دخل الصراع في السودان شهراً جديداً، ولا يبدو أي اختراق دبلوماسي في الأفق. والآن، يهدد الصراع على السلطة بين الجيش، وقوات الدعم السريع، بالتحول إلى حرب أهلية شاملة؛ إذ قُتِلَ حتى الآن قرابة ألف شخص، وفرَّ أكثر من 300 ألف شخص من البلاد، عَبَر 120 ألفاً منهم على الأقل الحدود إلى داخل مصر، حيث يقيم أكثر من 4 ملايين مواطن سوداني آخرين بالفعل.
ويمكن القول إنَّ مصر، باعتبارها جارة السودان، ستكون أكبر بلد أجنبي تأثُّراً بشكل مباشر بنتيجة الصراع المستمر، خصوصاً تلك التأثيرات التي تخلقها الأزمات الاقتصادية وأزمة اللاجئين الوشيكة.
ومع أنَّ مصر تجنَّبت حتى الآن دعم أيٍ من الطرفين ولم تشارك في مباحثات وقف إطلاق النار الدائرة، فإنَّها تجد نفسها الآن في مأزق، فهي لا تملك الموارد أو الرغبة لخوض حرب، لكن لا يسعها كذلك تجاهل الوضع لفترة أطول من ذلك، بحسب تقرير في مجلة Foreign Policy الأمريكية.
وباتت خيارات الرد الاستراتيجي لدى مصر محدودة للغاية. لكن من بين الخيارات الكثيرة غير المرغوبة، هنالك نتيجة يمكنها على الأقل أن تنهي الصراع وتُعيد الحكم المدني، في حين تمنح الطرفين شيئاً يريدانه، في حال كان القادة في القاهرة يملكون الشجاعة والحكمة للسعي وراءه.
فما هي خيارات مصر للتدخل في الأزمة السودانية؟
الخيار الأول: دعم الجيش السوداني عسكرياً
يُعَد موقف مصر تجاه الجيش السوداني معقداً، فهي قلقة من الميول الإسلامية لقيادة القوات المسلحة، لكن بالنظر إلى المشكلات الخاصة للجيش مع إثيوبيا، تنظر له مصر باعتباره حليفاً سياسياً بالغ الأهمية في نزاعها حول "سد النهضة الإثيوبي العظيم" المُقام على نهر النيل، والذي يهدد بالإخلال بمصالح مصر المائية الاستراتيجية وقطاعها الزراعي الهش. ومع أنَّ مصر تدعم الجيش سياسياً باعتباره الممثل المعترف به للدولة السودانية، فإنَّ دعمها العسكري الرسمي له كان حتى الآن مقتصراً على تدريب القوات.
مع ذلك، حتى لو أرادت مصر دعم الجيش بصورة كاملة، لا يمكنها واقعياً تحمُّل ذلك. علاوة على ذلك، يملك الجيش النظامي في مصر سجلاً ضعيفاً في مواجهة الميليشيات القبلية التي تقاتل على أرضه، وربما لن يكون أفضل حالاً في مواجهة ميليشيا قبلية جيدة التسليح والتمويل ومُدرَّبة على حرب العصابات والمدن مثل قوات الدعم السريع.
ويمكن أن يكشف التدخل العسكري المباشر الحالة القتالية الضعيفة للجيش المصري، ويصبح مستنقعاً مهيناً لقيادة الدولة والجيش، بحسب المجلة الأمريكية.
بالإضافة إلى ذلك، سيضع دعم الجيش عسكرياً مصر في صراع مباشر مع قوات الدعم السريع، وهي الميليشيا المفضلة للإمارات العربية المتحدة. وفي غياب وعود الاستثمارات السعودية والقطرية، تُعَد الإمارات هي آخر داعم مالي لمصر في الخليج. وتحتاج مصر إلى الدعم الإماراتي إذا ما كانت ترغب في النجاة مالياً، على الرغم من علاقاتهما المشحونة في مختلف المجالات الأخرى.
الخيار الثاني: دعم قوات الدعم السريع عسكرياً
من الناحية النظرية، من شأن قيام تحالف بين مصر وقوات الدعم السريع أن يكون كابوساً للجيش السوداني، الذي سيجد نفسه فجأة محاصراً بالهجمات العسكرية من الشمال والجنوب. لكن من الناحية العملية، لن يكون لمثل هذا التحالف سوى القليل من الإيجابيات لمصر، التي تعلَّمت في ليبيا أنَّها لا يمكنها منافسة الإمارات في النفوذ على ميليشيا تدعمانها معاً.
لكن الأمر بالغ الأهمية هو أنَّ نهاية الجيش السوداني وهزيمته سيشيران إلى الانهيار النهائي للدولة السودانية، ولن يكون هنالك أحد قادراً على إعادة بنائها في المدى القصير إلى المتوسط، وستقع هذه المهمة الصعبة على عاتق قوات الدعم السريع.
