يواجه فلاديمير بوتين التحدي الأكبر لقبضته الحديدية على السلطة، وربما تكون الأربع وعشرين ساعة المقبلة حاسمة في تحديد مصير روسيا، فأين تتجه المواجهة بين فاغنر والجيش؟
ففي الوقت الذي تتحرك قوات فاغنر بأوامر زعيمها، يفغيني بريغوجين، نحو موسكو وتستهدفها مروحيات الجيش الروسي، وسط تحدٍّ علني غير مسبوق من الرجل الذي كان يلقب بأنه "طباخ بوتين" لسلطة الرئيس، لم تخفِ أوكرانيا وداعموها الغربيون "بهجتهم" بما يحدث بطبيعة الحال، فما السيناريوهات المحتملة لما يحدث؟ وما مصير سلطة بوتين نفسها؟
فوضى لم تشهدها روسيا منذ أكثر من قرن
"التمرد المسلح" من جانب بريغوجين، كما وصفه بوتين، بدأ فعلياً منذ صباح السبت، 24 يونيو/حزيران، في أعقاب نشر زعيم "فاغنر" مقطعاً مصوراً مساء الجمعة يتهم فيه وزير الدفاع، سيرغي شويغو، ورئيس الأركان، وفاليري غيراسيموف، وباقي جنرالات الجيش الروسي، بقصف مركز لقواته، وهو ما نفته وزارة الدفاع.
تحركت "فاغنر" وحاصرت مبنى القيادة العامة للجيش الروسي في مدينة روستوف أون دون، جنوبي روسيا، واستولت على المدينة بشكل كامل، ثم استولت قواته، المقدرة بنحو 25 ألف مقاتل مسلحين بشكل جيد، على مدينة أخرى هي فراينبورغ، التي تبعد 500 كلم عن موسكو من ناحية الجنوب.
هذه التحركات يمكن وصفها بأنها "مستحيلة لكنها كانت متوقعة". مستحيلة بسبب السيطرة المطلقة التي يتمتع بها بوتين منذ وصوله إلى قمة السلطة في الكرملين قبل 23 عاماً تقريباً، وعدم تساهله مطلقاً مع أي شكل من أشكال المعارضة، ومن يتجرأون على معارضته إما يختفون أو يموتون في "حوادث" غامضة، وإما يغيبون خلف القضبان.
وعلى الرغم من أن بريغوجين، الذي تمثل قواته "فاغنر" رأس الحربة في الهجوم الروسي على أوكرانيا، الذي تصفه موسكو بأنه "عملية عسكرية خاصة"، بينما يصفه الغرب بأنه "غزو عدواني غير مبرر"، يشن منذ شهور طويلة انتقادات لاذعة لقيادات الجيش الروسي، وصلت إلى حد وصفهم بأنهم "حثالة وكلاب"، إلا أن بوتين ظل متفرجاً على ذلك التناحر الداخلي بين قواته التي تحارب في أوكرانيا.
وكان التفسير الأكثر شيوعاً لصبر بوتين على انفعالات وإهانات "طباخه" لجنرالاته هو أن الرئيس الروسي يستخدم "فاغنر" وزعيمها "كقوة موازية" لقيادات الجيش كي لا يفكر أي منهم في الانقلاب على الرئيس، لكن يبدو أن الأمور خرجت عن السيطرة بصورة مفاجئة للغاية، فهل وقع المحظور في روسيا؟
خرج بوتين علناً ليصف ما أقدم عليه بريغوجين بأنه "خيانة، وطعنة في الظهر"، ففي خطاب استثنائي نقله التلفزيون الرسمي، السبت، قال بوتين إن "التمرد المسلح" لمجموعة فاغنر العسكرية الخاصة خيانة، وإن أي شخص يحمل السلاح ضد الجيش الروسي سيعاقب. وأضاف أنه سيفعل كل شيء لحماية روسيا، وأنه سيتم اتخاذ "إجراء حاسم" لتحقيق الاستقرار في روستوف أون دون.
وفي الوقت نفسه، فتح جهاز الأمن الفيدرالي الروسي تحقيقاً جنائياً ضد بريغوجين بسبب تهديداته، واتهمه بالدعوة إلى "تمرد مسلح". إذ نص بيان جهاز الأمن الفيدرالي على التالي: "تمثل تصريحات وتصرفات بريغوجين في الواقع دعوات لإشعال صراع أهلي مسلح على أراضي الاتحاد الروسي، كما تمثل طعنة في ظهر جنود روسيا الذي يحاربون القوات الأوكرانية الموالية للفاشية". كما دعا البيان مقاتلي "فاغنر" إلى اعتقال قائدهم.
