يعد الملف الاقتصادي واحداً من أكثر الملفات إشكالية التي تواجه الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في ولايته الجديدة، ولفهم آفاق تعامل أردوغان معه، يجب قراءة سياسة أردوغان الاقتصادية، وهل بالفعل كان أداء الاقتصاد التركي جيداً خلال عهد حزب العدالة والتنمية الأول، بينما تراجع في السنوات الماضية، أم أن الأمر مرتبط بعوامل اقتصادية وسياسية خارجة عن إرادة الحزب، أم أن الواقع الاقتصاد التركي لديه جوانب إيجابية يتم تجاهلها من قبل نقاده.
منذ تولى حزب العدالة والتنمية الذي يتزعمه أردوغان الحكم في عام 2002، حقق اقتصاد تركيا قفزة نوعية، إذ استطاع الحزب إنقاذ البلاد من واحدة من أكبر الأزمات الاقتصادية التي وقعت في نهاية التسعينيات، وذلك بعد انهيار الليرة التركية، وارتفاع التضخم إلى مستويات قياسية، وأفلست على إثر هذه الأزمة نصف البنوك التركية، ووصلت معدلات البطالة مستويات خرافية، فيما بلغ سعر العملة التركية في ذلك الوقت نحو 1.5 مليون ليرة لكل دولار، ووصل سعر الفائدة إلى 1000% ثم 3000%.
نفّذ حزب العدالة والتنمية إصلاحات اقتصادية أشيد بها عالمياً، وأصبحت مثالاً يُحتذى، أدت لاستقرار العملة التركية، عند سعر مليون و350 ألف ليرة لأول مرة منذ سنوات، ما مكنه من إصدار عملة جديدة جرى حذف ستة أصفار منها، وأصبح الدولار يساوي 1.35 ليرة عام 2005 بعد أن كان الأتراك تعودوا على شراء حاجاتهم اليومية بملايين الليرات، لدرجة أن بعض كبار السن مازالوا يقولون مليون ليرة بدلاً من ليرة.
ولكن خلال السنوات الماضية، عانت الليرة من عدة أزمات أدت لتراجعها مراراً، ويلمح منتقدون إلى أن سبب الأزمات هو تراجع أردوغان عن النهج الاقتصادي السابق، ويلمحون إلى أن خروج بعض من أعضاء فريقه السابق من الحزب له دور في هذا الوضع، مثل عبد الله غول وعلي باباجان، وأحمد داود أوغلو، وكانت تولية المعارضة للملف الاقتصادي لوزير الاقتصاد التركي الأسبق ونائب رئيس الوزراء الأسبق رئيس حزب الديمقراطية والتقدم علي باباجان، بمثابة إشارة واعتراف من حزب الشعب الجمهوري بنجاح تجربة حزب العدالة والتنمية الأولى.
ولكن يبقى السؤال الحقيقي: هل غيّر أردوغان سياسة بلاده الاقتصادية في السنوات الماضية، وهل أصلاً يمكن وصف الاقتصاد التركي أنه تراجع في السنوات الأخيرة.
فالحقيقة أن الاقتصاد التركي باستثناء تراجع الليرة وارتفاع التضخم حقق نمواً مرتفعاً خلال السنوات الماضية، وكان من أفضل الاقتصادات في مجموعة العشرين في النمو خلال فترة جائحة كورونا (في عام 2020 كان الاقتصاد الثاني في النمو بالمجموعة بعد الصين، وهي فترة صعبة على تركيا بالتحديد لأنها دولة تعتمد على السياحة بشكل كبير).
