"معركة جنين الثانية"، هكذا يمكن وصف القتال الذي دار مؤخراً في مخيم جنين، والذي أعاد للأذهان مشاهد ما حدث في 2022، حين صمد المخيم لأيام أمام قوة عسكرية إسرائيلية كبيرة، ولكن اللافت في المعركة الأخيرة، هو استخدام إسرائيل للمروحية الأمريكية الشهيرة أباتشي، والتي تعرضت بالفعل لإصابات من رصاص المقاومين الفلسطينيين.
خلال عملية اقتحام لجنين صباح الإثنين، 19 يونيو/حزيران، والتي أدت إلى مصرع 5 فلسطينيين على الأقل، وإصابة 91 آخرين، استخدمت إسرائيل مروحيات الأباتشي الهجومية في الضفة الغربية المحتلة للمرة الأولى منذ أكثر من 20 عاماً، فيما يمكن وصفه بـ"معركة جنين الثانية"، التي استمرت بدورها لبضع ساعات.
إذ قال متحدث باسم الجيش الإسرائيلي إن ناقلة جنود من نوع بانثر قد أُصيبت بواسطة عبوة ناسفة "غير عادية ومفاجئة"، أطلقها مقاتلون فلسطينيون. وتدخلت بعدها مروحية أباتشي لإطلاق النار من أجل دعم قوات الكوماندوز الإسرائيلية، للسماح بإخلاء 8 جنود وضباط إسرائيليين من شرطة الحدود أصيبوا في الانفجار وإطلاق نار على جانب الطريق، حسب بيان مشترك لجيش الاحتلال الإسرائيلي والشرطة أورده موقع The Times of Israel الإسرائيلي.
تفاصيل معركة جنين الثانية
وشهدت العملية تبادلاً واسعاً لإطلاق النار بين الاحتلال الإسرائيلي والمسلحين الفلسطينيين، وقد تم إلقاء عدد كبير من العبوات الناسفة على القوات الإسرائيلية التي ردت بالذخيرة الحية، حسب المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي.
وقال جناح الجهاد الإسلامي المحلي، المعروف باسم كتيبة جنين، إن عناصره فجروا عبوات ناسفة بالقرب من مركبات للجيش الإسرائيلي، ثم استهدفوها بالنيران.
من جانبها، ذكرت قناة "i24 News" الإسرائيلية أن قوات الاحتلال سقطت في كمين مخطط له اشتمل على تفجير عبوات ناسفة وإطلاق نار، ثم بدأت عملية إنقاذ تضمنت إطلاق نار كثيفاً، ما نجم عنه عدد كبير من الجرحى في الجانب الفلسطيني".
وقال الجيش الإسرائيلي إنه "مع خروج القوات الأمنية من المدينة، اصطدمت عربة عسكرية بعبوة ناسفة، مما أدى إلى إلحاق أضرار بالمركبة".
وتفيد التقارير بأن المقاومة الفلسطينية أعطبت 7 مركبات إسرائيلية.
وتُعَدُّ خطوة استخدام المروحية الأمريكية، التي تصنعها شركة Boeing الأمريكية، ذات دلالةٍ كبيرة بسبب الذخائر الثقيلة التي تحملها.
ناهيك عن أن مروحيات الأباتشي الإسرائيلية لم تطلق أي صواريخ داخل الضفة الغربية المحتلة منذ عام 2002، خلال أيام الانتفاضة الثانية، حسب وصف موقع Middle East Eye البريطاني.
وتشن إسرائيل الضربات الجوية على قطاع غزة بصورةٍ منتظمة. لكن استخدام المروحيات الهجومية المسلحة بالذخائر الثقيلة، داخل منطقة سكنيةٍ في الأساس، يمثل مؤشراً واضحاً على ارتفاع وتيرة العدوان العسكري الإسرائيلي.
كما قد تكون مؤشراً لتصاعد قوة المقاومة الفلسطينية في الضفة.
الجيش الإسرائيلي خشي من التعرّض لصواريخ مضادة للطائرات
بينما تتدهور الأوضاع الأمنية في الضفة الغربية المحتلة منذ وقتٍ طويل؛ حيث أطلقت إسرائيل عمليات اقتحام متكررة لجنين على مدار العام الماضي.
