قبل 90 عاماً أرسلت ألمانيا طيارين لتدريب وتطوير القوات الجوية الصينية، واليوم يعيد التاريخ نفسه، ولكن بتفاصيل مختلفة، فكيف يساعد طيارون من أوروبا في نقل تكتيكات الناتو إلى الصين؟ وما مدى خطورة ذلك؟
كانت ألمانيا خلال ثلاثينيات القرن الماضي وحتى نهاية الحرب العالمية الثانية بهزيمتها وتدميرها، ثم تقسيمها، تمتلك أقوى سلاح جو في العالم، وخلال تلك الفترة كانت ترسل كثيراً من طياريها إلى الصين لتدريب وتطوير القوات الجوية الصينية، قبل أن تتحول برلين وبكين إلى عدوين.
جرت مياه كثيرة في النهر بطبيعة الحال على مدى ما يقرب من قرن من الزمان، وأصبحت ألمانيا ضلعاً رئيسياً في حلف الناتو المعادي للصين، فكيف يعيد التاريخ نفسه إذاً؟
ألمانيا والصين.. علاقات مركبة
مجلة Foreign Policy الأمريكية نشرت تقريراً يرصد كيف نقل الطيارون الألمان تكتيكات الناتو إلى الصين، في تكرار لما كان يحدث قبل ما يقرب من قرن من الزمان، فهناك تاريخ طويل للطيّارين العسكريين الألمان في مساعدة القوات الجوية الصينية.
في ثلاثينيات القرن الماضي، أرسلت ألمانيا النازية مستشارين عسكريين للمساعدة في بناء وتدريب القوة الجوية التابعة لجمهورية الصين، والتي كانت تقاتل المتمردين الشيوعيين تحت قيادة ماو تسي تونغ، وفي الوقت نفسه تقاتل أيضاً ضد الجيش الإمبراطوري الياباني الغازي.
توترت العلاقات الصينية الألمانية بعد سنوات قليلة، عندما تحالفت برلين مع طوكيو في الاتفاق الثلاثي. ومع ذلك، بحلول ذلك الوقت، لم يكن الطيارون الصينيون قد تلقوا تدريبات على يد القوات الجوية الألمانية فحسب، بل كانوا أيضاً يطيرون بطائرات قاذفة وطائرات مقاتلة ألمانية الصنع لمهاجمة الشيوعيين واليابانيين.
ويبدو أن التاريخ يعيد نفسه الآن، إذ يساعد الطيارون الألمان في تدريب القوات الجوية الصينية مرة أخرى. وفقاً لتقرير نُشر الأسبوع الماضي في مجلة Der Spiegel الألمانية، قام العديد من طياري القوات الجوية الألمانية السابقين بتدريب طيارين من سلاح الجو التابع لجيش التحرير الشعبي الصيني على مدار العقد الماضي.
وينقل التقرير عن مسؤولين أمنيين ألمان لم يكشف عن أسمائهم تحذيرهم من أنه "من المحتمل جداً أن يكون الطيارون قد نقلوا الخبرة العسكرية والتكتيكات العملياتية السرية، وحتى إنهم تدربوا على سيناريوهات الهجوم، مثل الهجوم على تايوان".
كانت الصين وتايوان قد انفصلتا خلال حرب أهلية في الأربعينيات، وتعتبر تايوان نفسها دولة ذات سيادة، وتحظى بدعم أمريكي وغربي، لكن بكين لا تزال تصرُّ على أنه ستتم استعادة الجزيرة في وقت ما، وبالقوة إذا لزم الأمر. ولا يعترف بتايوان سوى عدد قليل من الدول؛ إذ تعترف معظم الدول بالحكومة الصينية في بكين بدلاً عن ذلك. ولا توجد علاقات رسمية بين الولايات المتحدة وتايوان، ولكن لدى واشنطن قانون يُلزمها بتزويد الجزيرة بوسائل الدفاع عن نفسها.
وفي هذا السياق، يمكن للطيارين الألمان، حتى أولئك المتقاعدين الذين لم يحلِّقوا بالطائرات في وقتٍ قريب، تعليم الطيارين الصينيين تخطيط وتنفيذ قمع وتدمير الدفاعات الجوية للعدو، الأمر الذي كان بمثابة موطن قوةٍ للقوات الجوية الألمانية في أثناء وبعد الحرب الباردة مباشرةً.
إنها أيضاً مجموعة مهارات من المهم للقوات الجوية الصينية أن تكتسبها من أجل التفوق الجوي في أي قتال على تايوان، في الواقع كانت المهمة القتالية الوحيدة للقوات الجوية الألمانية منذ الحرب العالمية الثانية، في العام 1999، عندما شاركت أربع طائرات مقاتلة ألمانية من طراز تورنادو، مزودة بقدرات حرب إلكترونية وصواريخ مضادة للإشعاع قادرة على تتبع إشارات الرادار الواردة وصولاً إلى مصدرها، في حملة الناتو لتدمير الدفاعات الجوية الصربية.
