من كندا إلى إسبانيا، يبدو أن حرائق الغابات هي الأكثر شراسة واستمرارية منذ سنوات، في ظل أسوأ بداية لتلك الحرائق على الإطلاق، فهل خرجت تداعيات التغير المناخي عن السيطرة تماماً؟
والمقصود بمصطلح التغير المناخي هو التغييرات طويلة المدى في الأحوال الجوية لكوكب الأرض، وتتمثل هذه التغييرات في الارتفاع الشديد لدرجة الحرارة، وهطول الأمطار بغزارة، مُسببةً فيضانات قاتلة، ويحدث هذا التطرف في الطقس بصورة متسارعة، وربما في الأماكن نفسها؛ ما يؤدي إلى موجات طقس حار وعواصف، وارتفاع منسوب مياه المحيطات والبحار.
وكان الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريش، قد وصف 2021 بأنه يمثل "جرس إنذار" للبشرية قبل أن يفوت أوان إنقاذ الكوكب من تداعيات التغير المناخي.
هل حرائق الغابات بسبب التغير المناخي؟
حرائق الغابات، شأنها شأن العواصف والفيضانات وارتفاع درجات الحرارة، هي ظواهر طبيعية تحدث باستمرار وبشكل سنوي منذ قرون طويلة، فلماذا القلق من هذه الظواهر الطبيعية مؤخراً؟
من المهم هنا التأكيد على أن قضية التغير المناخي الناجم عن الاحتباس الحراري ترجع إلى أكثر من قرن على الأقل، إلا أنها ظلت، حتى بضع سنوات مضت، ملفاً ينشغل به نشطاء البيئة وخبراء المناخ دون أن يمثل هاجساً للسياسيين والمسؤولين ولا حتى للرأي العام حول العالم. فخلال تلك الفترة لم يكن هناك تأثير لقضية الاحتباس الحراري على الأمن والسلم الدوليين ومن ثَمّ لم تكن قضية المناخ تمثل أي تهديد لمبدأ السيادة الوطنية للدول من الأساس. لكن هذا الوضع بدأ يختلف بصورة تدريجية منذ مطلع القرن الجاري، مع ظهور تداعيات التغير المناخي، وانعكاسها على الطقس حول العالم.
وفيما يتعلق بحرائق الغابات، فإنها تحدث بشكل طبيعي إذا ما توفرت ثلاثة عناصر طبيعية تسمى "مثلث النار" هي: الحرارة، الوقود، والأوكسجين، وتحدث معظم الحرائق الطبيعية في فصل الصيف، حيث تشجع درجات الحرارة المرتفعة على انتشار الحرائق، وتشكل الأعشاب اليابسة والأوراق الجافة وقوداً ممتازاً لاندلاع الحرائق، أما الرياح فتؤمن الأوكسجين اللازم لإضرام الحريق.
كما تعتبر الأنشطة البشرية المسبب الأول لحرائق الغابات حول العالم، حيث الإهمال هو المتسبب الأكبر، فقد ينسى أحدهم إخماد النار جيداً بعد ليلة من التخييم، أو يرمي بأعقاب السجائر المشتعلة دون التأكد من إطفائها، كما أن الأعطال التي قد تحدث في خطوط الكهرباء القريبة من الغابة قد تؤدي إلى نشوب حرائق هناك.
لكن حرائق الغابات التي تشهدها كندا منذ الأسبوع الماضي اعتبرت أسوأ بداية لموسم حرائق الغابات على الإطلاق، مما أجبر آلاف السكان على ترك منازلهم وتصاعد ضباب دخاني انتقل إلى المدن الأمريكية.
وقال بيل بلير الوزير المسؤول عن التأهب للطوارئ في الحكومة الاتحادية بكندا إن الحرائق أتت بالفعل على نحو 9.4 مليون فدان، أي ما يقرب من 15 ضعف المتوسط في عشر سنوات، ومن المتوقع أن يستمر الطقس الدافئ والجاف في الأشهر المقبلة.
