انخفض عدد المهتمين بمتابعة الأخبار السياسية بنحو 25% على مدى 6 سنوات، وأصبح أكثر من 36% من البشر يتجنبون الأخبار السيئة بشكل عام، فهل السبب هم "ناقلو الأخبار" أم متلقوها أم الأخبار نفسها؟
فقد كشفت دراسة علمية عن نتائج لافتة تتعلق بمتابعة أخبار العالم وملفاته الكبرى، مثل الحرب في أوكرانيا والأوبئة والتغير المناخي وغيرها، منها أن نحو ثلث سكان العالم، البالغ عددهم أكثر من 8 مليارات نسمة، اتخذوا قراراً واعياً بتجنب متابعة "الأخبار السيئة"؛ حفاظاً على صحتهم النفسية.
والحديث هنا لا يتعلق بنوعية الوسيلة الإعلامية، سواء أكانت تقليدية أو إحدى منصات التواصل الاجتماعي، التي أصبحت المصدر الرئيسي لمتابعة الأخبار حول العالم خلال العقد الماضي، على حساب المؤسسات الإعلامية الكبرى ووسائل الإعلام التقليدية، مثل التلفزيون ومحطات الإذاعة والصحف والمجلات الورقية، التي اقتربت من الانقراض تماماً، وتحولت إلى مواقع إلكترونية.
ماذا يقول تقرير الأخبار 2023؟
الدراسة العلمية، التي أعدها معهد رويترز التابع لجامعة أكسفورد، كشفت عن تراجع حاد في متابعة الجمهور للتغطيات الإخبارية، حيث إن نسبة الجمهور المهتم، أو المهتم جداً بالأخبار حول العالم قد انخفض من 63% في عام 2017 إلى 43% عام 2023.
كما أن أكثر من ثلث الناس (36%) في جميع أنحاء العالم يقولون إنهم يتجنبون الأخبار أحياناً أو في كثير من الأحيان. وقال معدو التقرير إن هناك أدلة على أن الجمهور "يواصل بشكل متعمد تجنب الأخبار المهمة، مثل الحرب في أوكرانيا، وأزمة غلاء المعيشة، بغية تفادي سماع الأخبار غير السارة من أجل حماية صحتهم العقلية"، بحسب تقرير لهيئة الإذاعة البريطانية BBC.
كما خلص تقرير الأخبار الرقمية 2023 إلى أن مشاهدة برامج التلفزيون التقليدية ومتابعة وسائل الإعلام المطبوعة مستمرة في الانخفاض، في حين أن "المستهلكين عبر الإنترنت يصلون إلى الأخبار بشكل أقل مما كان عليه في الماضي، وأصبحوا أقل اهتماماً أيضاً. وقال أربعة من بين كل 10 أشخاص (40%) إنهم يثقون في معظم الأخبار في أغلب الأحيان، وهذه النسبة أقل بنقطتين مئويتين مقارنة بالعام الماضي.
وأفاد البحث أيضاً أن أكثر من نصف (56%) ممن شملهم الاستطلاع، يشعرون بالقلق بشأن التفريق بين الأخبار الحقيقية والأخبار الزائفة عبر الإنترنت، بزيادة نقطتين مئويتين عن استطلاع مماثل قبل بضعة أشهر فقط، ما يعكس زيادة ملحوظة في انتشار الأخبار والمعلومات المضللة.
وفي هذا السياق، من الصعب تجاهل الدور الرئيسي الذي لعبته ولا تزال الإنترنت ومنصات التواصل الاجتماعي والذكاء الاصطناعي في الانتشار الكبير للأخبار أو المعلومات المضللة، والتي تنتشر بسرعة هائلة دون وجود خطوات التحقق والتدقيق المعتمدة من جانب وسائل الإعلام التقليدية.
وفي التفاصيل التي كشفت عنها الدراسة لا تزال منصة فيسبوك للتواصل الاجتماعي تحتل الصدارة كمصدر للأخبار، رغم انخفاض نسبة روادها على المدى الطويل، حيث انخفضت نسبة زائري فيسبوك من أجل الأخبار أسبوعياً من 42 إلى 28% خلال السنوات السبع الماضية.
