أثار الاستقبال الفخم الذي قابل به الرئيس جو بايدن ضيفه ناريندرا مودي كثيراً من التساؤلات والشكوك بشأن دوافع "شهر العسل" بين واشنطن ونيودلهي، فما فرص نجاح أمريكا في استمالة الهند؟
كان مودي قد وصل، الثلاثاء 21 يونيو/حزيران، إلى الولايات المتحدة في زيارة دولة، وتوقف أولاً في نيويورك قبل أن يصل البيت الأبيض، الأربعاء، ويلقي خطاباً أمام الكونغرس، الخميس، ويعقد محادثات مع مضيفه بايدن، في أجواء احتفالية غير مسبوقة.
وحتى تتضح الصورة بشأن أوجه الاستغراب من هذه الحفاوة المبالغ فيها من جانب إدارة جو بايدن، رغم التحالف بين الولايات المتحدة والهند، من المهم رصد طبيعة العلاقة بين واشنطن وبكين منذ وصول بايدن إلى البيت الأبيض مطلع عام 2021.
انتقادات إدارة بايدن لانتهاكات مودي لحقوق الإنسان
من الناحية التاريخية، توصف العلاقات بين الهند والولايات المتحدة بأنها شراكة استراتيجية، لكن منذ وصول مودي إلى رئاسة الحكومة في الهند عام 2014، انتهج السياسي الهندوسي وحزبه بهاراتيا جاناتا سياسات قمعية بحق الأقليات، وبخاصة المسلمون دون توقف.
ومع وصول بايدن إلى السلطة في البيت الأبيض وإعلانه عن "عودة أمريكا" لقيادة "العالم الحر" ووضع حقوق الإنسان في القلب من سياسته الخارجية، كان من الطبيعي أن تتأثر علاقات واشنطن ونيودلهي؛ إذ يتبنى مودي وحزبه الحاكم سياسات قومية هندوسية تزيد الاستقطاب الديني منذ توليه السلطة في 2014، وبعد وقت قصير من إعادة انتخابه رئيساً للوزراء في 2019، ألغت حكومة مودي الوضع الخاص لإقليم كشمير في مسعى لدمج المنطقة ذات الأغلبية المسلمة بشكل كامل مع بقية أجزاء البلاد.
وللسيطرة على الاحتجاجات الهادرة اعتراضاً على القرار، اعتقلت الإدارة الكثير من القيادات السياسية في كشمير وأرسلت مجموعات شبه عسكرية كثيرة أخرى من الشرطة والجنود إلى الإقليم الواقع بمنطقة جبال الهيمالايا، والذي تطالب باكستان أيضاً بالسيادة عليه. وحظر حزب بهاراتيا جاناتا الذي ينتمي له مودي ارتداء الحجاب في الفصول الدراسية بولاية كارناتاكا. وطالبت جماعات هندوسية متشددة فيما بعد بمثل هذه القيود في ولايات هندية أخرى.
ومنذ وصول مودي إلى السلطة، شنت جماعات هندوسية يمينية هجمات على أقليات بدعوى أنها تحاول منع التحول الديني، وأقرت عدة ولايات هندية، وتعمل أخرى على دراسة، قوانين مناهضة لحق حرية الاعتقاد الذي يحميه الدستور.
كما أقرت حكومة مودي قانوناً يخص الجنسية قال معارضون له إنه تقويض لدستور الهند العلماني بإقصاء المسلمين المهاجرين من دول مجاورة. والقانون من شأنه منح الجنسية الهندية للبوذيين والمسيحيين والهندوس والجاينيين والبارسيين والسيخ الذين فروا من أفغانستان وبنغلاديش وباكستان قبل 2015.
ورغم القائمة الطويلة والمستمرة من الإجراءات التي تنتهك حقوق الإنسان وتهدد النظام الديمقراطي الراسخ في الهند منذ عقود طويلة، تمتع مودي بعلاقات قوية مع واشنطن خلال رئاسة دونالد ترامب.
وامتنع بايدن وإدارته عن توجيه انتقادات لحكومة مودي، حتى بدأ الهجوم الروسي على أوكرانيا في فبراير/شباط 2022، والذي تصفه موسكو بأنه "عملية عسكرية خاصة" بينما يصفه الغرب بأنه "غزو عدواني غير مبرر".