ومن شأن هذا الانهيار أن يعني انهياراً تاماً على كل مستوى من مستويات الأمن السوداني، بما في ذلك الانهيار المماثل والفوري لاقتصاد البلاد.
الخيار الثالث: (مواصلة) عمل اللاشيء
بالنظر إلى تعقيد الوضع وغموض خياراته، اختارت مصر حتى الآن استراتيجية "لننتظر ونرى". وفي حين أنَّه نهج يبدو حكيماً في الوقت الراهن، فإنَّ حكمته على المدى الطويل تعتمد بصورة كاملة على متغيرين مجهولين: مدة الصراع وهُوية المنتصر. ويُعَد انتصار الجيش السوداني خياراً أفضل لأهداف مصر، لكن هذا فقط في حال تمكَّنت من إنهاء الصراع بسرعة (ولم تبدأ صراعاً جديداً)، لأنَّ كل يوم إضافي من القتال يضيف ضغوطاً على مصر من حيث تدفق اللاجئين والاستقرار الاقتصادي.
ومن ناحية أخرى، يُعَد انتصار قوات الدعم السريع غير مقبول بالنسبة لمصر لأسباب عديدة. إذ ستجد مصر نفسها محاطة بالميليشيات الحليفة للإمارات على حدودها الشرقية والغربية والجنوبية. وإذا ما سيطرت قوات الدعم السريع المدعومة إماراتياً على السودان، ستقع مصالح أمن مياه النيل المصرية بصورة أكبر تحت نفوذ الإمارات، التي تملك بالفعل استثمارات زراعية في إثيوبيا ورفضت مراراً الوقوف إلى جانب مصر بسبب مخاوفها. علاوة على ذلك، إذا ما أدَّى القتال إلى حالة جمود واستمر الصراع، فإنَّه سيفاقم المشكلات الإنسانية والاقتصادية التي تعاني منها مصر بالفعل أكثر.
الخيار الرابع: دعم وقف إطلاق النار بين الطرفين (لا أحد يفوز)
في هذا السيناريو، ستنضم مصر إلى جوقة الأصوات التي تدفع ببساطة نحو إنهاء الصراع العسكري من خلال الدعوة إلى دعم مفاوضات السلام بين الجيش وقوات الدعم السريع، مثل مبادرة وقف إطلاق النار الأمريكية السعودية، بدلاً من استعادة الحكم المدني الديمقراطي. لكن بالنظر إلى انعدام الثقة بين طرفي هذا الصراع، سيكون التعايش وتقاسم السلطة في نفس الحكومة أمراً صعباً. ومن المحتمل أن يؤدي أي اتفاق لوقف إطلاق النار إلى سودان أكثر انقساماً واستبداداً، فتسيطر قوات الدعم السريع على الغرب الغني بالذهب وقواعد قوتها الأخرى، في حين يسيطر الجيش على الخرطوم والمناطق المتبقية.
وحتى لو أعطت مصر الأولوية لهذا النهج، فمن المستبعد أن تنجح حيث تفشل السعودية والولايات المتحدة. فلا يمكن لقوات الدعم السريع أن تثق بمصر لتكون وسيطاً نزيهاً بالنظر إلى الدعم السياسي لمنافسها، ولن يكون لدى الجيش السوداني –الذي يعلم أنَّ مصر تحتاجه- دوافع للاستجابة لأي ضغوط من الوسطاء المصريين. وحتى لو نجحت جهود الوساطة بطريقةٍ ما في إنهاء الصراع، فإنَّ مجرد وقف إطلاق النار لن يفعل شيئاً لمعالجة أزمة اللاجئين التي تلوح في الأفق.
الخيار الخامس: الانحياز إلى الأطراف المدنية
لا يترك هذا لمصر سوى خيار واحد آخر، إذ سيتعين عليها أن تصبح البطل غير المتوقع للأطراف الديمقراطية والمدنية السودانية، وتطالب بوجود تلك الأطراف في كل المفاوضات المستقبلية. زواج المصلحة السياسي هذا من شأنه أن يسمح لمصر بتجنُّب الانحياز بشكل صريح لأي الجانبين، في حين يخلق مجالاً أرحب للمناورة السياسية في كلٍ من المحادثات والسياق الجيوسياسي الأوسع نطاقاً.
وبالنسبة للأطراف الديمقراطية السودانية، فإنَّ التحالف مع مصر ليس مثالياً، لكنَّه التحالف الوحيد الذي من المرجح أن تعرضه عليهم أي قوة إقليمية يحتاجون إلى دعمها بشدة. ومصر بحد ذاتها تملك الحد الأدنى من النفوذ على الطرفين المتحاربين، لكنَّها يمكن أن تستخدم ثقلها الجيوسياسي ونفوذها الإعلامي الإقليمي القوي لتوليد ضغوط للشعب السوداني على الساحة الدولية.