تراجع فيسبوك وصعود تيك توك
ولا شك أن الفضائح المتعلقة بكيفية تعامل فيسبوك مع المحتوى، والتي كانت إحدى المديرات السابقات في المنصة قد سربتها العام قبل الماضي، لعبت دوراً كبيراً في هذا التراجع. فقد كان عام 2021 عاماً سيئاً بالنسبة لصورة فيسبوك، وسط تزايد ملاحقته قضائياً، والمطالبات بتفكيك الإمبراطورية التي أسسها مارك زوكربيرغ.
وكانت تطبيقات فيسبوك المتعددة، واتساب وإنستغرام ومسنجر، التي يستخدمها نحو 3 مليارات شخص، قد أصيبت بعطل عالمي، مطلع أكتوبر/تشرين الأول 2021، تم التعامل معه خلال ساعات، لكنها كانت كافية لإحداث ضجة ضخمة وضعت العملاق الأزرق تحت دائرة الضوء بصورة سلبية.
وتزامَنَ ذلك العطل مع تسريبات واتهامات وجّهتها مديرة سابقة في عملاق منصات التواصل الاجتماعي للشركة، بأنها تسعى للربح على حساب سلامة المستخدمين، ما أعطى زخماً لحملات السعي لتفكيك إمبراطورية زوكربيرغ، الذي قام بتغيير اسم الشركة من فيسبوك إلى "ميتا".
قام موقع فيسبوك بتخفيض نسبة الأخبار التقليدية في نشرته الإخبارية، ويقول الموقع إن أقل من 3% من موجزها الإخباري هذه الأيام هي قصص إخبارية تقليدية. وكان التغيير في الخوارزمية على مدار السنوات الأخيرة كارثياً بالنسبة لبعض الجهات الإعلامية التقليدية، التي اعتمدت على الأعداد الكبيرة من المتصفحين الذين كانوا يصلون إليها عن طريق فيسبوك.
وفي المملكة المتحدة، يقول 41% من الأشخاص الذين تتراوح أعمارهم بين 18 و24 عاماً إن وسائل التواصل الاجتماعي هي المصدر الرئيسي للأخبار (43% في جميع البلدان)، مقارنة بـ18% في عام 2015.
على الجانب الآخر، شهدت منصات تيك توك وإنستغرام زيادة في الاستخدام، إذ أصبح إنستغرام الآن مصدراً للأخبار لدى 14% من الأشخاص، وتيك توك لدى 6%.
لكن الأرقام أعلى بكثير بين المستخدمين الشباب، إذ يحصل واحد من بين كل خمسة (20%) ممن تتراوح أعمارهم بين 18 و24 عاماً، على الأخبار من تيك توك، مقارنة بـ15% العام الماضي.
ويقول تقرير معهد رويترز أيضاً إن تيك توك "هي الشبكة الاجتماعية الأسرع نمواً حسب استطلاعنا"، ولكنها ليست بالضرورة أخباراً مصدرها وسائل الأخبار التقليدية.
فمن المرجح أن يحصل مستخدمو تيك توك على أخبار المشاهير أو المؤثرين أو المبدعين العاديين من تيك توك أكثر من وسائل الإعلام السائدة أو الصحفيين. وقال مدير معهد رويترز راسموس نيلسن: "تتجنب الأجيال الشابة بشكل متزايد التعامل المباشر مع جميع العلامات التجارية، باستثناء العلامات التجارية الأكثر جاذبية".
وأضاف تيلسن: "لا يهتمون كثيراً بالعديد من العروض الإخبارية التقليدية التي تتماشى مع عادات الأجيال الأكبر سناً واهتماماتهم وقيمهم، وبدلاً من ذلك يفضلون الخيارات القائمة على الشخصية والتشاركية والشخصية التي تقدمها وسائل التواصل الاجتماعي، والتي غالباً ما تتخطى المنصات القديمة للوافدين الجدد".