ففي أبريل/نيسان 2022، وجَّه وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن انتقادات علنية للهند، وقال إن الولايات المتحدة ترصد تزايداً في انتهاكات من بعض المسؤولين بالهند لحقوق الإنسان: "نتواصل بانتظام مع شركائنا الهنود بشأن هذه القيم المشتركة (لحقوق الإنسان)، ولهذا، فإننا نرصد بعض التطورات المثيرة للقلق في الهند مؤخراً، ومنها زيادة انتهاكات حقوق الإنسان من جانب بعض مسؤولي الحكومة والشرطة والسجون".
اللافت هنا هو أن تلك الانتقادات النادرة من جانب إدارة بايدن جاءت بعد أيام قليلة من تساؤل النائبة الأمريكية إلهان عمر حول ما تعده تردداً من الحكومة الأمريكية في انتقاد حكومة مودي فيما يتعلق بحقوق الإنسان؛ إذ قالت إلهان عمر، التي تنتمي إلى الحزب الديمقراطي الذي ينتمي له الرئيس جو بايدن: "ما الذي يحتاج مودي أن يفعله ضد السكان المسلمين في الهند حتى نتوقف عن اعتباره شريكاً في السلام؟".
لكن تلك الانتقادات النادرة كان لها دافع مختلف لا علاقة له بحقوق الإنسان، بل كان ورقة ضغط على خلفية الموقف الهندي من الحرب في أوكرانيا. فحكومة مودي امتنعت عن فرض أي عقوبات على روسيا أو تبني موقف الغرب باعتبار الحرب "غزواً روسياً"، وامتنعت نيودلهي عن التصويت على قرارات الأمم المتحدة التي تدين روسيا.
أما اقتصادياً، فلم تكتفِ الهند بعدم فرض عقوبات على روسيا، بل توسعت في شراء النفط والغاز من روسيا بصورة غير مسبوقة، مستفيدة من الأسعار المخفضة للطاقة الروسية.
ماذا يريد بايدن من مودي؟
حفاوة الاستقبال الأمريكية لبايدن لفتت الأنظار بشدة، إذ نشرت مجلة Responsible Statecraft الأمريكية تقريراً عنوانه "مودي يزور واشنطن وسط شهر عسل في علاقات أمريكا والهند"، والسؤال هنا: متى بدأ شهر العسل هذا؟ وما مظاهره؟
أما شبكة فوكس نيوز فقد اختارت لتغطية الزيارة عنوان "الفرصة الذهبية"، راصدة كيف أن بايدن "يستقبل مودي بحفاوة بالغة في ظل التوتر الأمريكي مع الصين وروسيا، وهو ما يجعل من ولاء الهند لواشنطن أمراً بالغ الأهمية".
وللتدليل على مدى الأهمية التي توليها إدارة بايدن، قضى جيك سوليفان مستشار الأمن القومي الأمريكي يومين في الهند الأسبوع الماضي للتحضير لأجندة زيارة مودي، إذ أعلن البيت الأبيض الخميس الماضي أن سوليفان زار الهند الثلاثاء تمهيداً للزيارة الرسمية لمودي إلى الولايات المتحدة، وجاء في بيان أن "سوليفان زار العاصمة الهندية نيودلهي في الفترة من 13 إلى 14 يونيو/حزيران الجاري، حيث التقى رئيس الوزراء ناريندرا مودي، ووزير الشؤون الخارجية سوبراهمانيام جايشانكار، ونظيره مستشار الأمن القومي الهندي أجيت دوفال".
وأضاف البيان أن سوليفان بحث خلال الزيارة "الاستعدادات المرافقة للزيارة الذي سيجريها مودي الأسبوع المقبل إلى الولايات المتحدة، فضلاً عن مجموعة من القضايا الاستراتيجية والإقليمية الثنائية". واعتبرت الإدارة الأمريكية أن هذه الزيارات "تعكس الخطوات الرامية لتعزيز الشراكة الاستراتيجية والدفاعية بين الولايات المتحدة والهند".
ولدى وصول مودي إلى البيت الأبيض، تبادل الرئيس الأمريكي وزوجته ورئيس الوزراء الهندي الابتسامات والضحك قبل دخول الضيف، وهناك مأدبة عشاء رسمية مساء الخميس على شرف مودي بعد إلقاء كلمة أمام الكونغرس ثم مؤتمر صحفي نادر مع بايدن.
