ يسمح لجهات أخرى بالدخول والتأثير، وإن كان للأمر في مجمله تداعيات غير محمودة، أبرزها زعزعة الاستقرار السريع في مناطق كثيرة، منها سوريا وليبيا".
ومع ذلك، فإنّ تراجع النفوذ الروسي في المنطقة قد بات ملموساً بالفعل. وقد أورد موقع MEE العام الماضي، أن روسيا اضطرت إلى إرجاء اتفاقات لتسليم أسلحة إلى دول في الشرق الأوسط لنقص الإمدادات بسبب الحرب في أوكرانيا.
الكرملين يستطيع وقف أنشطة فاغنر في سوريا، ولكن في إفريقيا قد تتحول لمجموعات منفلتة من المرتزقة
من جهة أخرى، قال كيريل سيمينوف، الخبير في مجلس الشؤون الدولية، إن الحضور العسكري الروسي في سوريا يسهِّل على الكرملين إيقاف أنشطة فاغنر هناك، لكن الأمر سيكون "أصعب" على موسكو إذا أرادت تصفية المجموعة في ليبيا وغيرها من الدول الإفريقية التي تنتشر فيها فاغنر، ولا توجد فيها قوات نظامية روسية.
وقال سيمينوف: "لا توجد قوات روسية في هذه المناطق، والأنظمة المحلية تتعامل مباشرة مع فاغنر، وليس مع الهياكل الروسية الرسمية"، ومن ثم "لا يمكننا أن نستبعد الاحتمال القائل بأنه إذا قُمع التمرد، فقد تتحول فروع فاغنر في إفريقيا إلى مجموعات منفلتة من المرتزقة، وتتولى هي بناء علاقات مع الحكومات المحلية دون أن تحسب حساباً لموسكو".
أي قد نكون في وضع تختفي فيه فاغنر في روسيا وأوكرانيا وسوريا، ولكنها ستواصل الوجود في ليبيا والسودان وإفريقيا الوسطى ومالي وغيرها من الدول الإفريقية المجاورة.
وفي هذه الحالة هناك سيناريوهان: إما أن ينفرط عقدها وتتحول إلى مجموعات مقاتلين منفلتة وهائمة على وجوهها، وإما أن تقيم كيانات مستقلة في إفريقيا اعتماداً على علاقتها بالقوى المحلية والموارد المالية المنهوبة من المنطقة.
وقد يكون السيناريو الثالث أن تعيد مجموعات فاغنر في إفريقيا الروابط مع الكرملين، بعيداً عن قائد المجموعة يفغيني بريغوجين، الذي قيل إنه ذهب لبيلاروسيا، ولكن يظل هذا الاحتمال أقل في ظل الهوة العميقة التي تشكلت بين مرتزقة فاغنر والرئيس الروسي فلاديمير بوتين والأجهزة الروسية المعنية.