"مصائب قوم عند قوم فوائد"، يبدو هذا حال أثرياء روسيا الذين استفاد بعضهم من خروج الشركات الغربية من بلادهم بعد اندلاع الحرب الأوكرانية، حيث اشتروا أصولاً يمكن أن تقدّر أحياناً بمليارات الدولارات ببضعة ملايين، بل في حالة بعينها تم بيع مصنع يقدّر بمليارات الدولارات مقابل روبل واحد لا غير!
ففي الأسابيع التي أعقبت غزو أوكرانيا، واجهت الشركات الغربية في روسيا معضلةً مكلِّفة. في مواجهة ضغوط من عملائها والحكومات الغربية لإنهاء جميع العمليات في روسيا.
والنتيجة أنه على مدار العام الماضي 2022، هربت مئات العلامات التجارية العالمية من روسيا بعد غزوها لأوكرانيا، حيث أعلنت العلامات التجارية الغربية من كوكاكولا إلى ليفايس إلى إيكيا أنها تنسحب من البلاد.
الشركات الغربية عاقبت نفسها أثرياء روسيا هم المستفيدون
وبينما وجد الروس العاديون أن وصولهم إلى خدمات أبل أصبح محدوداً، علاوة على انقطاع خدمات منصة نتفليكس عنهم، وجدت العديد من العلامات التجارية الغربية ذات الوجود الكبير في البلاد نفسها تتلقى ضربات مالية ضخمة لقرارها "معاقبة الذات".
أجبر ذلك الروس على إيجاد بدائل لكل شيء من الهواتف الذكية إلى السيارات، ولكن في أعقاب الانسحاب الغربي، وجد بعض الروس فرصاً فريدة للحصول على أصولٍ قيِّمة للغاية بأسعار متدنية، حسبما ورد في تقرير لصحيفة The Guardian البريطانية.
130 متجراً لستاربكس إيراداتها 60 مليون دولار مقابل 6 ملايين فقط
في أوائل عام 2022، كان لدى ستاربكس 130 متجراً في روسيا، يعمل معظمها بحقوق الامتياز. وبعد توقف العمليات مبدئياً في مارس/آذار 2022، أعلنت الشركة أنها ستبيع متاجرها في مايو/أيار 2022، وتغادر روسيا بالكامل، مع وعد بدعم موظفيها البالغ عددهم 2000 موظف لبضعة أشهر.
وبعد أشهر معدودة كُشِفَ عن "ستارز كوفي"، وهي علامة تجارية جديدة تعمل من معظم مواقع ستاربكس القديمة، وتحمل أوجه تشابه كبيرة مع سابقتها.
ويشترك في ملكية الشركة مغني الراب الروسي تيماتي ومستثمر المطاعم أنطون بينسكي، اللذان أبلغا وكالة Tass الروسية الحكومية، في مقابلة نُشرت يوم الثلاثاء، 13 يونيو/حزيران، بأنهما استحوذا على جميع أصول ستاربكس في روسيا مقابل 500 مليون روبل فقط (6 ملايين دولار).
أخبر بينسكي وكالة Tass بأن الاستحواذ على تلك الأصول كان فرصة "لا يمكن تفويتها". في عام 2021، أعلنت الشركة الروسية الأم لستاربكس أن إيراداتها تجاوزت 60 مليون دولار، وفقاً لوكالة Interfax الروسية.
ورداً على سؤال حول ما إذا كان سعر البيع يشمل خصماً كبيراً، قال بينسكي لوكالة Tass: "يعتمد الأمر على ما تعنيه بهذه الكلمة. اشترينا نشاطاً تجارياً مغلقاً لم يكن يحقق ربحاً".
كان تيماتي من أشد المؤيدين لفلاديمير بوتين ووصف نفسه بأنه صديق للزعيم الشيشاني رمضان قديروف. في عام 2015، أصدر مغني الراب أغنية بعنوان "أفضل صديق لي هو فلاديمير بوتين"، وكان أيضاً وراء أغنية مؤيدة للحكومة تحمل اسم "موسكو"، والتي تفاخر فيها بالعاصمة الروسية التي "لا تقيم مسيراتٍ للمثليين".
إن تمياتي وبينسكي هما مجرد اثنين فقط من بين عدد من فاحشي الثراء الكثيرين الذين استفادوا من خروج العلامات التجارية الغربية من روسيا من خلال اقتناص الشركات الأمريكية والأوروبية بأسعار منخفضة.
علامة "فكوسنا إي توتشكا" الروسية بدلاً من ماكدونالدز
في مايو/أيار 2022، بعد شهرين فقط من إعلان ماكدونالدز إغلاق منافذها مؤقتاً في جميع أنحاء روسيا، توصلت الشركة إلى اتفاق لبيع جميع مطاعمها. وقالت إن البقاء في البلاد لا "يتفق مع قيم ماكدونالدز".