ورغم أن حرائق الغابات شائعة في كندا، فمن غير المعتاد أن تشتعل الحرائق في وقت واحد بالشرق والغرب، مما أدى إلى زيادة موارد مكافحة الحرائق وإجبار الحكومة الكندية على إرسال الجيش للمساعدة، ووصل مئات من رجال الإطفاء الأمريكيين إلى كندا لتقديم المساعدة وهناك آخرون في الطريق. واندلع بعض من أسوأ الحرائق في كيبيك بشرق البلاد، واضطُر أكثر من 11 ألفاً إلى إخلاء منازلهم في الإقليم.
ما تأثير التغير المناخي على حرائق الغابات؟
أرجع رئيس الوزراء الكندي، جاستن ترودو، سبب الحرائق إلى تغير المناخ، وقال على تويتر: "هذه الحرائق تؤثر على النظام والحياة وسبل العيش اليومية، وعلى جودة الهواء لدينا".
وبدأ موسم حرائق الغابات مبكراً على غير المعتاد في إقليم ألبرتا الشهر الماضي وأتى على مساحة قياسية من الأراضي، كما يواصل إقليم نوفاسكوشيا مكافحة أكبر حرائق يشهدها على الإطلاق.
وفي مناطق من إقليم كولومبيا البريطانية، الذي يواجه ثاني أكبر حرائق غابات على الإطلاق، وصلت درجات الحرارة إلى 33 درجة مئوية الخميس، 8 يونيو/حزيران، وجاء في بيانات للمركز الكندي لحرائق الغابات أن كندا تشهد أسوأ بداية لموسم حرائق الغابات التي بلغ عددها 2392 حريقاً حتى الآن هذا العام 2023. وقال المركز إن هناك 427 حريقاً نشطاً، منها 232 خارج نطاق السيطرة.
وفي كيبيك، قالت مايتي بلانشيت فيزينا، وزيرة الغابات في المقاطعة الواقعة في شرق البلاد، إنه مع وصول موارد إضافية، ستكون السلطات أكثر قدرة على السيطرة على الحرائق. ووصل مئات من رجال الإطفاء من جميع أنحاء العالم إلى كندا.
وقالت فيزينا في إفادة صحفية: "لقد انتهت مرحلة العدو السريع، نحن الآن في مرحلة الماراثون. لذا في الأيام والأسابيع المقبلة سنعمل على احتواء الحرائق النشطة للسيطرة عليها وإخمادها في نهاية المطاف". وقالت السلطات الاتحادية هذا الأسبوع إنها قلقة من الخطر المحتمل للحرائق على البنية التحتية الحيوية.
ومن المتوقع أن تستمر رداءة جودة الهواء في مدن مثل أوتاوا وتورنتو ونيويورك وواشنطن حتى يتغير اتجاه الرياح. وفي هذا السياق، رصد تقرير لموقع Axios الأمريكي كيف أن مراكز السلطة والقوة في الولايات المتحدة قد تعرضت أخيراً للتداعيات الكارثية لتغير المناخ بشكل مباشر.
إذ إن السحب الكثيفة من الدخان الناتج عن حرائق الغابات في كندا قد غطت سماء مدن نيويورك وواشنطن، مراكز السلطة والاقتصاد في أمريكا، فيما وصفه تقرير Axios بأنه "أول مواجهة مباشرة من جانب صناع القرار الأمريكيين مع ما يمثله التغير المناخي من مخاطر قاتلة"، حيث إن الغيمة الكثيفة من الدخان البرتقالي اللون تعد مؤشراً يستحيل تجاهله.
وبالإضافة إلى كون موسم حرائق الغابات في كندا هذا العام الأطول والأكثر تدميراً، فإنه أيضا يمثل خطراً إضافياً بسبب الكميات الهائلة من ثاني أكسيد الكربون الناتجة عن الحرائق والتي تشق طريقها نحو الغلاف الجوي للكوكب، علماً بأن ثاني أكسيد الكربون هو المسؤول الأول عن ارتفاع درجة حرارة الأرض.
وتؤكد الدراسات وجود علاقة مباشرة بين التغير المناخي وحرائق الغابات الأطول والأكثر تدميراً، حيث تساعد موجات الحرارة المرتفعة والجفاف على شدة اشتعال الحرائق وإطالة أمدها. "نعم هناك عنصر بشري رئيسي في تلك الحرائق"، بحسب ما قاله مارشال بيرك، الباحث في التغير المناخي بجامعة ستانفورد للموقع الأمريكي، مضيفاً: "لا يجب أن ننظر إلى تلك الحرائق على أنها ظواهر طبيعية عشوائية".