وقضية الشمول المدني هنا ليست مجرد قضية أخلاقية، بل هي ضرورية لأي قدر يسير من الاستقرار لمستقبل السودان. إذ يضم السودان الكثير من القبائل والميليشيات المحلية التي ليست فقط مسلحة، لكنَّها أيضاً مُدرَّبة على القتال، بحسب المجلة الأمريكية.
ولن تقبل تلك القبائل بديكتاتورية عسكرية أخرى تحكمها من الخرطوم، سواء كان يشرف عليها الجيش السوداني أم قوات الدعم السريع، كما لن تقبل بأي اتفاق يُقسِّم بلادهم بين الجانبين. يحتاج السودان إلى حالة توافق عام كي يصمد أي اتفاق، وهو الأمر الذي لا يمكن لأيٍ من الجانبين الآن ضمانه في المستقبل دون إشراك المدنيين. ومع أنَّ الأمر قد يبدو مبتذلاً، فإنَّ السبيل الوحيد لمضي الشعب السوداني قدماً ليحظى بمستقبل هو أن يكون معاً، لكنَّ ذلك سيتطلَّب بعض التسويات الصعبة والمزعجة.
ما هي الحلول المقترحة؟
أحد الأمثلة على تلك التسويات قد يبدو على هذا النحو: اتفاق جديد يدفع بحكومة "وحدة وطنية" مدنية انتقالية لمدة 18 شهراً، تضم كلاً من الأطراف المُوقِّعة وغير المُوقِّعة على الاتفاق الإطاري المنتهي، وكذلك أعضاء الحزب الحاكم السابق، حزب المؤتمر الوطني الإسلامي. ولكي ينجح هذا، سيحتاج الجيش وقوات الدعم السريع إلى الحصول على حصانة من الملاحقة القضائية وحماية لمصالحهما الاقتصادية في مقابل مغادرة مواقعهما والحياة العامة لأجلٍ غير مسمى. وأن تتفق كلا القوتين العسكريتين على إلقاء سلاحهما والعودة إلى ثكناتهما.
وأن تُمنَح قوات الدعم السريع 10 سنوات للاندماج في الجيش، مثلما أرادت في الأصل، لكن سيتعين عليها التعهُّد بتقديم جزء كبير من عائداتها السنوية من الذهب –وليكن 25%- لمدة 12 سنة إلى صندوق تستخدمه الحكومة المدنية لإعادة إعمار البنية التحتية المدمَّرة وتقديم التعويضات للأسر التي تضررت من الصراع.
وأن يوافق الجيش، من جانبه، على الإشراف المدني على الميزانية الرسمية للجيش من جانب الحكومة المنتخبة التالية. وسيتعين عليه أيضاً دعم إصلاح وإعادة بناء الشرطة والقضاء من جانب الدولة المدنية، التي ستكون لها السيطرة النهائية على كلا مؤسستي الدولة.
ومن أجل منع نشوب صراع مستقبلي، يمكن أن يقدم الاتحاد الإفريقي قوات حفظ سلام خلال المفاوضات إلى حين إجراء الانتخابات وحتى تصبح قوات الشرطة السودانية قادرة على تولي مهمة الأمن الداخلي.
وإطار كهذا لن يكون مثالياً. وسيكون جدلياً للغاية بالنسبة للأطراف الديمقراطية المدنية، ليس فقط لأنَّه يسمح للجنرالات المجرمين ومرتكبي الإبادة بالإفلات بالحصانة والحفاظ على معظم مكاسبهم غير المشروعة، لكن أيضاً لأنَّه يشمل حزب المؤتمر الوطني المخلوع. مع ذلك، إذا ظل المؤتمر الوطني مُبعَداً، فإنَّه سيستفيد من عدم استقرار المرحلة الانتقالية لمصلحته السياسية، ويمكنه واقعياً استعادة السيطرة على الحكومة في الانتخابات المقبلة. فإبقاء المؤتمر الوطني جزءاً من الحوار الوطني هو أفضل السبل لاحتوائه.
وبالنسبة لمصر، من شأن هذه النتيجة أن تعني عدم سيطرة قوات الدعم السريع على حدودها، وبقاء مؤسسات الدولة السودانية، وأن تتجنَّب مصر استعداء الإمارات أكثر من الناحية السياسية أو الالتزام بمشاركة أي قوات في القتال. وحقيقة أنَّ هذا الخيار يتوافق مع ما يمكن القول إنَّه في صالح الشعب السوداني، في هذه اللحظة وفي المستقبل، ليست إلا عناية إلهية سياسية.