وكان الهدف المعلن من العملية هو القبض على الناشط الحمساوي عاصم أبو الهيجا (36 عاماً)، والذي كان أسيراً محرراً، ولكن أعيد اعتقاله، وذلك من داخل حي الجابريات بضواحي المدينة الواقعة شمال الضفة الغربية.
وأظهرت مقاطع الفيديو من داخل مخيم اللاجئين في جنين مروحيةً هجومية وهي تطلق المشاعل الحرارية المضللة، مما أثار تكهنات بأن المقاتلين الفلسطينيين قد حصلوا على صواريخ مضادة للطائرات من النوع المحمول على الكتف.
وكانت قناة "كان" قد نشرت أمس الإثنين، مقطع فيديو يوثق لإطلاق مروحية إسرائيلية صاروخا تجاه هدف، قبل أن تطلق أيضا شعلات حرارية لتضليل أي صاروخ أرض- جو يتم إطلاقه تجاهها.
والأباتشي أُصيبت برصاص الفلسطينيين
واعترف الجيش الإسرائيلي في وقت لاحق إن مسلحين فلسطينيين فتحوا النار على مروحية الأباتشي، مما تسبب في أضرار طفيفة في المروحية، ولم تمنع الصدمات المروحية من تنفيذ الضربات.
وأظهرت لقطات مصورة منطقة قريبة من مبنى تعرّضت للقصف عدة مرات بصواريخ المروحية.
وقال الجيش الإسرائيلي في بيان، نقلته وسائل إعلام عبرية بينها قناة "كان" الرسمية وصحيفة "يديعوت أحرونوت": "في أعقاب عمليات القوات الأمنية في جنين، غادرت جميع القوات والعربات العسكرية المدينة".
وقالت وسائل إعلام إسرائيلية إن "الجيش الإسرائيلي يستعد لشن المقاومين الفلسطينين لهجمات انتقامية في الضفة الغربية بعد العملية في جنين".
جيش الاحتلال واصل القتال عدة ساعات ليؤمّن الانسحاب وإزالة المركبات المتضررة
وقال الجيش الإسرائيلي إن القوات استمرت في العمل في جنين لعدة ساعات من أجل إزالة عدد من المركبات التي لحقت بها أضرار جسيمة.
وقال المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي، الأدميرال دانيال هاجاري، إن القوات تعرّضت لإطلاق نار أثناء سحب المركبات المتضررة بعيداً. وقال: "لدينا قدرات جوية وقدرات مراقبة في هذه المناطق، والمشهد يدار وهو تحت السيطرة".
وأضاف هاجاري أنه سيتم التحقيق في الأحداث التي وقعت في جنين و"سوف نستخلص الدروس".
القتال يعيد للأذهان معركة جنين الشهيرة
وقالت الفلسطينية وفاء جرار، التي تسكن في مخيم اللاجئين بجنين، لموقع Middle East Eye البريطاني إن ابن عمها قد قُتِلَ خلال غارة جوية إسرائيلية شهر فبراير/شباط عام 2002.
وأوضحت: "ما حدث اليوم ليس هيناً على أي من سكان جنين، وعلى من فقدوا أفراد عائلاتهم بالطبع. إذ يستحضر الأمر ذكريات ثقيلة لما حدث قبل 20 عاماً. ليس الأمر هيناً على الإطلاق، سواءً على المستوى النفسي أو العاطفي".
حيث استخدمت إسرائيل مروحيات الأباتشي في الضفة الغربية خلال 4 مناسبات على الأقل عام 2002.
وقالت وفاء للموقع البريطاني إن اقتحام يوم الإثنين واستخدام المروحيات الهجومية قد أعادا إلى الأذهان الذكريات الثقيلة، عندما كانوا يتعرضون للاستهداف بواسطة الغارات الجوية الإسرائيلية.
وأردفت: "يهاجموننا من السماء اليوم؛ لأنهم يحاولون كسر المقاومة في جنين".
ثم أضافت أن هذه الواقعة تذكرنا بالضربات الجوية التي جرت عام 2002، عندما كان الجيش الإسرائيلي يحاول استهداف قيادات جماعات المقاومة المسلحة الفلسطينية. وتابعت قائلة: "كان حجم الدمار مهولاً، وتعرضت أحياء بكاملها للتدمير".
تمتلك القوات الجوية الإسرائيلية اليوم سربين من مروحيات الأباتشي. إذ يستخدم سرب "الدبابير" طراز دي لونغ باو، بينما يستخدم سرب "باتان" مروحيات من طراز إيه.
