انقلب بدن قارب الصيد في الماء أثناء غرقه، ما أدَّى إلى دفع الناس من السطح العلوي إلى البحر المظلم تحته. وفي الظلام، تمسكوا بكل ما أمكنهم لكي يبقوا طافين، فدفعوا بعضهم بعضاً تحت الماء في معركة محمومة من أجل البقاء. كان البعض يصرخ، وبدأ الكثيرون في تلاوة دعواتهم الأخيرة، كان هذا هو المشهد الذي رواه الناجون من حادث غرق قارب المهاجرين في المتوسط، والذين يحمّل بعضهم اليونان مسؤولية الكارثة.
وقال أحد الناجين من كارثة قارب المهاجرين قبالة سواحل اليونان لشبكة CNN الأمريكية: "لا يزال بإمكاني سماع صوت امرأة تصرخ طلباً للمساعدة. كان المرء يسبح ويُبعِد الجثث الطافية عن طريقه".
100 شخص نجوا من بين نحو 750 راكباً
وفيما لا يزال مئات الأشخاص في عداد المفقودين بعد انقلاب القارب المكتظ في البحر المتوسط في 14 يونيو/حزيران، ترسم شهادات أولئك الذين كانوا على متنه صورة من الفوضى واليأس. كما أنَّها تثير شكوكاً بشأن رواية خفر السواحل اليوناني للأحداث، ما يشير إلى أنَّه كانت هنالك إمكانية لإنقاذ المزيد، وربما تشير حتى إلى خطأ من جانب السلطات اليونانية.
تزعم مجموعات حقوقية أنَّ المأساة تمثل دليلاً إضافياً على، ونتيجة لـ، نمط جديد من الترحيل الفوري غير القانوني إلى مياه الدول الأخرى، بما يؤدي إلى نتائج مميتة.
كان هذا القارب يحمل ما يصل إلى 750 لاجئاً ومهاجراً باكستانياً وسورياً ومصرياً وفلسطينياً. أُنقِذَ منهم على قيد الحياة 104 أشخاص فقط.
ناجون من حادث غرق قارب المهاجرين يتهمون الخفر اليوناني بالمسؤولية لأنهم سحبوا القارب
وقد أجرت شبكة CNN مقابلات مع عدد من الناجين من غرق القارب وأقاربهم، وقد أرادوا جميعاً عدم الكشف عن هُويتهم لأسباب أمنية وخوفاً من انتقام السلطات في كلٍّ من اليونان وبلدانهم.
تحدث أحد الناجين، ستُعرِّفه شبكة CNN باسم "رامي"، عن كيف اقتربت سفينة لخفر السواحل اليوناني من قارب اللاجئين عدة مرات لمحاولة ربط حبل لسحب القارب، الأمر الذي كانت نتائجه كارثية.
فقال رامي: "في المرة الثالثة التي سحبونا فيها، مال القارب إلى الجهة اليمنى وكان الجميع يصرخون، وبدأ الناس يسقطون في البحر، وانقلب القارب ولم يرَ أحدٌ أحداً مجدداً. فانفصل الأشقاء، وانفصل الأقارب".
يعتقد سوري آخر، يُعرَف باسم "مصطفى"، أنَّ مناورة خفر السواحل اليوناني هي ما تسبَّبت بالكارثة. وقال: "سَحَبَنا القبطان اليوناني بسرعة بالغة، كان شديد السرعة، وتسبَّب ذلك في غرق قاربنا".
الناجون يخشون الحديث والخفر اليوناني يقول إنه لم يكن بجوار القارب
وأفادت تقارير بأنَّ خفر السواحل اليوناني نفى محاولة سحب القارب. ولا يزال تحقيق رسمي في سبب المأساة جارياً.
وقال المتحدث باسم خفر السواحل اليوناني نيكوس أليكسيو لشبكة CNN عبر الهاتف الأسبوع الماضي: "حين انقلب القارب، لم نكن حتى بجواره، فكيف لنا أن نسحبه؟"، ويُصِرُّ بدلاً من ذلك على أنَّ خفر السواحل كان "يراقب من بُعد"، وأنَّ "حدوث تغيُّر في الوزن في الغالب بسبب الذعر" قد تسبَّب بانقلاب القارب.