ماذا يفعل طيارون ألمان وبريطانيون في الصين؟
كان بإمكان الطيارين الألمان تعليم نظرائهم الصينيين تفاصيل أخرى مهمة حول التخطيط للعمليات الجوية. على سبيل المثال، كان بإمكانهم تبادل المعلومات حول الأسس العسكرية لحلف الناتو بشأن العمليات الجوية المركبة، والتي تتمثل أساساً في كيفية تجميع الحلف لأنواع مختلفة من الطائرات معاً في عمليات محددة.
وتتطلب أي حملة صينية ضد الدفاعات الجوية التايوانية، على سبيل المثال، مزيجاً من الطائرات المختلفة التي تعمل معاً، وكلها مدمجة في حملة هجوم صينية أوسع تشمل صواريخ كروز وصواريخ باليستية مطلقة من الأرض، بالإضافة إلى طائرات مسيَّرة من أنواع مختلفة. إن تخطيط وتنفيذ مثل هذه العملية صعبٌ ومليء بالتعقيدات، وسيكون الضباط الصينيون ممتنين بالتأكيد لأي رؤيةٍ عملية عن كيفية التعامل مع الخصوم المحتملين.
يأتي كل ذلك في أعقاب الكشف الذي اتضح العام الماضي عن أن "ما لا يقل عن 30" طياراً سابقاً في سلاح الجو الملكي البريطاني قد قدموا بالمثل المشورة لجيش التحرير الشعبي، وقاموا بتعليم الطيارين الصينيين تكتيكات الناتو والأسس العسكرية الغربية.
إن قدرة هؤلاء الطيارين الألمان والبريطانيين على خدمة الجيش الصيني في مثل هذه المنطقة الحساسة لفترة طويلة تؤكد مرة أخرى على أن الأوروبيين يتعاملون مع بكين- خاصةً في المجال العسكري- بشكل مختلف تماماً عن تعامل واشنطن.
ففي حين أن الطيارين الأوروبيين ليسوا وحدهم الذين يعلمون خصومهم الصينيين مهارات متقدمة- اتُّهِمَ طيار سابق في مشاة البحرية الأمريكية بتدريب الطيارين الصينيين على الهبوط على حاملات الطائرات- فإن العدد الهائل من الحالات في أوروبا هو أحد أعراض مشكلة أكبر وأكثر منهجية.
ويقول تحليل فورين بوليسي إن أوروبا تحاج إلى أن "تتوقف عن الاستخفاف بتهديد القوة العسكرية الصينية المتنامية لأمنها، ويجب أن يتغير نهج أوروبا المتراخي إزء الصين بسرعة، إذا كانت ترغب في أن تظل في سلام وأمان".
يمكن تفسير عدم مبالاة أوروبا تجاه الطموحات العسكرية الصينية بسهولة، أولاً يُنظر إلى المواجهة العسكرية الأكثر احتمالاً- صراع تايوان الذي ربما يتصاعد إلى حرب مستعرة في شرق آسيا- في المقام الأول على أنها قتال بين الولايات المتحدة والصين. ثانياً، إن تصورات الأوروبيين للصين على أنها خارج اختصاصهم العسكري يعزِّزها ما قاله لهم صانعو السياسة الدفاعية الأمريكيون: يجب على أوروبا تخصيص المزيد من الموارد العسكرية للدفاع عن نفسها، بدلاً من تقديم مساهمات عسكرية طفيفة في معركة محتملة ضد الصين على تايوان.
بعبارة أخرى، يرى المخططون العسكريون الأمريكيون تقسيماً للعمل، حيث يتمكن الأوروبيون أخيراً من الدفاع عن أنفسهم ضد روسيا الصاعدة بدعم طفيف من الولايات المتحدة، بينما تركز الولايات المتحدة على آسيا لوقف ما تروج له واشنطن على أنه "موجة من العدوان الصيني"، وهو ما تنفيه بكين بطبيعة الحال.
كيف تتعامل أوروبا عكس أمريكا في المجال العسكري؟
ليس هذا هو تقسيم العمل الذي تريده واشنطن فحسب، بل إنه من المحتمل أيضاً أن يكون ذلك هو الشيء الذي تريده أوروبا، حتى لو كان بإمكان أوروبا إرسال قوات مقاتلة إلى آسيا في حالة نشوب نزاع في تايوان. ويقوِّض الطيارون العسكريون الألمان والبريطانيون الذين يقومون بتدريب الطيارين الصينيين تقسيم العمل هذا.
لكن ربما يكون السبب الأكبر وراء افتقار أوروبا للقلق الكافي بشأن قيام طياريها بإفشاء الأسرار العسكرية لبكين هو افتقار العديد من الحكومات الأوروبية للجدية بشأن التهديدات العسكرية.
