خلال الشهر الماضي، قام الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي بجولة خارجية نادرة؛ حيث أمضى أسبوعاً تقريباً في جدة بالمملكة العربية السعودية وهيروشيما باليابان. وكان هدفه من تلك الجولات كسب دعم البرازيل والهند وإندونيسيا والسعودية حول الحرب الروسية في أوكرانيا.
والسبب في ذلك أن هذه الدول تتمتع وغيرها من البلدان الرائدة في الجنوب العالمي بقوة أكبر من أي وقت مضى. وأسباب ثقلهم الجيوسياسي "المكتشف حديثاً" لدى الغرب، نموهم الاقتصادي، وقدرتهم على الاستفادة من التغيرات الإقليمية، والأهم أنهم يمكنهم الاستفادة من التوترات بين أمريكا من جهة، والصين وروسيا من جهة أخرى.
6 دول ذات ثقل جيوسياسي تتأرجح ما بين المعسكر الشرقي والغربي
تتمتع اليوم "القوى الوسطى" كما تسميها مجلة Foreign Policy الأمريكية، بفاعلية أكبر من أي وقت مضى منذ الحرب العالمية الثانية. إذ أن هذه دول ذات نفوذ كبير جيوسياسياً، لكنها أقل قوة من القوتين العظميين في العالم: الولايات المتحدة والصين.
أما بالنسبة لفرنسا وألمانيا واليابان وروسيا وكوريا الجنوبية وغيرها من الدول القوية، فإن هذه الدول لا تخبرنا كثيراً عن الديناميكيات المتغيرة للقوة والنفوذ، لأنها تظل متحالفة على نطاق واسع مع الولايات المتحدة.
الأمر الأكثر إثارة للاهتمام هو أن "القوى الوسطى" الـ6 الرئيسية في الجنوب العالمي: تركيا والسعودية والبرازيل والهند وإندونيسيا وجنوب إفريقيا. هذه الدول المتأرجحة في الجنوب العالمي ليست متوافقة تماماً مع أي من القوتين العظميين كما يعرفها المعهد الأمريكي "جيرمن مارشل فاند"، وبالتالي فهي حرة في خلق ديناميكيات قوة جديدة.
وهذه الدول الست أعضاء في مجموعة العشرين وينشطون في بقوة في المجالات الجيوسياسية والجيواقتصادية، وهم يعملون كمقياس جيد للاتجاهات الجيوسياسية الأوسع في الجنوب العالمي.
ما أسباب تصاعد قوة هذه "الدول المتأرجحة"؟
هناك العديد من الأسباب للأهمية المتزايدة لهذه الدول الست، ولكن يمكن تصنيفها في مجموعتين بحسب "فورين بوليسي": التطورات التاريخية طويلة الأجل، والاتجاهات العالمية الأحدث. فيما يتعلق بالعنوان الأول، فقد أعطت التطورات منذ الحرب الباردة هذه القوى مزيداً من الفاعلية في العلاقات الدولية. وتضمنت الحرب الباردة فصلاً أكثر صرامة بين الكتل المتعارضة، الأمر الذي أدى إلى ظهور بعض الدول المتأرجحة اليوم.
وفي الحقبة اللاحقة من القطبية الأحادية للولايات المتحدة، أصبح بعض الدول ملزمة بالولاء لواشنطن، لكن القطبية الثنائية بين الصين والولايات المتحدة اليوم أضعف، لذا تتمتع جميع "القوى الوسطى" بحرية أكبر في الحركة بين المعسكرين.
وفيما يتعلق بالعنوان الثاني، فقد كان العالم يتراجع عن العولمة بطرق مهمة على مدى العقدين الماضيين، ونتيجة لذلك تتشكل علاقات جيوسياسية وجغرافية اقتصادية جديدة على المستوى الإقليمي. وفي جميع الدول المتأرجحة قادة إقليميون، وتزداد أهمية هذه الدول مع انتقال السلطة إلى مناطقهم، وجعل سلاسل التوريد أقرب إلى إلى بلدانهم، وتوثيق الشراكات مع الدول الصديقة ووضعها في خانة "التفكير المماثل"، وهو ما ينقل ببطء بعض الشركات والعلاقات التجارية بعيداً عن الصين إلى مناطق أخرى، ومعظمها في الجنوب العالمي.
وستصبح بعض الدول المتأرجحة في الجنوب العالمي مراكز أكثر انشغالاً للتجارة الإقليمية. والهند هي أفضل مثال على ذلك، حيث تقوم بعض الشركات الأمريكية بإنشاء وتوجيه سلاسل التوريد الجديدة هناك.