ولكن القراءة المتأنية في مسيرة الاقتصادي التركي، تكشف أن أردوغان لم يغير كثيراً من السياسات الاقتصادية، وأن كثيراً من المشكلات الاقتصادية ارتبطت بأزمات خارجية وداخلية وعيوب هيكلية في الاقتصاد التركي والاقتصادات المشابهة (دول جنوب أوروبا)، وأن التركيز الإعلامي على إبراز المشكلات المتعلقة بالليرة والتضخم أخفى الجانب الناجح من قصة الاقتصاد التركي وهي النمو المرتفع وزيادة الصادرات وتوطين التكنولوجيا، وتعميق الإنتاج المحلي، وتحول الشركات التركية لعمالقة صناعيين، ورفع الأجور بشكل لافت لتلاحق التضخم.
وأنه خلف ستار صخب التضخم، حافظ معدل الاستهلاك الداخلي على وتيرة عالية تؤشر لعدم تراجع متوسط دخل الفرد الحقيقي، بل ونموه، إضافة لإثبات قدرة الاقتصاد التركي على الصمود أمام الأزمات السياسية والاقتصادية.
وحسب تقرير للبنك الدولي، تمتعت تركيا بمعدلات نمو عالية بين عامي 2006 و2017 دفعت بالبلاد إلى أعلى مستويات الدخل المتوسط الأعلى وخفضت الفقر. حيث انخفضت نسبة الأشخاص الذين تقل دخولهم عن 6.85 دولار أمريكي يومياً (خط الفقر) إلى النصف تقريباً، لتصل إلى 9.8% بين عامي 2006 و2020.
هل تغيرت سياسة أردوغان الاقتصادية أم أن الظروف هي التي تغيرت؟
عندما جاء حزب العدالة والتنمية قام بسلسلة من السياسات الاقتصادية والسياسية الناجحة داخلياً وخارجياً، أكسبته سمعة كحزب ليبرالي ذي جذور محافظة، من هذه السياسات إصلاحات أدت لمحاربة الفساد وترسيخ العدالة الاجتماعية وإنهاء التمييز ضد المحافظين، لاسيما النساء المحجبات، وفي المجال الاقتصادي قلل التضخم والعجز في الميزانية، وشجّع الاستثمارات الأجنبية.
ولكن السياسات الإصلاحية لاسيما السياسية كانت لها حدود، فلقد تعرضت البلاد لمحاولة انقلاب عام 2016 كادت تودي بديمقراطية البلاد، واستلزم استئصال القوى الانقلابية من جذورها إجراءات استثنائية (تم فرض حالة الطوارئ لمدة عام واحد فقط)، وهو أمر طبيعي، وتم عبر البرلمان المنتخب، رغم أنه قوبل بنقد غربي يبدو غير مفهوم.
كما أن سياسة تصفير المشكلات الخارجية وصلت لحدودها أو اصطدمت بالواقع، فمحاولة أنقرة حل المشكلات مع اليونان وقبرص ودعم حزب العدالة للمقترح الأممي لحل القضية القبرصية عام 2004، عبر إعادة توحيدها من خلال نظام يمنح القبارصة الأتراك ضمانات ونصيباً في السلطة، رفضه القبارصة اليونانيون بينما أيده القبارصة الأتراك في استفتاء متزامن، وبدلاً من أن يعاقب الاتحاد الأوروبي قبرص الرومية واصل عزل قبرص التركية.
كما واصل الاتحاد الأوروبي مماطلته لتركيا في مسألة انضمامها للاتحاد الأوروبي رغم اعترافه بأنها لبّت معظم طلباته باعترافه، بل بدأ يستغل حالة تركيا كبلد مرشح للعضوية لفرض وصاية عليها.
وفي الشرق الأوسط، اصطدمت سياسة تصفير المشاكل بالربيع العربي، ففي سوريا على سبيل المثال، أقامت حكومة حزب العدالة علاقة وثيقة غير مسبوقة مع نظام الأسد، وصلت لرفع تأشيرات الدخول بين البلدين، وعندما اندلعت الثورة ضده حاولت التوسط بين الثوار وبين دمشق، وتوجه أردوغان إلى سوريا للتوصل الى تسوية مع النظام السوري.
