يمثل تمدد الصين المتسارع في منطقة الشرق الأوسط صداعاً للإدارة الأمريكية، كون المنطقة كانت مسرحاً أمريكياً خالصاً، فهل تُكرر بكين أخطاء واشنطن في المنطقة؟
كانت السنوات الأخيرة قد شهدت صعوداً صينياً لافتاً في منطقة الشرق الأوسط، وبينما تركز النفوذ الصيني في السابق على الجوانب الاقتصادية، فإن السنوات الأخيرة شهدت تمظهراً جديداً لهذا النفوذ، متزامناً مع تعاظم التعاون الاقتصادي مع دول المنطقة، شمل الجوانب العسكرية والدبلوماسية والجيوسياسية.
وفي الوقت نفسه، تراجع الاهتمام الأمريكي بالمنطقة بشكل لافت منذ تولي جو بايدن المسؤولية قبل نحو عامين ونصف العام، وبدأت واشنطن في تركيز سياستها الخارجية على صراع القوى الكبرى، سواء مع روسيا أو الصين.
نفوذ الصين في الشرق الأوسط
وتُعد منطقة الشرق الأوسط من أهم المناطق الجيواقتصادية بالنسبة للصين، سواء بحكم وارداتها النفطية منها أو كون هذه المنطقة ركناً أساسياً في مبادرة الحزام والطريق، حيث تضم المنطقة معظم الممرات البحرية اللازمة لإنجاز هكذا مشاريع، سواء قناة السويس أو مضائق البوسفور، الدردنيل، باب المندب، وهرمز.
وعلى مدى العقد الماضي، استوردت الصين ما يقرب من نصف نفطها من منطقة الشرق الأوسط، فقد استوردت خلال عام 2020 نحو 47% من إجمالي احتياجاتها النفطية -والتي بلغت قيمتها 176 مليار دولار- من دول الشرق الأوسط.
وبشكل عام، بلغ حجم التبادل التجاري بين الصين ودول الشرق الأوسط خلال العام 2022 قرابة 507 مليارات دولار، مسجلاً رقماً قياسياً جديداً، بزيادة 35.7%، مقارنة بعام 2021، ليتصدر الشرق الأوسط قائمة شركاء الصين الكبار.
ولتقريب الصورة أكثر، وكشف مدى التطور في خريطة التبادلات التجارية في المنطقة مع القوى الكبرى، كشف البنك الدولي أن حجم التبادل التجاري بين السعودية والولايات المتحدة انخفض من نحو 20.6 مليار دولار عام 2000، إلى نحو 20.1 مليار دولار عام 2020. بينما قفز حجم التبادل التجاري بين الصين والسعودية من 3.1 مليار دولار في عام 2000 إلى 67.1 مليار دولار في عام 2020.
كما تبلغ القيمة التراكمية للاستثمار الصيني في الخليج وحده 137.2 مليار دولار، بينما بلغت 213.9 مليار دولار في منطقة الشرق الأوسط ككل، بين عامي 2005 و2021. وتأتي معظم هذه الاستثمارات في إطار ما يُعرف بمبادرة الحزام والطريق، والتي ترتكز على الاستثمار في خطوط النقل التجارية والبنية التحتية المسهلة للتجارة الدولية، وهو ما يجعل من الشرق الأوسط حلقة وصل استراتيجيّة في هذه المبادرة، باعتبارها نقطة وصل ما بين أسواق شرق آسيا من جهة، وإفريقيا وأوروبا وحوض البحر المتوسّط من جهة أخرى.
وتعد المساعدات الاقتصادية من أدوات الصين الرئيسية في تعزيز العلاقات مع الشرق الأوسط؛ حيث قدمت لمصر قروضاً بقيمة 15.6 مليار دولار في السنوات بين 2008 و2021. بالإضافة إلى 106 ملايين دولار كانت قد قدمتها كمساعدات لبلدان أخرى، منها 91 مليون دولار مساعدات إنسانية وإنشائية للأردن وسوريا واليمن ولبنان و15 مليون دولار لفلسطين، هذا بخلاف 100 مليون دولار قدمتها لبعثة الأمم المتحدة لحفظ السلام في الصومال عام 2015.
ثم جاء نجاح الوساطة الصينية بين السعودية وإيران، والتي أدت إلى تطبيع العلاقات بينهما، كدليل دامغ على أن النفوذ الصيني في المنطقة يتعدى حدود الاقتصاد والتبادل التجاري، إلى مجالات السياسة والتأثير الإيجابي.
