قبل جائحة كورونا، كانت أفقر بلدان العالم تعاني مصاعب جمة في سداد ديونها. وحلَّت الجائحة، فزادت الأمور سوءاً. ولحل هذه الأزمة، فإن البلدان الثرية -التي اجتمعت في منتدى مجموعة العشرين في عام 2020- عمدت إلى صياغة خطةٍ منظمة لتخفيف عبء الديون تسمى مبادرة "الإطار المشترك لمعالجة الديون".
صيغت المبادرة بحيث تكون معبرة عن الواقع الجديد، الذي صارت قروض الصين للدول النامية فيه أكثر بكثير من قروض الدول الغربية المنتمية إلى "نادي باريس"، أي الكيان الذي أشرف على مفاوضات الديون الدولية لعقود.
وحصلت كل من الهند والسعودية على مقعد إلى الطاولة. ومع ذلك، فإن المبادرة لم تسفر عن أي تخفيف معتبر لأزمة الديون، لا سيما بعد توقف المفاوضات منذ نحو 6 أشهر، بسبب مطالب الصين بالانفصال عن الطرق التقليدية لنادي باريس، وهو خلاف يُعزى إلى تزايد التوترات الجيوسياسية بين بكين وواشنطن. لكن هذا التعثر زاد من مخاوف الاقتصاديين، الذين ذهبوا إلى أن العجز عن حل هذا الجمود سيزيد من وطأة الركود الاقتصادي، ويوسع نطاقه، في كثير من مناطق العالم، بحسب تقرير لوكالة Bloomberg الأمريكية.
1- ما حجم مشكلة الديون؟
في أواخر عام 2021، كانت أكثر من 70 دولة منخفضة الدخل تواجه أعباء ديون تبلغ 326 مليار دولار. وتشير بيانات البنك الدولي إلى أن النسبة المئوية لأعباء خدمة الديون من الدخل القومي الإجمالي لهذه الدول قد زادت بأكثر من الضعف منذ عام 2010.
وفي عام 2022، بلغ إجمالي مدفوعات الديون السنوية لهذه الدول نحو 62 مليار دولار، أي إنها زادت بنسبة بلغت نحو 35% على نظيرتها في العام السابق.
بحلول أوائل عام 2023، كان أكثر من نصف الدول منخفضة الدخل قد بلغ مرحلة "التعثر المالي" أو توشك على الوقوع فيها. فقد بدأت إثيوبيا وغانا في التفاوض لإعادة هيكلة ديونها؛ وانحدرت بعض البلدان، مثل لبنان وباكستان والأرجنتين، إلى حالة التعثر المالي؛ وتخلفت زامبيا وسريلانكا عن سداد ديونها.
2- ما الصيغة التي كان يُفترض أن تُنفذ بها مبادرة معالجة الديون؟
صيغت المبادرة لتخفيف أعباء خدمة الديون المقدمة من الحكومات والبنوك والشركات الخاصة؛ ووضع معايير لمعالجة الديون بإشرافٍ من المقرضين الغربيين التقليديين وكبار الدائنين الجدد، مثل الصين.
وكان المفترض أن يتولى البنك الدولي وصندوق النقد الدولي تحليل احتياجات الدولة التي تطلب المساعدة، ثم الإشراف على ترتيبات التمويل لتمهيد الطريق أمام اتفاقات الديون مع المقرضين الحكوميين أو المدعومين من الحكومات.
وكانت الغاية المرجوة أن يشارك المقرضون من القطاع الخاص -مثل البنوك الخاصة- طواعية في الاعتماد على شروط تخفيفية مماثلة. ولكن الواقع أنه حتى يونيو/حزيران، لم يكن أي بلد قد تلقى إعفاء جوهرياً من أعباء خدمة الديون من خلال مبادرة الإطار المشترك.
3- ما الأسباب التي عطَّلت تنفيذ المبادرة حتى الآن؟
أول أسباب تعطل الخطة أن إعداد تقارير التحليل الاقتصادي التي ستُبنى عليها الصفقات كان أمراً أصعب وأكثر استهلاكاً للوقت مما كان متوقعاً. لكن السبب الأبرز هو تعثر المفاوضات المتعلقة بقروض صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، وغيرها من جهات الإقراض "متعددة الأطراف".