ماذا تريد واشنطن؟ أن تكون الهند دولة لها ثقل استراتيجي موازن للصين وتراها شريكاً مهماً. ومن المتوقع أن يعلن بايدن ومودي مجموعة متنوعة من الاتفاقات المتعلقة بالتعاون الدفاعي ومبيعات الأسلحة والذكاء الاصطناعي والحوسبة الكمية واستثمارات شركة ميكرون تكنولوجي وغيرها من الشركات الأمريكية في الهند.
ماذا عن انتهاكات حكومة مودي لحقوق الإنسان وتهديد الديمقراطية الأكبر في العالم؟ هل سيعبر بايدن عن مخاوف الولايات المتحدة حيال تراجع الديمقراطية في الهند؟ كان سوليفان صريحاً للغاية في إجابته، إذ قال للصحفيين إن بايدن لن يعطي دروساً لمودي في هذا الموضوع.
وقال سوليفان إنه عندما ترى الولايات المتحدة تحديات لحرية الصحافة أو الحرية الدينية أو غيرهما "فإننا نوضح وجهات نظرنا… نقوم بذلك بطريقة لا نسعى فيها إلى إعطاء دروس أو محاولة الظهور وكأننا لسنا بلا تحديات نحن الآخرين". فهل حقاً لا تعطي أمريكا دروساً للآخرين بشأن حقوق الإنسان أو الديمقراطية؟
الخلاصة هنا هي أن بايدن يسعى بشتى الطرق لاستمالة الهند وإغرائها بتبني الموقف الأمريكي، سواء فيما يتعلق بالحرب في أوكرانيا أو ما يتعلق بالصراع مع الصين، لكن ما مدى فرص نجاح محاولات بايدن هذه المرة؟
ماذا تريد الهند؟
يسعى مودي إلى جعل الهند قوة عظمى على المسرح العالمي وهذا ليس سراً بل هو طموح معلن. فالهند أصبحت أكبر دول العالم من حيث عدد السكان بعد أن تخطت الصين مؤخراً، وعدد سكان الهند حالياً تجاوز 1.4 مليار نسمة، وهي دولة نووية وأصبح اقتصادها الآن يحتل المركز الخامس عالمياً متخطياً اقتصاد المملكة المتحدة.
والهند شريك للولايات المتحدة وعضو في تحالف "كواد"، الذي يضم أمريكا والبابان وأستراليا، لكنها في الوقت نفسه عضو في تجمع "بريكس"، الذي يضم الصين وروسيا والبرازيل وجنوب إفريقيا، كما أن الهند أيضاً عضو فاعل في منظمة شنغهاي للتعاون الاقتصادي مع الصين ودول آسيوية أخرى.
وتسعى واشنطن إلى إقناع الهند بالانضمام إلى حلف الناتو، لكن نيودلهي أعلنت رفضها المطلق لهذا التوجه، في مؤشر واضح على أن مودي يرى أن بلاده تمتلك المقومات التي تجعل منها قوة عظمى على المسرح الدولي، ومن ثم لا تحتاج إلى الانضمام "لتحالف أمريكي"، بحسب ما عبر عنه فيجاي براشاد، مدير معهد الأبحاث الاجتماعية لصحيفة إنديا ناشيونال.
والرسالة نفسها أكد عليها وزير الخارجية في حكومة مودي بقوله إن الهند "ليست مهتمة بالانضمام لحلف الناتو". ويرى براشاد أن "تفكير الحكومة الهندية ينصب على وضع المصالح القومية في المقام الأول وليس الانصياع للمصالح الأمريكية أو الأوروبية أو اليابانية، وهو تطور لا يجب الاستهانة به أو المبالغة فيه أيضاً".
نعم مودي منفتح على توقيع اتفاقيات تجارية واقتصادية وشراء أسلحة متطورة من الولايات المتحدة، لكن هذا لا يعني أن هناك احتمالاً قائماً بأن تنعكس تلك الاتفاقيات على مواقف الهند التي تغضب واشنطن، مثل استيراد النفط الروسي أو الامتناع عن تبني الموقف الغربي من روسيا بسبب الحرب في أوكرانيا.
كما أن الصراع الجيوسياسي بين أمريكا والصين، التي توجد توترات حدودية بينها وبين الهند، لا يعني بالضرورة أن نيودلهي تتبنى الموقف الأمريكي من بكين من منطلق أن "عدو صديقي عدوي"، إذ أظهرت نيودلهي تحت قيادة مودي استقلالية واضحة في مواقفها تجاه العلاقات بين أمريكا والغرب من جهة وبين الصين وروسيا من جهة أخرى.