في الوقت الذي تجري فيه المعارك بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع ميدانياً، كانت وفود التفاوض تذهب وتعود من وإلى جدة، وتوقع الهدنة تلو الهدنة، دون أن يُحدث ذلك أي تغيير حاسم على الأرض. استمرت هذه الثنائية بين المفاوضين والمعارك لمدة فاقت 50 يوماً، منذ بداية الحرب في 15 أبريل/نيسان وحتى الآن.
هذا يؤكد حقيقةً، مفادها أن المعارك والمفاوضات سارتا معاً، دون توقف ودون أن تحققا الهدف المنشود من كلتيهما. ولكن الحقيقة الأخرى الأكثر دراماتيكية هي التحويل الذي طرأ على طبيعة الحرب نفسها، من معركة بين جيشين متقاتلين، إلى معركة أشبه ما تكون بحرب المدن، تجري أحداثها داخل الأحياء السكنية، مما عرّض منازل المواطنين والمنشآت المدنية إلى خطر شديد.
بحسب البيانات الصادرة عن الناطق الرسمي للقوات المسلحة، فإن الجيش الحكومي استعاد كل المعسكرات التي توجد فيها قوات الدعم السريع، وبالتالي تم قطع الإمداد العسكري والتمويني عن قوات الدعم السريع، مما جعلها منتشرة في الشوارع والأحياء السكنية دون أن تكون في معسكر محدد.
وبحسب بيانات عدد من الأحزاب السياسية، مثل حزب الأمة القومي والحزب الشيوعي وحزب المؤتمر السوداني ومجلس الكنائس السودانية، فإن قوات الدعم السريع لجأت إلى احتلال منازل المواطنين والمستشفيات والمرافق الخدمية والمستشفيات ودور الأحزاب.
وحسب البيان الصادر من وزارة الصحة الاتحادية، فإن عدد المستشفيات التي استولت عليها قوات الدعم السريع قفز من 22 مستشفى قبل توقيع هدنة وقف إطلاق النار المؤقت، إلى 42 مستشفى أثناء الوقت المحدد لاستمرار الهدنة.
على أثر هذا الواقع المرير، أدلى كثير من السودانيين بإفادات وتصريحات أكدوا فيها احتلال بيوتهم بواسطة قوات الدعم السريع مثل البيان الصادر عن أسرة رئيس الوزراء الأسبق السيد عبد الله خليل بك، وبيان السيد مبارك الفاضل رئيس حزب الأمة.
كما خرج المواطنون في مسيرات شعبية في عدد من ولايات السودان، اعترضوا فيها على عقد المفاوضات نفسها، مطالبين بالحسم العسكري.
لقد شكلت تلك المواقف الشعبية ضغطا كبيرا على قيادة الجيش الذي القى بظلال كثيفة على مفاوضات جدة، ترجمها وفد الحكومة المفاوض مباغتة، الوسيطين، أمريكا والسعودية، بالسؤالين التاليين: ما فائدة الاستمرار في المفاوضات إذا لم ينتج عنها إخلاء منازل المواطنين والأحياء السكنية والمؤسسات الخدمية؟
والسؤال الثاني الأكثر أهمية هو: لماذا لم تحمل الوساطة المسؤولية لقوات الدعم السريع عن هذه الأفعال المحرمة وفق القوانين الدولية؟ وعلى أثر الحوار حول هذين السؤالين أصدر الجيش السوداني بياناً أعلن فيه تجميد مشاركته في المفاوضات، مسبباً ذلك بعدم التزام قوات الدعم السريع ببنود الهدنة التي وقعوا
وتبعه ببيان آخر يتهم الوساطة بعدم مراعاة المقترحات التي دفع بها إليها.
الخطط العسكرية لكلا الطرفين المتقاتلين
في نشراته الإعلامية اليومية المتتالية، ذكر الجيش السوداني أنه لم يلجأ إلى تتبع المتمردين داخل الأحياء السكنية حتى لا تحدث مجزرة بين المواطنين. وعوضاً عن ذلك لجأ الجيش إلى خطة عسكرية أخرى بديلة، يتمكن من خلالها من استنزاف قوات الدعم السريع دون أن يقضي عليها.
كما أن قوات الدعم السريع استمرت في الاحتماء من القصف الجوي للجيش بالمنازل والانتشار في الأحياء السكنية والمرافق الخدمية مع إحداث بعض الغارات العسكرية المتفرقة هنا وهناك لأهداف حكومية، مثل سلاح المهندسين ومنطقة كرري العسكرية.
فقد استطاع الجيش من خلال خطته أولاً تأمين كل المؤسسات العسكرية الاستراتيجية، وتمكن ثانياً من احتلال كل معسكرات الدعم السريع والقضاء على أكثر من 60% من قوته العسكرية، واستنزاف المتبقي منها في معارك يومية صغيرة.
لكنه بالمقابل فشل في تأمين المؤسسات الخدمية مثل البنوك والمستشفيات، كما فشل في تأمين الأحياء السكنية وممتلكات المواطنين، كما أن إطالة أمد الحرب لما يقارب الشهرين يعتبر فشلاً آخر للجيش، وقد كان الرأي العام يتوقع انتهاء في ظرف أسبوع أو أسبوعين.