ولكن مقدار القمع والوحشية الذي نفذه النظام، لم يمكن أن تتحمله حكومة حزب العدالة التي تقوم على أيديولوجية إسلامية ديمقراطية، فيما كانت الثورة السورية في بدايتها بنفس مشابه.
وتدهورت العلاقات مع واشنطن بسبب سلسلة خلافات بدأت برفض أردوغان تولي رئيس وزراء الدانمارك السابق، أنديرز راسموسن، كأمين عام للحلف عام 2009، لأن حكومته رفضت طلب تركيا بفرض رقابة على نشر رسوم مسيئة للنبي محمد عام 2005 في الصحف المحلية"، حسب قول الرئيس الأمريكي الأسبق باراك أوباما، ثم حدث الخلاف حول الموقف من أكراد سوريا، وأخيراً سحب أمريكا لصواريخ باتريوت بالتزامن مع إرسال روسيا قواتها لسوريا، وما أعقبه من اختراق طائرة روسية للأجواء التركية وإسقاطها من قبل أنقرة عام 2015، ما أدى لتصاعد التوتر الروسي التركي، وأعقبها مصالحة انتهت بصفقة شراء أنقرة لصواريخ إس 400 (بعد مماطلة واشنطن في منح أنقرة صواريخ باتريوت التي أضافت مزيداً من التوتر على العلاقات الأمريكية التركية، وإخراجها من مشروع الإف 35).
وفي هذا الصدد كان إعلان الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب في أغسطس/آب 2018، عن مضاعفة الرسوم على الواردات الأمريكية من الحديد والألومنيوم من تركيا بسبب استمرار أنقرة في سجن القس الأمريكي أندرو برونسون (أطلق سراحه لاحقاً)، وعدد من مزدوجي الجنسية وموظفي القنصليات الأمريكية في تركيا، سبباً لواحدة من أخطر أزمات الليرة.
كما توترت العلاقة بين تركيا وإيران بسبب سوريا، وبين تركيا ودول الخليج، باستثناء قطر، بسبب الخلاف حول الوضع في مصر.
تزامن كل ذلك مع التوتر على الحدود السورية والعمليات الإرهابية التي نفذتها داعش وحزب العمال الكردستاني، بعضها في قلب إسطنبول، ثم محاولة الانقلاب الفاشلة.
كل هذا التوتر السياسي الخارجي الذي لم يكن أردوغان سبباً فيه، وإن كان استجاب له بقدر من التحدي ضاغطاً على عملة بلد يعاني تاريخياً من عجز في الميزان التجاري، ويعتمد في سده على الاقتراض والاستثمارات الخارجية والسياحة والتصدير.
ولكن فعلياً، على مستوى السياسة الاقتصادية لم يحدث تحول كبير في السياسات التركية، حتى حديث بعض الدوائر المالية الغربية أن أردوغان تحول من سياسة جذب الاستثمار الخارجي والتصنيع لسياسة التوسع في مشروعات البنية الأساسية يبدو غير منطقي، بالنظر إلى أن إصرار أردوغان على تخفيض الفائدة على الليرة أكثر من استفاد منه هو المصنعون والمصدّرون الأتراك.
كما أن تراجع الاستثمارات الخارجية كان نتيجة البيئة السياسية الخارجية والداخلية المتوترة أكثر من نتيجة سياسات الحكومة، في المقابل عوضت تركيا ذلك عبر نمو الاستثمارات الغربية القائمة، والأهم الشركات المحلية التي تحول كثير منها لمؤسسات اقتصادية عالمية تنافس على المستوى الأوروبي (شركة بيكو التركية من أكبر منتجي الأجهزة الكهربائية في أوروبا)، وتركيا هي أكبر مصدِّر للسيارات لأوروبا.