ليس هذا مفاجئاً، إذ ساعدت الصناعة الأوروبية بشكل مباشر أو غير مباشر في التعزيز العسكري لروسيا على مر السنين، من خلال توفير المعدات العسكرية، والتكنولوجيا ذات الاستخدام المزدوج، بما في ذلك تقنيات التصنيع الدقيقة المستخدمة في صنع أسلحة متطورة، وغيرها من أشكال الدعم لروسيا حتى عام 2020 على الأقل.
وأخيراً، أجبرت الحرب في أوكرانيا أوروبا الغربية على أن تصبح أكثر جدية بشأن روسيا، لكنها لا تزال "ساذجة بشأن التهديد من الصين"، كما تقول فورين بوليسي. لن يؤدي نقل الأوروبيين للأسرار العسكرية إلى الصينيين إلى زيادة صعوبة خوض أي حرب في آسيا وانتصارها على الولايات المتحدة وحلفائها فحسب، بل إن توطيد قوة الخصوم وإعلامهم بالتكتيكات العسكرية يجعل مهمة ردع الحروب المستقبلية في أي منطقة أصعب.
كانت مجلة Foreign Affairs الأمريكية قد نشرت تحليلاً عنوانه "لماذا لا يزال الدفاع الأوروبي يعتمد على الولايات المتحدة"، رصد أسباب استمرار الاتحاد الأوروبي في الاعتماد على الحماية الأمريكية، ويعارضون تماماً تأسيس جيش أوروبي مستقل.
ورغم أن فكرة إنشاء ما يمكن وصفه بالجناح العسكري للاتحاد الأوروبي ليست جديدة، وكانت هناك محاولة بالفعل قبل 20 عاماً لكنها فشلت، فإن وزراء الدفاع في الاتحاد كانوا قد وضعوا مقترحاً يهدف إلى تأسيس كتيبة قوامها 5 آلاف جندي، مدعومة بسفن وطائرات حربية، بغرض مساعدة الحكومات الأجنبية الديمقراطية التي تكون بحاجة لدعم عسكري عاجل، وذلك في مايو/أيار من عام 2021.
لكن يبدو أن تركيز الأوروبيين قلقهم نحو روسيا فقط وليس الصين لا يروق للأمريكيين، فالمعدات العسكرية التي تحتاجها الولايات المتحدة لخوض حرب محتملة ضد الصين في شرق آسيا هي بالضبط المعدات العسكرية التي تحتاجها أوروبا للحفاظ على الردع المناسب ضد روسيا.
ويشمل ذلك الذخائر الموجهة بدقة، وأنظمة الدفاع الجوي بعيدة المدى، والمركبات الجوية غير المأهولة، وطائرات الاستخبارات والمراقبة والاستطلاع، وقدرات الاستطلاع السيبراني، إلخ. فليس لدى واشنطن ما يكفي من هذه المنصات والقدرات المتطورة، وأي شيء يفعله الأوروبيون لمساعدة الصين يعني أن الولايات المتحدة بحاجة إلى نقل المزيد من المعدات إلى آسيا. ورغم الزلزال الذي سببه الهجوم الروسي على أوكرانيا، الذي تصفه موسكو بأنه "عملية عسكرية خاصة"، بينما يصفه الغرب بأنه "غزو عدواني غير مبرر"، فإن الدول الأوروبية، وخاصةً ألمانيا، بطيئة في إعادة الاستثمار في مثل هذه القدرات المتطورة.
طلب وزير الدفاع الألماني بوريس بيستوريوس، في اجتماع مع نظيره الصيني، من بكين التوقف عن توظيف طيارين سابقين في القوات الجوية الألمانية لتدريب الطيارين المقاتلين الصينيين، لكن يرى تحليل فورين بوليسي أن هذا ليس كافياً، وكخطوة أولى فورية "يتعين على الحكومات الأوروبية إصدار تشريعات لحظر مواطنيها والشركات من مساعدة جيش التحرير الشعبي الصيني بأي شكل من الأشكال".
ومع ذلك، فإن تغيير العقلية الأوسع في أوروبا بشأن التهديد العسكري الصيني سيكون أصعب، إذ يرى الأمريكيون أنه من الأفضل لأوروبا أن تتخلى عن "سذاجتها فيما يتعلق بالقوة العسكرية الصينية"، حتى لو لم يكن من المحتمل أن تمطر أي صواريخ صينية على باريس أو لندن أو برلين. وبالنظر إلى حجم ومستوى الدمار الذي يُحتَمَل أن يسببه صراع بين القوى العظمى في آسيا، ستحتاج الولايات المتحدة إذا انتصرت سنوات عديدة لإعادة بناء قواتها المسلحة، ما يترك القليل من المال لأوروبا.