كانت الروايات المباشرة من أولئك الذين نجوا من حادث غرق قارب المهاجرين محدودة بسبب مخاوفهم من التحدث علانيةً وقدرة وسائل الإعلام المحدودة على الوصول إلى الناجين. وقد أجرت CNN مقابلة مع رامي ومصطفى خارج مخيم "ملكاسا" للهجرة قرب أثينا، والذي لا يُسمَح للصحفيين بدخوله.
شربوا من زجاجات كانوا قد تبولوا فيها
وقال السوريان إنَّ الأوضاع على متن قارب الهجرة تدهورت بسرعة في الفترة التي تزيد عن خمسة أيام بعد انطلاقه من طبرق الليبية في طريقه إلى إيطاليا. فقد نفد منهم الماء ولجأوا إلى الشرب من زجاجات تخزين كان الناس قد تبوَّلوا فيها.
قال رامي: "كان الناس يموتون، وكانوا يفقدون الوعي".
تجدر الإشارة إلى أن القارب المخصص للصيد انقلب وغرق في وقت مبكر من صباح الأربعاء 14 يونيو/حزيران 2023، على بعد نحو 50 ميلاً (80 كيلومتراً) من بلدة بيلوس الساحلية بجنوب اليونان، وكان يحمل على متنه ما نحو 750 شخصاً مكدسين على متن قارب الصيد الذي يتراوح طوله بين 20 و30 متراً.
لا تزال أسباب غرق السفينة غير واضحة، لكن المسؤولين اليونانيين والناجين والمنظمات غير الحكومية يقولون إنَّ الاكتظاظ كان عاملاً مساهماً.
ويعتقد الخبراء أنَّ سفينة الصيد ربما نفد وقودها أو واجهت مشكلات في المحرك؛ مما أدى إلى انقلابها إثر تحرك الناس.
اليونانيون كانوا يعلمون بوجوده قبل 13 ساعة من غرقه، وتدخل سفن أخرى زاد الأمور فوضى
ويشير تحليل CNN لبيانات الملاحة البحرية، جنباً إلى جنب مع المعلومات من المنظمات غير الحكومية والسفن التجارية والوكالة الأوروبية لحرس الحدود والسواحل (فرونتكس)، إلى أنَّ السلطات اليونانية كانت على علم بالقارب المنكوب منذ 13 ساعة على الأقل قبل غرقه في نهاية المطاف في وقتٍ مبكر من يوم 14 يونيو/حزيران.
يُصِرُّ خفر السواحل اليوناني على أنَّ الأشخاص على متن القارب قد رفضوا الإنقاذ وأصرّوا على رغبتهم في مواصلة رحلتهم إلى إيطاليا. لكنَّ الناجين وأقاربهم والنشطاء يقولون إنَّهم قد طلبوا المساعدة عدة مرات.
وحاولت سفن أخرى مساعدة القارب في وقتٍ سابق من ذلك اليوم. فوفقاً لبيانات الملاحة البحرية وسجلات تلك السفن، اقتربت سفينتان تجاريتان –السفينة "Lucky Sailor" والسفينة "Faithful Warrior"- بتوجيهٍ من خفر السواحل اليوناني، من قارب المهاجرين بين السادسة والتاسعة مساء 13 يونيو/حزيران لتقديم إمدادات. لكن وفقاً للناجين، لم يتسبَّب ذلك إلا في مزيد من الفوضى على متن القارب.
قال مصطفى: "اندلعت الشجارات حول الطعام والماء، وكان الناس يصرخون ويصيحون. وكان القارب على وشك الغرق عدة مرات لولا الناس الذين كانوا يحاولون تهدئة الوضع".
رواية أخرى تقول إن حركة الناس أدت لتمايل القارب بشكل خطير
ووفقاً لتسجيل صوتي اطَّلعت عليه CNN من الناشطة الإيطالية نوال الصوفي، التي تلقَّت مكالمة استغاثة من قارب اللاجئين عند حوالي الساعة 7 مساءً، كان ستة أشخاص قد ماتوا على متن القارب بالفعل بحلول أوائل المساء. وأكَّدت تواصلات نوال مع القارب أيضاً رواية مصطفى بأنَّ الناس انتقلوا من أحد جانبي القارب إلى الجانب الآخر بعد تقديم زجاجات مياه من سفينتيّ الشحن، وهو ما تسبَّب بتمايله على نحوٍ خطير.