والحقيقة أن نقطة قوة الاقتصاد التركي منذ تولي حزب العدالة الحكم ليست في السياسات المالية والنقدية الإصلاحية فقط، ولكن في الإدارة المرنة والقوية للبلاد، التي وفرت حوكمة جيدة، وتقارن بالمستويات العالمية، وفي مجال الاستثمار، كان ذلك بالأساس، عبر توفير الأراضي والدعم للمستثمرين والتدريب للعمالة والقوانين المرنة والقوية في مجال الأعمال والعمل، التي جعلت تركيا بلداً جاذباً بشدة للاستثمارات، وأشيد به من قبل الشركات العالمية مثل شركة فولكس فاغن عندما كانت تنوي إقامة مصنع جديد في تركيا.
هذه الممارسات الصديقة للاستثمار، لاسيما الإنتاجي، لم تتغير منذ عهد حكومة حزب العدالة الأولى والثانية، بل تعززت، وفي هذا الشأن قد تتفوق تركيا على الصين نفسها كبلد داعم للاستثمار، خاصة أنها تتفوق عليها بعمالة أكثر كفاءة وأقل أجوراً (قبل الرفع الأخير للأجور)، وأقرب لأوروبا وأكثر انفتاحاً عليها، يقول الأتراك دوماً عن منتجاتهم إنها بجودة أوروبية وأسعار صينية.
تركيا عانت من أزمات سياسية متوالية خلال العقد الماضي
ولكن العامل السلبي، كان عدم استقرار سعر العملة التركية، والذي بدوره يعود لأسباب كامنة في الاقتصاد التركي والاقتصادات المشابهة، والأهم بسبب الأزمات السياسية المتوالية، التي عبرت منها تركيا ظافرة ولكن بثمن دفعته الليرة بالأساس.
فرغم أن المشكلات السياسية مع الغرب تحديداً، لم تؤثر على التجارة مع تركيا، ولا الاستثمارات القائمة، ولكن أثرت بشكل كبير على تدفق الاستثمارات الجديدة (الأمر الذي ضغط على الليرة)، كما ظهر في قرار شركة فولكس فاغن العملاقة إلغاء خططها لنقل مصنع سيارتها باسات الشهيرة من ألمانيا لتركيا بسبب جائحة كورونا، والانتقادات الغربية للعملية العسكرية التركية في شمال سوريا ضد الإدارة الذاتية الكردية.
ويجب ملاحظة أن المشكلات السياسية المشار إليها، والتي لم تبدأها تركيا، ولكن أردوغان رد فيها على غرمائه بتحدٍّ، محاولاً تحقيق مكاسب لبلاده خلقت في فترة من الفترات جفوة مع الكتل المالية النقدية الرئيسية في العالم، وهي الكتلة الغربية (الأمريكية الأوروبية)، والروسية والخليجية (باستثناء قطر)، وحتى الكتلة الصينية، فلقد غضبت بكين لفترة من الانتقادات التركية لاضطهادها للإيغور.
كما أوقفت روسيا مراراً تدفق سياحها لتركيا بدعاوى مختلفة، كانت في الحقيقة ضغوطاً من موسكو على أنقرة في الملفات الخلافية بين البلدين، وفي بعض الأوقات فرضت دول خليجية عراقيل غير معلنة على الواردات من تركيا لأسباب سياسية.
خلقت هذه الأجواء السياسية المتوترة مع الغرب، والتي عادة ما بالغ الإعلام في حقيقتها وتراجعات الليرة المتكررة، والانتقادات لإصرار أردوغان على تخفيض الفائدة، نظرة سلبية لليرة التركية والاقتصاد التركي، خاصة في أوساط المضاربين الدوليين الذين يفضلون دوماً رفع الفائدة ليحققوا الأرباح، وبعد أن يؤدي رفع الفائدة لتراكم الديون على الأسواق الناشئة، وتصل لمرحلة لا يمكن أن تقترض من جديد، يهرب هؤلاء المضاربون بأموالهم كما حدث مع مصر التي كانت محط إشادة من المؤسسات المالية الغربية التي طالما انتقدت أردوغان، ثم سحبت هذه المؤسسات أموالها من مصر فور وقوع الأزمة الأوكرانية، تاركين البلاد في واحدة من أسوأ أزماتها الاقتصادية.