وأصبحت أسواق الطاقة أكثر إقليمية، مما يفيد السعودية ويعطيها قوة أكبر. وبالمثل فإن العاصمة الرياض، ستبرز كمركز مالي إقليمي. ويؤكد صندوق النقد الدولي (IMF) على أن العالم يتفكك، ومن المنطقي أن تلعب القوى الوسطى الإقليمية في العالم المتشرذم دوراً مهماً بشكل متزايد.
وخلال الحرب الباردة، كانت الهند وإندونيسيا قد خرجتا للتو من الحكم الاستعماري. وحد ذلك من دورهما العالمي خلال تلك الحقبة ثنائية القطب. لكن اليوم، الدول المتأرجحة الست هي جهات فاعلة مستقلة تماماً. لكنها ليست مجرد تجسيد جديد لحركة عدم الانحياز، أو التجمعات الأخرى التي يهيمن عليها الجنوب العالمي، مثل مجموعة الـ77 للدول النامية، ومجموعة بريكس: (البرازيل، وروسيا، والهند، والصين، وجنوب إفريقيا).
فكل هذه المجموعات تشارك أو تنطوي على بعض التقارب الأيديولوجي، وهو ما لا تمتلكه الدول الست المتأرجحة اليوم. ويساعد غياب التقارب الأيديولوجي على تحرير هذه الدول من اتباع نهج معاملات متشدد في السياسة الخارجية، مما يؤدي بدوره إلى زيادة تأثيرها الكلي على الشؤون الدولية، بحسب فورين بوليسي.
كيف تستفيد "القوى الوسطى" من التوترات بين أمريكا والصين؟
تتعزز قوة الدول المتأرجحة من خلال النفوذ الذي تكتسبه من المنافسة والمواجهة التي تميز العلاقات الأمريكية الصينية بشكل متزايد. وتريد كل قوة عظمى أن تتماشى الدول المتأرجحة معها، مما يخلق فرصاً جديدة لهذه الدول.
على سبيل المثال، زادت قوة الهند ونفوذها بشكل كبير منذ انضمامها إلى الحوار الأمني الرباعي، وهي مبادرة تقودها الولايات المتحدة لتحقيق التوازن في الصين. كما استفادت البرازيل وإندونيسيا من حرص الصين على إبرام صفقات بشأن المعادن الهامة، وخاصة الليثيوم والنيكل والألمنيوم.
وبحسب دراسة حديثة لمعهد "جيرمن مارشل فاند"، أن كل دولة من الدول الست قد تتأرجح نحو الولايات المتحدة أو الصين بشأن قضية معينة، إلا أن معظمها تظل متوازنة نسبياً في ولاءاتها. وفي الوقت الحالي، فإن إرادة هذه الدول حرّة في العديد من المجالات. الاستثناء الوحيد هو التقنيات الأساسية، بما في ذلك أشباه الموصلات والذكاء الاصطناعي وتكنولوجيا الكم واتصالات الجيل الخامس والتكنولوجيا الحيوية؛ وهنا ربما يتعين على القوى الوسطى الاختيار بين التجارة مع أمريكا أو الصين.
وبالمثل، فإن الدول المتأرجحة في جنوب الكرة الأرضية، باقتصاداتها الكبيرة والمتنامية، تستمد نفوذها من سياسات المناخ الدولية؛ حيث لا يمكن أن يكون هناك حل لتحديات التلوث وتأثيرات المناخ دون مشاركة هذه الدول.
وستجلب أسواق الكربون الموارد بشكل متزايد إلى هذه القوى الوسطى، بغض النظر عن تأثيرها الفعلي على الانبعاثات، لأن الشركات الغربية بحاجة إلى شراء تعويضات؛ لأنها تسعى إلى مرحلة صفر كربون.
الأزمة في أوكرانيا أبرزت قوة هذه الدول بشكل واضح
لعبت الدول المتأرجحة الست دوراً مهماً في أزمة العقوبات المتبادلة بين روسيا والغرب، واستقطابات الحرب في أوكرانيا. فمنذ البداية، رفضوا الانصياع وراء المساعدات العسكرية الغربية لأوكرانيا والعقوبات المفروضة على روسيا. وهم يجادلون بأن الحرب تؤثر فقط على الأمن الأوروبي وليس على الأمن العالمي، وأنها لا تعزز مصالحهم الوطنية في التنمية، وخفض الديون، والأمن الغذائي، وأمن الطاقة، ومجالات أخرى.
لكن أهم تأثير لهذه الدول على الحرب كان دورها القيادي في معارضة العقوبات الغربية على روسيا، وظل معظم هذه القوى الوسطى محايدة بشدة، على الرغم من أن جنوب إفريقيا كانت تميل نحو روسيا. وقد حافظت الدول الست على العلاقات التجارية وغيرها من العلاقات مع روسيا أو عززتها منذ بداية الحرب.