فقد جرت العادة أن تُسدد قروض هذه الجهات بالكامل، حتى لو شُطب جزء من قروض الدول للأطراف الأخرى. وكانت الفكرة أن جهات الإقراض متعددة الأطراف تحتاج إلى حماية قاعدة رأس مالها وتصنيفها الائتماني للاستمرار في أداء أدوارها التنموية بأقل التكاليف.
لكن الصين جادلت في البداية بأن جهات الإقراض متعددة الأطراف يجب أن تتقاسم الخسائر مثل أي دائن آخر. ثم تحولت بعد ذلك إلى موقف مفاده أن البنك الدولي عليه أن يزيد الإقراض، أي إن جهات الإقراض متعددة الأطراف ستشارك العبء بجمع المزيد من الأموال، بدلاً من تحمل الخسائر. وكان الخلاف الكامن وراء هذا الموقف أن الصين ترى أن دورها لا يزال محدوداً في صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، وأن أوروبا والولايات المتحدة لديهما الهيمنة على هذه المؤسسات، على الرغم من تزايد النفوذ الاقتصادي لبكين خلال هذا القرن.
4. ما خلفية هذا الموقف من الصين؟
بدأت الصين إقراضاً واسع النطاق للدول النامية والأسواق الناشئة بعد إطلاق "مبادرة الحزام والطريق" -المعنية بتعزيز البنية التحتية للدول المشاركة فيها- في عام 2013. وقد أقرَّت الصين هذا المشروع لتحسين آفاق تجارتها، وبسط نفوذها الاقتصادي، وزيادة العقود الموكلة إلى شركات البناء الصينية. وتوجه ما يقرب من ثلثي تمويل البنوك الصينية إلى أنشطة استخراج المعادن، وبناء خطوط الأنابيب، والنقل، ومشروعات الطاقة. فكان أن زادت ديون البلدان الفقيرة للصين من 13.8 مليار دولار في عام 2010 إلى 104 مليارات دولار في عام 2021.
وانضمت الهند والسعودية إلى صفوف المقرضين المهمين في ما يسمى بـ"سوق الديون السيادية"، فزادت ديون حكومات الدول الفقيرة إلى البنوك الخاصة من 20.6 مليار دولار في عام 2010 إلى 167.5 مليار دولار.
5. ما دور المستثمرين من القطاع الخاص؟
زادت مشاركة المستثمرين من القطاع الخاص زيادة كبيرة عما كانت عليه في الماضي، فقد أصبحت السندات السيادية التي تصدرها الحكومات موزعة على مئات الدائنين، مثل صناديق التحوط في نيويورك، وصناديق الثروة السيادية في الشرق الأوسط، وصناديق التقاعد الآسيوية.
وقد زاد ذلك من صعوبة التوافق بين هذه الأطراف المختلفة، لا سيما وأن مبادرة الإطار المشترك لمعالجة الديون مبادرة طوعية وليست إلزامية. وقد تردد كثير من المقرضين في الموافقة على شطب ديونهم، واشترطوا الحصول على ضمانات بأن الدائنين الآخرين سيشاركونهم مشاركة عادلة في تقاسم أعباء الديون.
6. ما محصلة ذلك على الدول الفقيرة؟
أحرزت الأطراف المشاركة في المبادرة بعض التقدم في المفاوضات، لكن الخلافات بين الصين وأعضاء مجموعة العشرين لم تُحل حتى يونيو/حزيران، ومن ثم تميل التوقعات إلى أن البلدان التي تعاني التعثر في سداد الديون ستظل محرومة من أسواق رأس المال الدولية، ومن الوصول إلى الأموال اللازمة للتنمية الاقتصادية.
وقد دفع هذا الاحتمال كبيرة الاقتصاديين السابقة بالبنك الدولي، كارمن راينهارت، إلى التحذير من وقوع هذه الدول في غياهب "عقد ضائع" على غرار المعاناة التي تعرضت لها كثير من دول أمريكا اللاتينية بعد أزمة الديون في الثمانينيات.
علاوة على ذلك، أبدى خبراء تخوفهم من تزايد موجات الهجرة إذا تعرضت هذه الاقتصادات الهشة لأزمات إنسانية واسعة النطاق. وقد يكون البديل لهذه الدول أن تبرم صفقات خارج إطار مبادرة الإطار المشترك لمعالجة الديون، لكن من المستبعد أن تأتي هذه الصفقات بشروط يسيرة.