وبعد مرور أكثر من عقدين، يُعد نشر هذه المروحيات في الضفة الغربية المحتلة خير دليلٍ على مدى تصعيد الوضع هناك.
منذ بداية العام، تسببت الهجمات الفلسطينية في إسرائيل والضفة الغربية في مقتل 20 شخصاً وإصابة العديد بجروح خطيرة، مقاب استشهاد، 122 فلسطينياً من الضفة خلال ذات الفترة، معظمهم خلال اشتباكات مع الاحتلال، لكن بعضهم كان من المدنيين غير المنخرطين بالمقاومة والبعض الآخر قُتل في ظروف غامضة.
هل تشن إسرائيل عملية عسكرية واسعة في الضفة الغربية؟
وتشير التقارير إلى أن الحكومة الإسرائيلية تفرض ضغوطات جادة على قوات الأمن من أجل شن عملية عسكرية واسعة في شمال الضفة الغربية.
بينما يُقال إن الجيش الإسرائيلي يعارض فكرة شن عملية كبيرة. لكن صحيفة Haaretz نقلت أن جهاز الشاباك يضغط على الجيش لتغيير رأيه تدريجياً.
ويرى سكان مخيم اللاجئين في جنين أن ظهور مروحيات هجومية في سمائهم يمثل نذير شؤم.
إذ قالت وفاء، وهي تتذكر غارات عام 2002: "نتذكر اليوم كارثة تلك الأيام الفظيعة. لقد قُتِلَ العديد من الناس، وتم تدمير العديد من البنايات والأعمال التجارية. إن قصف بعض المناطق في جنين ليس سوى مجرد بداية. وأعتقد أنهم سيستخدمون السياسة نفسها مرةً أخرى عما قريب".
يعيد كل ما سبق للأذهان أحداث معركة جنين الشهيرة التي وقعت في عام 2002، حين شنَّت القوات الإسرائيلية هجوماً على مخيم جنين في عملية أطلق عليها اسم "السور الواقي"، فطوَّقت المخيم بالكامل بالدبابات وقوات المشاة، وفي المقابل شكَّل المقاومون غرفة عمليات مشتركة من كافة الفصائل، وجهزت 200 مقاوم مسلحين بالبنادق والعبوات بدائية الصنع.
استطاع المقاومون في البداية قتل 13 جندياً إسرائيلياً وإصابة 15 آخرين، وذلك عن طريق نصب الكمائن المفخخة في أزقة المخيم؛ لذلك قرَّر رئيس أركان جيش الاحتلال شاؤول موفاز منع الماء والكهرباء والطعام عن أهالي المخيم وقصفه بالطائرات والمدفعية؛ الأمر الذي أسفر عن هدم جزء من المخيم وتسويته بالأرض.
حيث دمَّر الاحتلال في تلك العملية 455 منزلاً بالكامل كما ألحق ضرراً بـ800 منزل أخرى واستشهد 58 من أبناء المخيم، وكان معظمهم من المدنيين، فضلاً عن اعتقال المئات من أبناء المخيم.
الأمور خرجت عن سيطرة الجيش الإسرائيلي في جنين
يُمكن القول إن الأمور خرجت عن السيطرة في يوم الإثنين، خلال العملية التي شنها جيش الاحتلال وقوات الأمن الأخرى داخل جنين، حسبما ورد في تقرير لصحيفة Jerusalem Post الإسرائيلية.
وقد خرجت عن السيطرة بسبب إصابات عشرات الفلسطينيين ومقتل 5 آخرين من أجل القبض على شخصين من المشتبه بهم -وهي نتيجة لا يمكن وصفها بأنها تمثل نجاحاً، حسب الصحيفة الإسرائيلية.
كما خرجت العملية عن السيطرة؛ لأن الجيش الإسرائيلي تعرّض لإصابة 8 من جنوده، ولأن إحدى المركبات المدرعة قد تضررت بشدة، ولأن نحو 7 مركبات ظلت عالقةً هناك لبضع ساعات.
وخرجت كذلك عن السيطرة لأن الجيش الإسرائيلي اضطر لاستخدام مروحية تطلق الصواريخ، حتى وإن تم إطلاق الصواريخ على منطقةٍ مفتوحة.
وليست هذه هي أول عمليةٍ تخرج عن الإطار المرسوم لها في جنين أيضاً.