ويعتقد أن هذه المؤسسات وهؤلاء المضاربين قد تخلصوا من قدر كبير من العملة التركية خلال السنوات الماضية، مع إصرار أردوغان على خفض سعر الفائدة، وهو أمر يبدو أردوغان من خطابه أنه مرتاح له، وأنه يراهن على المستثمرين الحقيقيين الذين يأتون بأموالهم ليؤسسوا مصانع ويبقوا أموالهم بالبلاد.
كما يبدو أنه يراهن على أنه مع العودة لسياسة تصفير المشاكل والحصار الغربي على روسيا والتوتر مع الصين، فإن تركيا سوف تصبح بفضل ميزاتها المعترف بها سوقاً بديلة للاستثمار.
تخطى الاقتصاد التركي كل هذه الأزمات وحقق معدلات نمو جيدة في السنوات الماضية، محفزاً بكفاءة الإدارة الاقتصادية وتراجع الليرة التي أعطت دفعة كبيرة للصادرات.
فرغم تراجع الليرة خلال السنوات الماضية وصعود التضخم، تقدم الاقتصاد التركي إلى الأمام بمعدل أسرع من المتوقع، بحسب ما قالت وكالة Bloomberg الأمريكية، حيث ارتفع الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 7.6% سنوياً في الربع الثاني من عام 2022، بزيادة بنسبة 7.5% عن الأشهر الثلاثة السابقة، وأعلى قليلاً من متوسط التقديرات، في استطلاع أجرته شبكة Bloomberg الأمريكية.
وتخطى الاقتصاد التركي مشكلات الليرة اعتماداً على مرونة العائلات والقدرات التنافسية العالية للشركات التركية التي تضاهي بعض المستويات الألمانية.
كان ازدهار الطلب المحلي، إلى جانب الصادرات، المحرك الرئيسي للاقتصاد، ما ساعد على تعويض ركود النمو في الاستثمار، حيث توسع الاستهلاك المحلي بنسبة 22.5% عن العام السابق، وفقاً لبيانات نُشِرَت الأربعاء 31 أغسطس/آب.
جعل هذا اقتصاد تركيا، الذي يبلغ 800 مليار دولار، من بين الأسرع نمواً في مجموعة العشرين.
ففي مواجهة مقايضة بين النمو والتضخم قبل الانتخابات، العام المقبل، دافع الرئيس رجب طيب أردوغان عن نموذج اقتصادي يعطي الأولوية للصادرات والإنتاج والتوظيف على حساب استقرار الأسعار والعملة.
وسبق أن قال وزير الخزانة والمالية نور الدين النبطي هذا الشهر: "إننا لا نتنازل عن النمو". وأضاف متحدثاً في مقابلة تلفزيونية: "عندما لا نتنازل عن النمو فإن مكافحة التضخم تستغرق وقتاً".
اقتصادات جنوب أوروبا ومنها تركيا تعاني من مشكلات هيكلية تضغط على عملاتها
ولكن لكون الليرة دوماً هي الضحية، ليس فقط بسبب تأثير الأزمات السياسية على تركيا، بل بسبب عيوب هيكلية في الاقتصاد التركي والاقتصادات المشابهة.
كانت أزمات الليرة مشكلة متكررة في تاريخ تركيا الحديث، والتي وصلت ذروتها كما سبقت الإشارة في نهاية القرن العشرين، ولكن ليست تركيا وحدها التي تعاني من أزمات العملة المتكررة.