لا تزال الأمور مشتعلة والتطورات متسارعة، ولا أحد يمكنه التنبؤ بما قد تؤول إليه الأوضاع في روسيا، لكن بطبيعة الحال يشهد المعسكر الغربي الداعم لأوكرانيا حالة من "البهجة" من الصعب أن تخفى على أحد.
فرحة أوكرانية وترقب غربي
الرئيس الأوكراني، فولوديمير زيلينسكي، كان الأسرع في القفز على الموقف، إذ قال السبت إن "ضعف روسيا بات واضحاً" وإنه كلما أبقت موسكو قواتها ومقاتليها في أوكرانيا لمدة أطول، زادت الفوضى التي ستعود عليها داخل روسيا.
وأدلى بتعليقاته على تطبيق تليغرام، وكتب زيلينسكي "ضعف روسيا واضح. ضعف تام"، وأضاف "كلما أبقت روسيا قواتها ومقاتليها على أراضينا لمدة أطول، زادت الفوضى والألم والمشكلات التي ستجنيها على نفسها لاحقاً".
كما ناشد دميترو كوليبا وزير الخارجية الأوكراني المجتمع الدولي "التخلي عن الحياد الزائف" تجاه روسيا وتزويد كييف بكل الأسلحة التي تحتاجها لطرد القوات الروسية من الأراضي الأوكرانية. وكتب على تويتر "أولئك الذين قالوا إن روسيا أقوى من أن تخسر: انظروا الآن… حان الوقت للتخلي عن الحياد الزائف والخوف من التصعيد.. أعطوا أوكرانيا كل الأسلحة اللازمة.. انسوا أي صداقة أو عمل مع روسيا"، مضيفاً: "حان الوقت لوضع حد للشر الذي يبغضه الجميع، لكن يخافون بشدة من القضاء عليه".
وفي بركسيل، قالت متحدثة باسم حلف شمال الأطلسي (الناتو) في رسالة بالبريد الإلكتروني لرويترز إن الحلف "يراقب الوضع" في روسيا، ولم تدل المتحدثة، أوانا لونجيسكو، بأي تصريحات أخرى.
لكن رئيس المجلس الأوروبي شارل ميشيل كان أقل حذراً، فقال إنه "يراقب عن كثب" الوضع في روسيا، وإنه على اتصال بقيادات الاتحاد الأوروبي الأخرى والشركاء في مجموعة السبع، وكتب ميشيل على تويتر "من الواضح أن هذه قضية روسية داخلية". وقال أيضاً إن دعم الاتحاد الأوروبي لأوكرانيا ورئيسها فولوديمير زيلينسكي "لا يتزعزع".
أما وسائل الإعلام الغربية فقد كانت أكثر تعبيراً عن الفرحة بما يحدث على الأراضي الروسية، وسارعت أغلبها في وضع سيناريوهات للموقف المنفجر بين فاغنر والجيش الروسي وتداعيات النتيجة أياً كانت على قبضة بوتين على السلطة.
ونشرت شبكة CNN الأمريكية تقريراً عنوانه "الولايات المتحدة كانت تراقب عن كثب صراع السلطة بين بريغوجين والحكومة الروسية"، في إشارة إلى أن التمرد المسلح الذي شنّته قوات فاغنر السبت لم يكن تصرفاً تلقائياً أو وليد الصدفة، فهل يعني ذلك أنه كانت هناك قنوات تواصل خلفية بين زعيم فاغنر وبين الإدارة الأمريكية؟
لا أحد يمكنه تقديم إجابات على مثل هذه النوعية من التساؤلات بطبيعة الحال، لكن التصريحات التي ألقى بها بريغوجين بشأن الحرب في أوكرانيا، وقوله إن حلف الناتو لم يكن "يخطط لشن أي هجوم على روسيا"، في تبنٍ واضح لوجهة النظر الغربية ودحضٍ لوجهة النظر الروسية يثير التساؤلات والشكوك أيضاً، بحسب بعض المراقبين الروس.
كيف ستتأثر قبضة بوتين الحديدية في روسيا؟
بشكل عملي، من الصعب تصور أن ينجح بريغوجين في الانتصار على الجيش الروسي في ظل التفوق الكاسح للجيش، وكان زعيم فاغنر نفسه قد استبعد أنه يسعى للانقلاب والإطاحة ببوتين، حيث قال إنه "لا يمتلك قوات كافية للقيام بذلك!".