كان المشتري هو ألكسندر جوفور، وهو رجل أعمال انتقل على الفور من إدارة عملية امتياز لـ25 فرعاً لماكدونالدز في سيبيريا، إلى امتلاك أكثر من 800 مطعم يعمل بها 62 ألف موظف.
بين عشية وضحاها، اختفت ماكدونالدز، لتحل محلها العلامة التجارية الجديدة فكوسنا إي توتشكا، المملوكة لجوفور. وتحوَّل بيغ ماك إلى بيغ هيتس، وهابي ميل إلى كيدز كومبو، واختفت البطاطس لفترة وجيزة من القائمة عندما كان هناك نقصٌ في البطاطس الوطنية.
في وقت البيع، قال جوفور إنه دفع "أقل بكثير من سعر السوق"، واصفاً المبلغ النهائي بأنه "رمزي". لم تعلق ماكدونالدز، لكنها قالت إن سعر الفروع مقابل الخروج من روسيا سيكون في حدود 1.2 مليار إلى 1.4 مليار دولار. ووفقاً لمسؤولين روس، احتفظت الشركة بخيار إعادة شراء مطاعمها في غضون 15 عاماً.
تمتد اهتمامات جوفور إلى ما هو أبعد من الوجبات السريعة. وهو شريك في ملكية شركة Neftekhimservis، التي تستثمر في مجال البناء وتمتلك مصفاة نفط في سيبيريا. يمتلك جوفور أيضاً 50% من أسهم شركة أخشاب، و25% من أسهم شركة صيد أسماك وحيوانات.
ومنذ أن استحوذ على العمليات الروسية لماكدونالدز، اشترى أيضاً شركة فنلندية لتغليف الأطعمة والمشروبات بعد أن أعلنت أنها ستغادر روسيا.
وتُعَد علامتا كرانشي دريم وورلد أوف كيوبس، اللتان حلَّتا محل كريسبي كريم وليغو، من بين العلامات التجارية الأخرى التي ظهرت في نفس مواقع العلامات التجارية الغربية السابقة. وأفادت تقارير أن أركادي نوفيكوف، رجل الأعمال الروسي الذي يدير عدداً من المطاعم الفاخرة في جميع أنحاء العالم، قد استحوذ على 30 مطعماً من كريسبي كريم في روسيا.
وقال الرئيس التنفيذي لماكدونالدز، كريس كيمبزينسكي، إنه "من المستحيل التنبؤ" بموعد عودة الشركة إلى روسيا، لكن خروجها لم يكن له عواقب اقتصادية فحسب، بل كان له رمزية عميقة أيضاً.
عندما افتُتِحَ أول فرع لماكدونالدز في موسكو عام 1990، انتظر الآلاف في الطوابير لتذوق الشطائر. إذا كان من الممكن تتبُّع مسار العلاقات بين موسكو والغرب من خلال علامات تجارية مثل ماكدونالدز وستاربكس، فقد كان هذا الافتتاح يمثِّل دفئاً في هذه العلاقات، وإشارةً على أن الاقتصاد السوفييتي كان ينفتح، ورمزاً للرأسمالية الأمريكية.
بعد أكثر من 32 عاماً، افتتحت فكوسنا إي توتشكا أول منفذ لها في موقع أول فرع لماكدونالدز في ساحة بوشكين، وهذه المرة لحشود متضائلة بشكل ملحوظ.
صناعة السيارات الروسية والصينية ترث حصة الشركات الغربية
بعد الغزو الروسي لأوكرانيا، توقف معظم صانعي السيارات الغربيين عن العمل في روسيا، بعد أن بذلوا لسنوات جهوداً كبيرة في إبرام تحالفات مع شركات صناعة السيارات الروسية المحلية للحصول على حصة في السوق، منذ أن بدأوا في بناء مصانع في روسيا في أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين.
فربما كانت السيارات هي الأكثر تضرراً من جميع القطاعات الصناعية في روسيا بسبب العقوبات المفروضة على البلاد؛ حيث توقفت بشكل صارخ في النصف الأول من عام 2022.
وتراجعت المبيعات الجديدة لسيارات الركاب والمركبات التجارية الخفيفة بنسبة 61% تقريباً في عام 2022 مقارنة بالعام السابق، وفقاً لمؤسسة Autostat الروسية، حيث تحد العقوبات الغربية من وصول روسيا إلى بعض المواد، كما أدى انخفاض الطلب وارتفاع الأسعار إلى إعاقة القطاع.