جنين تسير على خطى غزة.. أضرار كبيرة لحقت بالجنود الإسرائيليين منذ 2022
منذ عام 2022، ومع عددٍ من الوقائع الكبرى التي جرت منذ مطلع العام الجاري، أسفرت العديد من تلك الوقائع عن إلحاق الضرر بجنود الجيش الإسرائيلي وبأعداد كبيرة من الفلسطينيين. ولا يبدو أن الأهداف المحدود للعمليات الأصلية كانت تستحق هذا الحجم من الأضرار.
وربما كان المشتبه بهم من المطلوبين، لكنهم لم يكونوا من كبار المسؤولين على غرار مسؤولي الجهاد الإسلامي الستة في غزة، الذين كان اغتيالهم مع بعض المارة من المدنيين، مما يجعل العملية أقل قابلية للتبرير والإقناع بوضوح، من المنظور الإسرائيلي.
ويشير كل ما سبق إلى أن الجيش الإسرائيلي لم يفقد سيطرته على جنين فحسب، بل فقد أيضاً قدرته على دخولها والخروج منها بسيطرةٍ متفوقة. وكانت تلك السيطرة المتفوقة هي العلامة المميزة لعمليات الضفة الغربية عند مقارنتها بغزة من قبل، حسب الصحيفة الإسرائيلية.
ورداً على الانتقادات، استشهد مسؤولون بارزون في جيش الاحتلال بزيادة عدد الحالات التي دخل فيها المئات من عناصر الجيش والقوات الأمنية إلى مناطق الضفة الغربية، سواءً من أجل اعتقال شخصٍ أو هدم منزل.
إسرائيل باتت تنفذ عمليات عسكرية كبيرة في الضفة دون أن تقول
وعند النظر إلى حجم القوات المذكور، وإضافة النشاط المروحي الذي جرى يوم الإثنين، يُصبح من الصعب العثور على الفارق بين عمليات الجيش المتواصلة وبين شن عملية كبيرة واحدة. وربما يكمن الفارق الوحيد في أن الجيش الإسرائيلي يعيش حالة إنكار على الأرجح، حسب الصحيفة الإسرائيلية.
يبدو أن الاستراتيجية الحالية تقول: ليست لدينا أدنى فكرة عن كيفية إنهاء موجات المقاومة، لكننا نخشى كذلك تنفيذ عمليةٍ أكبر أو إطلاق وصف "العملية الكبيرة" على تلك الاقتحامات.
لأنها تخشى انهيار السلطة الفلسطينية
وربما يرجع جزء من الأسباب إلى خشية كبار المسؤولين الإسرائيليين من أن استخدام تصنيف العملية الكبيرة، واستمرارها لفترة أطول، قد يقضي على السلطة الفلسطينية، حسب Jerusalem Post.
إذ سيقولون إن القضاء على السلطة الفلسطينية سيجعل الأوضاع أسوأ مما هي عليه الآن.
ويكفي أن هناك حالياً بعض التنسيق بين السلطة الفلسطينية والقوات الإسرائيلية ضد حماس. كما يكفي أن حماس لا تستطيع الاستيلاء على الضفة الغربية حالياً بسبب السلطة الفلسطينية، التي لا تزال تتمتع بنفوذ أكبر في الضفة الغربية رغم ضعفها، حسب الصحيفة الإسرائيلية.
هل بات خروج الضفة الغربية عن السيطرة مرجحاً؟
لكن دعائم السلطة الفلسطينية تستمر في الاهتزاز. بينما تتصاعد قوة المقاومة في جنين وبعض البلدات الفلسطينية الأخرى تطوراً لدرجةٍ تُتيح للمقاومين ضرب المركبات المدرعة، وتتطلّب تدخل المروحيات الهجومية الإسرائيلية.
تتساءل الصحيفة الإسرائيلية في حال عدم استخدام استراتيجية جديدة: ألن تظل فكرة خروج الضفة الغربية عن السيطرة أكثر أرجحيةً على كل حال؟
يبدو الجيش الإسرائيلي حائراً بشأن الوضع في الضفة، فهو يمتنع عن تنفيذ شن حرب واسعة، خوفاً من سقوط السلطة الفلسطينية، وفي الوقت ذاته فإن قدرات المقاومة تزداد قوة، مما يعني أنها مع مرور الوقت ستزداد تكلفة أي عملية عسكرية على إسرائيل.