جاءت الكلمات الأخيرة المؤلمة التي أُرسِلَت من قارب اللاجئين قبل دقائق فقط من انقلابه. فوفقاً لتسلسل زمني للأحداث نشرته منظمة "Alarm Phone" (هاتف الإنذار) غير الحكومية، تلقَّت المنظمة مكالمة عند حوالي الساعة 1:45 صباحاً، قِيلَ فيها: "مرحباً يا صديقي.. السفينة التي أرسلتموها…"، ثُمَّ تنقطع المكالمة.
يقول خفر السواحل إنَّ القارب بدأ الغرق بحدود الثانية صباحاً.
ووفقاً لبيانات الملاحة البحرية، كان النشاط التالي المعروف في المنطقة هو وصول مجموعة من السفن بدءاً من الساعة الثالثة صباحاً تقريباً. وكان يخت "The Mayan Queen" العملاق أول الواصلين إلى الموقع الذي سرعان ما تحول إلى عملية إنقاذ جماعية.
اتهامات لأثينا بأنها تدفع القوارب للابتعاد عن سواحلها
تقول مجموعات حقوق الإنسان إنَّه كان على السلطات واجب للتحرُّك من أجل إنقاذ الأرواح بصرف النظر عما كان الناس على متن القارب يقولونه لخفر السواحل قبل انقلابه.
وقال المبعوث الخاص للمفوضية السامية لحقوق الإنسان لشؤون وسط البحر المتوسط، فنسنت كوشتيل، لشبكة CNN في مقابلة، إنَّ هنالك اتجاهاً متزايداً من جانب دول، بينها اليونان، لمساعدة قوارب المهاجرين على مغادرة مياهها. وأضاف: "هذه ممارسة رأيناها في الأشهر الأخيرة. فبعض الدول الساحلية تقدم الطعام وتقدم المياه، وأحياناً سترات النجاة، بل أحياناً حتى الوقود لتسمح لمثل هذه القوارب بالمواصلة إلى وجهة واحدة فقط: إيطاليا".
وهنالك العديد من النماذج الموثقة في السنوات الأخيرة لزوارق الدورية اليونانية التي تنخرط في ما يُسمَّى "الترحيل الفوري" لسفن المهاجرين من المياه اليونانية، بما في ذلك تحقيق لـCNN عام 2020.
يقول عمر شاتز، المدير القانوني لمنظمة "Front-LEX" غير الحكومية، لـCNN: "يبدو الأمر شبيهاً بما يقوم به اليونانيون منذ مارس/آذار 2020 باعتباره سياسة ممنهجة، وهي عمليات الترحيل الفوري ومحاولة سحب قارب ما إلى مياه بلد آخر من أجل تجنُّب المسؤولية القانونية للإنقاذ. لأنَّ الإنقاذ يعني إنزال (مَن على متن السفينة)، والإنزال يعني النظر في طلبات اللجوء".
ويمثل ذلك انتهاكاً للقانون الدولي، وكذلك للنظم الأوروبية. ولا يبدو أنَّ تلك الإجراءات تردع مهرِّبي البشر الذين يستهدفون المهاجرين الضعفاء واليائسين.
وفي مقابلة مع CNN الشهر الماضي، مايو/أيار، نفى رئيس الوزراء اليوناني كيرياكوس ميتسوتاكيس انخراط بلاده في عمليات ترحيل فوري متعمَّدة، ووصفها بأنَّها "ممارسة غير مقبولة تماماً".
وتعرَّضت سلسلة من الحكومات اليونانية للانتقاد بسبب سياستها في التعامل مع الهجرة، بما في ذلك الأوضاع في مخيمات اللاجئين، لا سيما عقب أزمة اللاجئين عام 2015-2016، حين دخل أكثر من مليون شخص أوروبا عبر اليونان.
بالنسبة لأولئك الذين نجوا من حادث الغرق الأسبوع الماضي، لن تُنسى التجربة المرعبة أبداً.
فيقول مصطفى ورامي إنَّهما يتمنيان لو أنَّهما لم يشرعا بالرحلة قط، بالرغم من حقيقة أنَّهما الآن في أوروبا ويمكنهما طلب اللجوء.
ويقول مصطفى إنَّ الأهم من ذلك كله أنَّه يتمنى لو أنَّ خفر السواحل اليوناني لم يقترب قط من قاربهم: "لو أنَّهم تركونا وشأننا، لما غرقنا".