لكن بريغوجين رفض أوامر الرئيس فلاديمير له ولقواته بتسليم أنفسهم، بعد أن تعهد بوتين بسحق التمرد المسلح، وقال زعيم فاغنر في رسالة صوتية "الرئيس يرتكب خطأ فادحاً عندما يتحدث عن الخيانة. ولاؤنا لوطننا.. قاتلنا ونقاتل من أجله".
وأضاف "لن يسلّم أحد نفسه ويعترف بأمر من الرئيس أو جهاز الأمن الاتحادي أو أي شخص آخر. لأننا لا نريد أن تستمر البلاد في العيش لفترة أطول في الفساد والخداع والبيروقراطية".
شبكة CNN نشرت تحليلاً عنوانه "بوتين يواجه خطر فقدان قبضته على السلطة" يقول إن بريغوجين ربما كان يريد أن يضغط على الرئيس الروسي كي يقيل وزير الدفاع ورئيس هيئة الأركان العامة، لكن رد فعل بوتين، السبت، قتل هذا الاحتمال تماماً، وأصبح بريغوجين عدواً ينتظر مصيره.
وبحسب تحليل الشبكة الأمريكية، فإن الأربع وعشرين ساعة القادمة تعتبر "حاسمة" في تحديد مصير بريغوجين وبوتين نفسه، وربما مصير روسيا والحرب في أوكرانيا، لكن لا أحد يمكنه الجزم بمدى دقة هذا التحليل، الذي يبدو أقرب إلى الأمنيات الغربية منذ اندلعت الحرب في أوكرانيا في فبراير/شباط 2022.
صحيفة الغارديان البريطانية نشرت تحليلاً عنوانه "حتى لو فشلت ثورة فاغنر المسلحة، رئاسة بوتين لم تكن أبداً بهذا الضعف"، رصد أن ما تشهده روسيا من اقتتال داخلي بين فاغنر والجيش، وبغض النظر عن النتيجة التي قد يؤول إليها، يعتبر المؤشر الأبرز على مدى الضعف الذي تمر به سلطة بوتين وقبضته الحديدية.
وبحسب تحليل الصحيفة، يبدو أن سياسة "فرّق تسد" التي اتبعها الرئيس الروسي في تعامله مع جنرالاته ومراكز القوى في الكرملين على مدى أكثر من 20 عاماً، قد وصلت إلى محطتها الأخيرة بهذا التمرد المسلح الذي يقوده بريغوجين، والذي على الأرجح سينتهي بالفشل وبفقدان زعيم فاغنر سلطته على الشركة شبه العسكرية وربما حياته نفسها.
لكن الأمر الذي لا يمكن التكهن به هو ماذا بعد انتهاء هذا "التمرد المسلح" بالفشل؟ كيف ستكون سلطة بوتين وصورته كزعيم مطلق، التي تضررت بشدة بما يحدث بطبيعة الحال. فهل تأخر بوتين في التعامل مع بريغوجين رغم تحذيرات قيادات الجيش؟
إيغور جيركين، القائد السابق للمسلحين الانفصاليين في شرق أوكرانيا، كان قد وجه اتهامات إلى مؤسس فاغنر، زعم فيها أن الإهانات التي وجهها بريغوجين إلى كبار المسؤولين الروس في مقاطع فيديو تمتلئ بالبذاءات، تؤشر إلى أنه يخطط للاستيلاء على السلطة.
وفي الأسابيع الأخيرة، وسَّع بريغوجين قائمة أهدافه من الضباط العسكريين إلى من وصفهم بـ"المهرجين في الميدان القديم" -وهو عنوان إدارة بوتين الرئاسية.
وقالت تاتيانا ستانوفايا، الباحثة غير المقيمة في مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي، إن "هذه التسجيلات إنما تنم عن يأسه"، فهي "محاولة للوصول إلى بوتين بالدعاية، وتخويف السلطات العسكرية من عواقب سياسية".
بينما قالت وكالة بلومبرغ الأمريكية إن المؤسسة الأمنية والسياسية في روسيا باتت تنظر إلى قائد فاغنر على أنه "تهديد متزايد"، ولذلك فهو يعاني من نقص في القوى العاملة والذخيرة في أوكرانيا، بعد أن مُنع من تجنيد نزلاء السجون الذين يمثلون مصدره الأساسي للتجنيد، وحرم من الإمدادات.