ويتوقع صندوق النقد الدولي أن الاقتصاد الروسي سينمو بنسبة 0.7% هذا العام، فبالكاد أثر الشلل الذي كانت تأمله الدول الغربية على الاقتصاد الروسي. وساعدت الدول المتأرجحة روسيا على تخفيف تأثير العقوبات وستواصل القيام بذلك. وهي أحد الأسباب التي تجعل الكرملين يعتقد على ما يبدو أنه قادر على تحقيق الدخل المطلوب من خلال تحويل تجارته جنوباً وشرقاً.
والنفوذ المتزايد بشكل كبير للقوى الوسطى في الجنوب العالمي واضح أيضاً في مبادرات الوساطة الخاصة. فتركيا هي القوة الخارجية الوحيدة المؤثرة في الحرب في أوكرانيا، حيث كان الرئيس التركي رجب طيب أردوغان مفاوضاً رئيسياً بشأن صفقات الحبوب، وشارك في محادثات السلام في بداية الحرب، وهو في وضع جيد لتسهيل المحادثات المستقبلية إذا اختارت الأطراف المتحاربة ذلك.
وتقدم الرئيس البرازيلي لويس لولا دا سيلفا بمبادرته الخاصة لإنهاء الحرب. في غضون ذلك، وضعت الهند نفسها بهدوء أكبر للتوسط في السلام في المستقبل. هذه الدول الآن في وضع جيد للتوسط في صراعات أخرى أيضاً. مكانة الهند في هذا الصدد عالية بشكل خاص، لأسباب ليس أقلها أنها تساهم بالفعل بنسبة 8 في المئة من قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة، اعتباراً من فبراير/شباط 2023.
ألا تمثل هذه الدول المتأرجحة مجموعة "بريكس"؟
تقول فورين بوليسي إن التركيز الشعبي على دول البريكس باعتبارها الثقل الموازن الرئيسي للهيمنة الغربية يحجب الكثير مما يثير الاهتمام حول الجنوب العالمي؛ ذلك لأن انضمام الصين وروسيا إلى دول البريكس يخفي الصعود الحاسم للدول المتأرجحة الست.
والصين اليوم هي إحدى القوتين العظميين في عالم ثنائي القطب، واعتبار الصين جزءاً من جنوب الكرة الأرضية امتداداً كبيراً، ويرجع ذلك أساساً إلى أن القوة الاقتصادية للصين وطموحاتها الجيوسياسية الواسعة تجعلها دولة من نوع مختلف.
أما روسيا فهي أقل حجماً من الصين، لكنها تعد نفسها خصماً للغرب، وهي وجهة نظر لا تشاركها الدول المتأرجحة في الجنوب العالمي. لذا فإن سياسات دولتي البريكس الأكثر نشاطاً من الناحية الجيوسياسية تحتاج إلى شرح بمنطق مختلف عن ذلك الذي يقود الدول المتأرجحة.
لكن يبقى السؤال ما إذا كانت دول البريكس ستصبح مؤسسة رسمية أكثر تحت توجيهات الصين التي تدعي أنها تمثل الجنوب العالمي. هذا الاحتمال يمثل تحدياً واضحاً للغرب، لا سيما بالنظر إلى أن 19 دولة أخرى قد أعربت بالفعل عن اهتمامها بالانضمام إلى المجموعة. لكن من غير المرجح أن يتحقق ذلك قريباً، حيث إن الهند دولة ذات نفوذ في البريكس وستعارض بشدة الجهود الصينية لاستمالة الهيئة.
ولا تزال السعودية والبرازيل وتركيا (العضو في الناتو) والهند وحتى جنوب إفريقيا تتمتع بعلاقات مهمة مع الولايات المتحدة والدول الغربية الرئيسية الأخرى، سواء في مجال الأمن أو التجارة.
ربما تكون هذه الدول قد ابتعدت عن الولايات المتحدة لكن هذا يختلف عن الانضمام إلى هيئة توجهها الصين وتساعدها روسيا تعارض الولايات المتحدة بشكل كبير. واعتباراً من الآن، لم تُظهر مجموعة بريكس القدرة على تطوير وتنفيذ أجندة مشتركة، لذلك هناك القليل جداً من القوة المؤسسية للصين لاستيعابها. أخيراً، تعمل دول البريكس على أساس الإجماع؛ والإضافة المحتملة لأعضاء جدد قد تجعل التوصل إلى توافق شامل أكثر صعوبة.