وفي إطار الحرب النفسية والإعلامية قام كثير من جنود قوات الدعم السريع بنشر فيديوهات يوثقون فيها احتلالهم لبعض منازل المواطنين أو المستشفيات أو يجرون مقابلة صحفية مع بعض الأسرى من قادة الأحزاب مثل رئيس حزب دولة القانون.
اللجوء إلى المفاوضات من أجل تحرير الرهائن والمنازل
في كل بياناتها المتتالية ظلت قوات الدعم السريع تنادي بتطوير المفاوضات إلى مرحلة الحلول السياسية، بينما تمسكت قيادة الجيش بأن تقتصر المفاوضات على هدف إنساني واحد هو حماية المدنيين من أي قيود تحد من حرياتهم المكفولة، بما في ذلك إخراج قوات الدعم السريع من المنازل والمنشآت.
أي إن الجيش يريد أن يحقق من المفاوضات مكاسب ذات بعد إنساني، وليس عسكري، يضمن حقوق المواطنين وإيقاف ارتكاب الجرائم في حقهم. لقد ذكرت الوساطة في ديباجة اتفاق الهدنة اقتصار بنود المفاوضات فقط على القضايا الإنسانية لحماية المواطنين من قائمة من الجرائم الممنوعة، حسب ميثاق الأمم المتحدة.
وبذلك يكون المجتمع الدولي قد أصبح شاهداً ومسؤولاً عن تحديد من ارتكب هذه الجرائم، مؤكداً على ضرورة الالتزام بإخلاء المنازل والمستشفيات والمرافق المدنية من جميع المظاهر العسكرية.
أي إن الوساطة نسبت الجرائم إلى المجهول، ولم تحدد الجهة التي ارتكبتها سوف تسهم في إفلات المجرم من العقاب، وتكون متواطئة معها ولو بالصمت.
وبالفعل، ورغم كل هذه المجهودات، فإن استمرار حدوث الجرائم لم يتوقف قط، قبل وأثناء سير الهدنة، بل ظلت مستمرة وكأن هدنة لم يتم التوقيع عليها. وهذا هو السبب المباشر الذي علل به الوفد الحكومي تجميد مشاركته في المفاوضات.
جدوى استمرار المفاوضات
مارس الرأي العام السوداني ضغطاً معنوياً كبيراً على قيادة الجيش، وحمّلها المسؤولية الدستورية والأخلاقية على الاستمرار في المفاوضات، بينما ارتكاب الجرائم ما زال مستمراً ولم يتوقف حتى أثناء فترة الهدنة.
وبما أن الجيش قد استجاب للضغط الشعبي الكثيف عليه وجمّد مشاركته في المفاوضات، كان لابد له من إيجاد خطة بديلة يحدد من خلالها الخطوة المقبلة التي يستطيع بواسطتها إيقاف الجرائم في حق المواطنين إخراج قوات الدعم السريع من الأحياء السكنية والمنازل والمستشفيات والمنشآت. وبالمقبل فقد صعد كبار قادة الرأي العام الداخلي من انتقادهم الشديد لقوات الدعم السريع؛ طالبين منها إدارة حربها مع الجيش بعيداً عن الأحياء السكنية والمنشآت.
ومن اللافت للنظر اشتراك قادة الحركات المتمردة الأخرى من توجيه ذات الانتقادات للدعم السريع.
إذاً، وفي ظل هذه الأجواء المشحونة، فقد تهيأ الرأي العام إلى المعركة الحاسمة خارج قاعات المفاوضات. خاصة إذا قرأنا ذلك بتفريغ الخرطوم من سكانها المدنيين ومن البعثات الديبلوماسية؛ إذ تم إجلاء كل البعثات الدبلوماسية الأجنبية بالخرطوم.
خيار الحسم العسكري
بالتوازي، وفي هذه الأثناء، ظهر البرهان بكامل بزته وسلاحه العسكري وسط جنوده في الخطوط الأمامية للحرب، معلناً أن الجيش تفادى حتى الآن استعمال القوة الفتاكة، لكنه سيلجأ إليها مضطراً.
شاهد المواطنون الجنود والآليات والتعزيزات العسكرية للجيش، وكأنه يكمل استعداداته لمعركة الحسم النهائية، في الوقت الذي يتحدث فيه عدد من الأكاديميين السياسيين أن الجيش السوداني لا ينقصه الغطاء الأخلاقي الكافي لخوض المعركة، مهما كانت شراستها ونتائجها المتوقعة.
وبحسب بعضهم، فإن معركة تحرير منازل المواطنين والمستشفيات والمرافق العامة، كما شن كثير من القيادات الشعبية انتقادات لاذعة للجيش عن تأخيره في استعمال القوة المفرطة لإيقاف الجرائم المرتكبة في حق المواطنين.
ولعل ذلك يجعل الجيش في وضع مبرر أخلاقياً وقانونياً لحسم المعركة عسكرياً بعد أن استنفد كل الخيارات الأخرى بشهادة المجتمع الدولي، ولم تترك له "الدعم السريع" خياراً آخر غير استخدام القوة المفرطة في معركة الحسم النهائي.
ومن المتوقع أن تكون المعركة في العاصمة الخرطوم، نظراً لعدم الالتزام ببنود الهدنة رغم التوقيع عليها.