فأزمات العملة ظاهرة عالمية، ولكنها أكثر انتشاراً في الدول المتوسطة أو شبه المتقدمة مثل تركيا، وخاصةً دول أمريكا اللاتينية وجنوب أوروبا: إيطاليا واليونان وإسبانيا والبرتغال.
تعاني مثل هذه الدول عادة من أن لديها اقتصاداً متقدماً بشكل كاف لجعله استهلاكياً، ومفتوحاً للمضاربات على العملة والتحول لحيازة العملات الأجنبية (لأنه ليس منغلقاً مثل الدول الاشتراكية، أو معزولاً وفقيراً مثل الدول النامية).
كما أن أغلب هذه الدول لديها نظم ديمقراطية ولكن غير عريقة وتسيطر عليها أحزاب ضعيفة تشكل حكومات ائتلافية، وبها معدل فساد عالٍ مقارنة بدول شمال أوروبا (مثل تركيا قبل حكومة حزب العدالة)، وهذه الأنظمة أحياناً تكون أسوأ من المستبدة في الأداء كما قالت رئيسة وزراء تركيا السابقة تنسون تشيلر إن معدل نمو الاقتصاد التركي في عهد الحكومات الائتلافية أقل من المعدل خلال حكم الأنظمة العسكرية.
كما أن أغلب هذه الدول تعاني من معدل ادخار منخفض، بسبب ضعف التقاليد والمؤسسات المالية، وضعف الموارد والميول الاستهلاكية للطبقات العليا.
وفي حالة دول جنوب أوروبا (يمكن اعتبار تركيا جزءاً من نمطها الاقتصادي)، فإن هذه الدول، وكذلك تركيا، تعاني أغلبها إضافة للعوامل السابقة من أنها تستورد المواد الخام بنسبة كبيرة (باستثناء إسبانيا نسبياً) وكذلك الطاقة، كما أنها رغم أنها دول مصنعة، ولكن ليست متقدمة كدول شمال أوروبا، وبالتالي معظم صناعاتها ليست ذات قيمة مضافة عالية (باستثناء إيطاليا جزئياً).
وهي تعتمد على السياحة المتقلبة، وتتأثر بشدة من ارتفاع أسعار النفط.
خلق هذا الوضع أزمات للعملات متكررة في هذه الدول، مثل أزمة الليرة الإيطالية في عام 1992.
ولقد اختفت مشكلة العملة في اليونان وإسبانيا والبرتغال وإيطاليا، بسبب انضمامها لليورو، ولكن مظاهر الخلل السابقة في هذه الدول تظهر آثارها في كل فترة، مثلما بدا في أزمة الديون اليونانية التي وقعت عام 2008، وكادت تؤدي لكارثة اقتصادية للاتحاد الأوروبي، وشبح أزمة الديون الذي مازال يطارد إيطاليا.
فمشكلات الليرة التركية هي جزء من مشكلة أكبر لعملات دول جنوب أوروبا، وقد تكون مشكلة العملات في هذه الدول قد اختفت بفضل انضمامها لليورو، ولكن دفعت ثمناً باهظاً، هو أن اليورو رفع أسعار منتجاتها التي هي أقل جودة من منتجات دول شمال أوروبا مثل ألمانيا، وبالتالي تتراجع تنافسيتها نتيجة ارتفاع أسعارها أمام المنافسة التركية والآسيوية، وأدى ذلك لتراجع لافت للنمو في دول جنوب أوروبا.
فعلى سبيل المثال، كثير من الشركات الإيطالية تفضل نقل صناعتها لتركيا مثل شركة فيات الإيطالية، كما أن تركيا تحل تدريجياً محل إيطاليا في صناعات مثل الأثاث والملابس، بفضل تنافسية الأجور لديها.
وتجدر الملاحظة أن معدل نمو الاقتصاد التركي في الأغلب كان أفضل من دول جنوب أوروبا، رغم الدعم الكبير الذي تلقّته هذه الدول من الاتحاد الأوروبي ودوله الغنية الشمالية، إضافة إلى أن وضع الديون التركية جيد، مقارنةً بدولة أوروبية كبرى مثل إيطاليا.