غضب أمريكا من النفوذ الصيني
وعلى الرغم من أن واشنطن كانت الطرف الذي تخلى طواعية عن منطقة نفوذه، إلا أن تسارع الحضور الصيني في الشرق الأوسط بدأ يدق ناقوس الخطر في أروقة السياسة الأمريكية، بحسب تحليل لمجلة The National Interest الأمريكية، يرصد ما قد يمكن أن يحدث في المستقبل القريب، من وجهة النظر الأمريكية بطبيعة الحال.
إذ يقول تحليل المجلة إنه "على الولايات المتحدة أن تعيد النظر في معارضتها الحالية لتمديد الصين نفوذها في الشرق الأوسط، وأن تعمد بدلاً من ذلك إلى استغلال الفرصة السانحة لها من الأمر: تعريض الصين لارتكاب أخطاء باهظة الثمن"، وهو ما يكشف عن وجود "معارضة" أمريكية حالية للتمدد الصيني في المنطقة.
ويعتبر الأمن البحري من أكبر هموم الولايات المتحدة في الشرق الأوسط، لا سيما الأمن البحري في مضيق هرمز، إذ تمر فيه ناقلات نفط تنقل ما يقرب من 17 مليون برميل نفط يومياً. ولحماية هذه المصالح الحيوية، حرصت أمريكا دائماً على وجود منشآتها العسكرية وآلاف من القوات الأمريكية في منطقة الخليج.
لكن تزايد الحضور البحري الصيني في الخليج دفع بعض المراقبين في واشنطن إلى القول بأن دول الخليج بدأت تبتعد عن نفوذ الولايات المتحدة وتميل نحو بكين. ويرى هؤلاء أن الصين ستحاول ترسيخ هيمنتها المستجدة في الخليج -على غرار ما تحاول فعله في بحر الصين الجنوبي- ثم تهديد مصالح الطاقة الأمريكية في المنطقة، وإلحاق أضرار جسيمة بالاقتصاد الأمريكي.
مع ذلك، ترى المجلة الأمريكية أنه على واشنطن ألا ترى في الحضور الصيني المتزايد بالمنطقة تهديداً لها، بل إن "الجدير بها أن تدرك أن الحضور قد يعود بالفائدة عليها من عدة أوجه: منها الاستقرار الإقليمي، وهو ما بدأت تباشيره تظهر بالفعل في توسط الصين لعودة العلاقات بين إيران والسعودية؛ علاوة على ذلك، فإن أزمات الشرق الأوسط ربما تصبح عبئاً مالياً وعسكرياً على بكين، ومن ثم تفتح للولايات المتحدة باباً للسبق على غريمتها دوائر النفوذ التي ستنشغل عنها.
فالصين إذا تورطت في صراعات الشرق الأوسط، فإن ذلك سيستنزف مواردها ويقلل من قدرتها على تحدي النفوذ الأمريكي في غير تلك الجبهات. والواقع أن الصين استثمرت قرابة 200 مليار دولار في أمريكا اللاتينية، لتوسيع قدرتها على التأثير في السياسة الإقليمية. وهي تلح على دول أمريكا الجنوبية -وخاصة الأرجنتين- للسماح لها بإنشاء قواعد عسكرية على أراضيها. ولكن إذا انشغلت الصين بأزمات الشرق الأوسط، فإن ذلك قد يجبرها على تقليل اهتمامها بمشروعات النفوذ الأخرى.
هل سيكرر "التنين" أخطاء "العم سام"؟
ويرى بعض الأمريكيين أن بوادر هذا التورط الصيني قد بدأت في الظهور؛ فعلى سبيل المثال، أدى اضطهاد الصين للمسلمين على أراضيها إلى ظهور العشرات من الجماعات المتشددة الصينية المسلحة في سوريا والعراق وأفغانستان؛ ووقعت تفجيرات وهجمات على مواطنين صينيين في أفغانستان وباكستان؛ وأعلن "تنظيم الدولة الإسلامية" (داعش) أن الصين صارت في مرمى هجماته. علاوة على ذلك، فقد تحملت الصين تكلفة إنشاء قاعدة بحرية في جيبوتي -وتنوي إنشاء قواعد أخرى في باكستان وسريلانكا وجزر المالديف- ونشرت الآلاف من قواتها الخاصة في سوريا؛ وكل هذه أهداف تراها الجماعات المتطرفة -مثل داعش- جديرة بالهجوم عليها، بحسب المجلة الأمريكية.