وأدى الخروج السريع لكبار مُصنعي المعدات الأوروبية إلى خلق فرص لصفقات كبرى للشركات الصينية؛ حيث يمكن لهم اقتناص مرافق التصنيع بأسعار بيع عالية، مما أدى إلى تسونامي من صفقات الاندماج والاستحواذ.
وخلق هذا فرصة للشركات الروسية المحلية كذلك.
فلقد أعلنت شركة صناعة السيارات الألمانية "فولكسفاغن" في مايو/أيار 2023، استكمال بيع أصولها في روسيا إلى مجموعة "أفيلون" المحلية، في إطار إجراءاتها للانسحاب من البلاد بعد حرب أوكرانيا، وتشمل عملية البيع مصنعها في كالوغا جنوب غرب موسكو الذي يوظف نحو 4 آلاف شخص ولديه إمكانيات لبناء 225 ألف مركبة سنوياً.
ولم تكشف فولكسفاغن أي تفاصيل مالية مرتبطة بالصفقة، لكن صحيفة "هاندلسبلات" الألمانية المتخصصة بالشؤون المالية قالت إن شركة تصنيع السيارات ستحصل على حوالي 125 مليون يورو (135 مليون دولار) من عملية البيع، وهو مبلغ أقل بكثير من القيمة الفعلية لأصول فولكسفاغن في روسيا.
كذلك، باعت شركة تصنيع السيارات اليابانية "نيسان" أصولها في البلاد للحكومة الروسية العام الماضي.
رينو تسلم مصنعها العملاق للحكومة الروسية مقابل روبل واحد!
وسلّمت شركة تصنيع السيارات الفرنسية "رينو"، التي كان لها وجود قوي في روسيا أيضاً أصولها في البلاد إلى الحكومة الاتحادية وحكومة موسكو"، في مقابل مبلغ رمزي قدره روبل واحد.
وقالت المجموعة الفرنسية في بيان صدر في مايو/أيار 2022، إنها باعت حصتها الأكبر (67,69%) في مجموعة "اوتوفاز"، الرئيسية في صناعة السيارات الروسية إلى جانب علامة لادا، إلى المعهد الروسي للبحوث وتطوير السيارات والمحركات.
كما تخلت شركة السيارات الفرنسية عن عمليات العلامة التجارية "رينو" الخاصة في روسيا إلى مدينة موسكو، ومنها مصنعها في العاصمة الذي يقوم بإنتاج رينو ونيسان.
وأعلن رئيس بلدية العاصمة الروسية، سيرغي سوبيانين، أن المصنع سيعيد فيه إطلاق العلامة التجارية السوفييتية "موسكوفيتش" التي بُدء بإنتاج سياراتها في عام 1946 وكانت معروفة ببساطتها.
باعت رينو في 2021 ما يقرب من نصف مليون سيارة في روسيا، ثاني أكبر سوق للمجموعة الفرنسية بعد أوروبا.
وأبقت المجموعة الفرنسية لصناعة السيارات، الأكثر انخراطاً في روسيا ومن آخر من غادر، الباب مفتوحاً، إذ سيكون بإمكانها شراء أسهم في "أوتوفاز" لمدة 6 سنوات.
ويتطلب بيع أصول شركات دول "غير صديقة" (وهو المصطلح الذي تستخدمه موسكو للإشارة إلى البلدان التي فرضت عقوبات عليها) موافقة لجنة حكومية تراقب الاستثمارات الأجنبية.
وبينما احتلت الشركات الصينية الشريحة الوسطى من السيارات التي كانت تسيطر عليها الشركات الغربية واليابانية والكورية، فإن السيارات الروسية تلبي الشريحة الأدنى في السوق المحلي التي تدور حول أسعار أقل – أو تصل إلى حوالي 1.5 مليون روبل (23961 دولاراً)، بينما يستولي الصينيون على حصة شركات السيارات الغربية والآسيوية، التي تزيد أسعارها عن 2.5 مليون روبل.
ومع اقتراب نهاية عام 2022، تعافى الإنتاج إلى حد ما؛ حيث تكيفت الصناعة مع الحصار الغربي، ورغم أنه متوقع أن ينمو في العام 2023، ولكن من غير المرجح أن يكون ذلك بسرعة كبيرة.
"لادا"، العلامة التجارية المحلية التي كانت بالفعل أشهر شركة لصناعة السيارات في روسيا قبل الحرب، شهدت أيضاً نمو حصتها في السوق من حوالي 22% إلى 28% في عام 2022، وفقاً لبيانات ستاندرد آند بورز. بعد أن باعت رينو حصتها المسيطرة في لادا في مايو/أيار 2022.