كما أن الإعجاب والمشاركة والتعليق على الأخبار على منصات وسائل التواصل الاجتماعي المفتوحة في تراجع أيضاً، حيث يصنف حوالي 10% فقط من الناس في المملكة المتحدة على أنهم "مشاركون نشطون"، معظمهم من الذكور وكبار السن، ولديهم آراء سياسية قوية، وهم أكثر تعليماً من بقية السكان.
أحد الأسباب المحتملة لهذا التغيير هو الشعور المتزايد بأن المحادثات عبر الإنترنت على منصات مثل فيسبوك وتويتر أصبحت مزعجة بشكل متزايد. ورغم أن تبادل المقالات وزمن القراءة قد انخفضا، لكن ذلك لا يعني أن هذه المواقع باتت مهجورة.
ورغم أن منصة تويتر كانت قد سيطرت على عناوين الصحف بعد أن اشتراها إيلون ماسك، فإنه يبدو أن عدد الأشخاص الذين يستخدمون الموقع بشكل أسبوعي بالكاد قد تغير. وقالت رويترز إنه لا يوجد دليل على انتقال جماهيري لمنصات منافسة مثل ماستودون.
ما أسباب العزوف عن متابعة الأخبار؟
أحد أبرز الأسباب وراء العزوف الواضح عن متابعة الأخبار السياسية هو أن الجانب السيئ أو السلبي هو المهيمن على تغطية الأخبار، وهو ما يطرح تساؤلات بشأن "الميل إلى السلبية": هل هو ميل بشري ينعكس على من يقومون بنشر الأخبار من صحفيين ومؤثرين على منصات التواصل؟ أم أنه ميل من المتلقي للأخبار، بمعنى أن البشر يميلون أكثر لمتابعة الأخبار السلبية؟
الإجابة هنا هي "العاملان معاً"، بمعنى أن "الميل إلى السلبية" صفة بشرية غالبة، وكان عالم النفس مارجور ريتشي أول من لاحظ هذا الأمر عام 1967، حيث أجرى دراسة على طلاب الجامعات خلص من خلالها إلى أن الاختبارات التي تحمل فقرات وصف لشخصيات تميل إلى السلبية تؤثر أكثر على الطلاب من الشخصيات التي توصف بأنها إيجابية.
وفي عام 1982، توصلت عالمتا النفس تيريزا إيميبايل وآن غليزبروك إلى نتيجة أعم، مفادها أنه على الأرجح يوجد ميل بشري عام نحو "السلبية فيما يتعلق بتقييم الأشخاص الغرباء أو أعمالهم"، بحسب تقرير لموقع Vox الأمريكي.
وفي ضوء هذه النتائج، تصبح مسألة الميل إلى السلبية أمراً طبيعياً من الجانبين، فالصحفيون وصانعو الأخبار بشر، ومن يقرأون تلك الأخبار بشر أيضاً، إضافة إلى ذلك يعيش العالم أوضاعاً سلبية للغاية منذ سنوات. فالحرب في أوكرانيا تؤثر بشكل سلبي على سكان الكوكب جميعاً، وليس فقط على طرفيها روسيا وأوكرانيا.
وقبل أن تندلع الحرب في أوكرانيا، أو "العملية العسكرية الخاصة" كما تصفها موسكو، و"الغزو العدواني غير المبرر" كما يصفه الغرب، كان العالم ما زال لم يتعافَ بعدُ من جائحة كورونا، التي أودت بحياة الملايين حول العالم، وأصابت مئات الملايين.
وتأثر العالم بأسره اقتصادياً، فأصبح التضخم وجنون الأسعار سيفاً مسلطاً على جميع سكان الكوكب، وإن كان بدرجات متفاوتة بطبيعة الحال. وحتى الذكاء الاصطناعي أصبح يمثل "خطراً وجودياً" على البشرية، بحسب البعض. الخلاصة هنا هي أن تراجع أعداد المتابعين للأخبار بشكل عام، والأخبار السيئة بشكل خاص، يعتبر أمراً طبيعياً.