في الوقت نفسه، فإن المخاوف من استغلال الصين لنفوذها المستجد في الإقليم للإضرار بالمصالح الاقتصادية الأمريكية -وخاصة مصالحها في قطاع الطاقة- ليست بالتي يُعتد بها. فالولايات المتحدة مندمجة اندماجاً راسخاً في التجارة العالمية، ومن ثم فإن أي ضرر يلحق بأمن الطاقة البحرية الأمريكية في الإقليم، أو أمن الطاقة عموماً سيضر بغيرها من الجهات الفاعلة التي تحاول الصين تعزيز العلاقات معها.
ولذلك، فإن أي تهديد مباشر لأمريكا من هذا السبيل يتعارض مع أهداف الصين نفسها. وحتى لو كان للأمر بعض الأضرار الجانبية، فإن أي تحركات صينية من هذا النوع تقدم للولايات المتحدة فرصة سانحة للرد، خاصة أن أمريكا لديها نفوذ كبير في بحر الصين الجنوبي، ودول الإقليم، ومناطق أخرى لا غنى عنها لنفوذ الصين وتجارتها. وعليه فإن بكين إن استغلت نفوذها في الشرق الأوسط للإضرار بالمصالح الاقتصادية الأمريكية، فإن واشنطن يمكنها الانتقام بسهولة.
وعلى هذا المنوال، يمكن للولايات المتحدة -إن أرادت- أن تتخذ بعض الإجراءات الاستباقية التي ستزيد من المخاطر المكلفة للصين. أولاً، يمكن لواشنطن أن تقلل من قدر المصالح المشتركة بين الصين وسكان المنطقة، مع إفساح المجال للتوسع الصيني.
ومن وسائل ذلك: الإشادة بجهود حفظ السلام الصينية لإزالة العداء للولايات المتحدة من أوجه المصالح المشتركة التي تجمع الصين وبعض دول المنطقة، ومن ثم ستقل الجهات الفاعلة التي ترى أن التعاون مع الصين طريقةً لـ"تحدي" أمريكا. وثانياً، على الولايات المتحدة أن تقلص حضورها العسكري في الشرق الأوسط، وأن تترك ثغرات قد تحاول بكين سدَّها. وبذلك، تغدو المصالح والقوات الصينية عرضةً لهجمات المتشددين، أما القوات الأمريكية فتصبح بعيدة عن المخاطر.
الخلاصة هنا هي أن تحليل المجلة يرى أن الولايات المتحدة عليها أن تعيد النظر في معارضتها الحالية لتمديد الصين نفوذها في الشرق الأوسط، وأن تستغل الفرصة السانحة لها في هذا السياق، وهي تعريض الصين لارتكاب أخطاء باهظة الثمن. وينبغي لواشنطن أن تقرَّ بأن كل ما تنوي الصين فعله في المنطقة لا يهدد المصالح الأمريكية، وأن بعض مبادرات بكين قد تجلب الاستقرار لبعض المناطق التي لطالما عجزت أمركيا عن تحقيق الاستقرار فيها.
وفي غضون ذلك، يمكن لواشنطن أن تغتنم انشغال الصين بهذه الأعباء للتقدم عليها في أمور أخرى؛ وأن تبتعد عن تصرفات الحسم، إلا إذا وقعت المصالح الأمريكية تحت التهديد المباشر. أما فيما عدا ذلك، فإن الولايات المتحدة يكفيها أن تراقب بحذر تطورات الأحداث، وتتجنب التدخل قبل الأوان.
لكن البعض يرى أن هناك اختلافات جوهرية بين اللحظة الصينية الحالية من تمدد النفوذ في المنطقة وبين طبيعة النفوذ الأمريكي الذي كان، فارتباط أمريكا بالمنطقة جاء في ظروف أخرى مختلفة تماماً، ارتكزت أساساً على دعم إسرائيل وإقامة علاقات مع بعض الأنظمة ضماناً لمصالح واشنطن الاقتصادية بالأساس.
وتورطت واشنطن، ولا تزال، في غالبية صراعات المنطقة، أو تسببت فيها، بسبب التدخل في الشؤون الداخلية، على عكس العلاقات الصينية القائمة بالأساس على المصالح الاقتصادية وهو ما يتطلب الاحتفاظ بعلاقات متوازنة مع جميع الأطراف وعدم التدخل في الشؤون الداخلية لدول المنطقة، وهو ما يشير إلى أن تعويل واشنطن على أن ترتكب بكين الأخطاء نفسها قد لا يكون سيناريو محتملاً.