"صيف ساخن جداً"
ولا يبدو أن حرائق الغابات في كندا ستخمد قريباً، حيث أوضح كبير المسؤولين الإداريين في مقاطعة يلوهيد حيث تقع إدسون وك مرسييه، أن "الحريق خارج عن السيطرة؛ لدرجة أن بعض أطقم الغابات اضطرت إلى التراجع، ولا يمكنها مكافحة هذه النار".
وأفادت المقيمة هايلي ويتس في حديثها لمحطة "سي بي سي" بأن إجلاء إدسون تم في شكل "قافلة ضخمة" من الأشخاص الفارين من المدينة، مضيفة: "عندما تشعر بالذعر، كل ما تفكر فيه هو الهروب.. لكن بمجرد مغادرتك في السيارة تسأل: ماذا لو لم يعد منزلي موجوداً عندما أعود؟"
وتم إخلاء بلدة تامبلر ريدج التي يبلغ عدد سكانها 2400 شخص في مقاطعة بريتيش كولومبيا مع اقتراب حريق على بعد بضعة أميال.
أما في شرق البلد، فبين وزير الأمن العام في كيبيك فرانسوا بونارديل صباح يوم السبت أن الوضع في الأجزاء الوسطى والشمالية الغربية من المقاطعة لا يزال صعباً وبلدات عدة مهددة، حيث وصف الحرائق في شمال شرق كيبيك بأنها "مستقرة".
وأكمل: "هذه هي المرة الأولى في تاريخ كيبيك التي نشهد فيها مكافحة الكثير من الحرائق وإجلاء العديد من الناس.. سنخوض معركة نعتقد أنها ستستمر طوال الصيف".
وإذا تركنا قارة أمريكا الشمالية وتوجهنا نحو أوروبا، فسنجد أن الموقف لا يختلف كثيراً، إذ كانت وزارة البيئة وهيئة الأرصاد الجوية في إسبانيا قد قالت قبل أيام إن البلاد تشهد أكثر فصول الربيع حرارة وثانيها جفافاً منذ بدء الاحتفاظ بسجلات درجات الحرارة عام 1961، ومن المرجح أن تستمر درجات الحرارة أعلى من المتوسط هذا الصيف.
ولا تزال إسبانيا تعاني من جفاف دام لفترة طويلة وأهلك الإنتاج الزراعي بما في ذلك قطاع زيت الزيتون الذي يشكل نحو نصف الإنتاج العالمي. ويزيد الطقس الحار والجاف المخاطر الإضافية، إذ تُظهر الدراسات أن التغير المناخي يزيد مخاطر نشوب حرائق الغابات.
وقالت الوزارة في بيان إن متوسط درجات الحرارة في أنحاء إسبانيا، باستثناء جزر البليار والكناري، بلغ 14.2 درجة مئوية في الفترة ما بين أول مارس/آذار وأول يونيو/حزيران. ويزيد ذلك المتوسط 1.8 درجة مئوية عنه في الفترة ما بين عامي 1991 و2020، و0.3 درجة مئوية عن درجة الحرارة القياسية المسجلة عام 1997، بحسب رويترز.
وتتوقع نماذج التنبؤ بهيئة الأرصاد الجوية بنسبة تتراوح بين 50 و70% أن يكون هذا الصيف واحداً من أكثر خمسة فصول صيف حرارة في العقود الثلاثة الماضية رغم احتمال بنسبة تتراوح بين 40 و50% أن تشهد البلاد هطول أمطار أكثر من المعتاد. وأظهرت بيانات عام 2022 أنه الأشد حرارة منذ بدء الاحتفاظ بسجلات درجات الحرارة عام 1961.
وفي النصف الثاني من مايو/أيار الماضي، قالت خدمات الطوارئ في إسبانيا إن حريق غابات دمر ما يصل إلى 3700 فدان في منطقة إكستريمادورا بغرب إسبانيا وأجبر 550 شخصاً على مغادرة منازلهم، وسط طقس عاصف يعرقل جهود السيطرة على الحريق.