بل يجب ملاحظة أن اليورو القوي مع أسعار الفائدة المرتفعة في دول جنوب أوروبا مقارنةً بالشمال، شجّع دول الجنوب الأفقر والأشبه بالاقتصاد التركي على التوسع في الاستدانة بدلاً من تخفيض العملة، لتعزيز تنافسية الصادرات، كما حدث في تركيا قبل حزب العدالة، وكما حدث لهذه الدول ذاتها قبل انضمامها لليورو.
وبالتالي فإن مشكلات الليرة هي جزء من تاريخ تركيا ومنطقة جنوب المتوسط، وافتراض أن سياسات أردوغان الاقتصادية هي سبب مشكلات الليرة، يتجاهل هذا التاريخ وكذلك يتجاهل تداعيات الأزمات السياسية التي أحاطت بتركيا خلال السنوات الماضية، إضافة إلى أنه لا يضع في الاعتبار بعض الميزات التي حققتها الليرة الضعيفة للاقتصاد التركي مقابل مشكلات اليورو القوي لجنوب أوروبا.
ما البديل لسياسة تخفيض الفائدة التي أصرّ عليها أردوغان؟ نموذج الأرجنتين
والأهم أنه يجب ملاحظة أن البديل الذي طرحه منتقدو أردوغان، وهو رفع أسعار الفائدة، حل مؤقت سيُفضي غالباً لكارثة لاحقة.
فقبل أن يبدأ أردوغان دورة التخفيض التي انتُقد بسببها كان سعر الفائدة على الليرة يدور حول 24%، وهو سعر مرتفع للغاية ومعاد للاستثمار.
وفي ظل أزمات الليرة لو كان أردوغان قد استجاب للطرح الداعي لرفع الفائدة مع استمرار العيوب الهيكلية والمشكلات السياسية الخارجية، فإن هذا معناه دورات متلاحقة من رفع في سعر الفائدة على الليرة، قد تصل بها لمستويات مقاربة لمستويات الفائدة القياسية للأرجنتين، التي وصلت إلى 78%، ورغم ذلك تتواصل أزمات الأرجنتين التي أصبحت أكبر مدين لصندوق النقد الدولي، رغم استجابتها لشروطه ونصائح المؤسسات الدولية المنتقدة لأردوغان.
والأخطر أن مثل هذا الرفع من شأنه رفع أعباء الديون بشكل خطير مثل حالتي الأرجنتين ومصر، علماً أن أحد الجوانب شديدة الإيجابية في الاقتصاد التركي، باعتراف نقاده، أن الدين في مستوى آمن.
في المقابل، قدّم أردوغان حلاً مرناً ومبتكراً، هو خفض سعر الفائدة الأساسي، مع تعويض المدّخرين بالليرة عن تراجع قيمة أموالهم إذا انخفضت الليرة أمام الدولار، وفي الوقت ذاته فرض قيوداً على الإقراض الاستهلاكي بالفائدة المنخفضة، لكبح التضخم، وهو حل يخالف النهج الليبرالي المالي بعدم التمييز بين القطاعات الاقتصادية في الإقراض، وخاصةً أن مثل هذا التمييز يمكن أن يخلق ممارسات فساد.
ولكن في ضوء قوة ومرونة نظام الحكم في تركيا يمكن تجنُّب ممارسات الفساد لحد كبير، وفي الوقت ذاته يجب ملاحظة أن معظم المعجزات الاقتصادية الرأسمالية الحديثة مثل اليابان والصين وكوريا وماليزيا، تجنبت لفترة أهم قواعد الرأسمالية، عبر دعمها للصناعة والقطاعات الإنتاجية، ولكن بشكل مرن.
هل تؤدي مصالحات تركيا الخارجية لتقوية الليرة وتحويل البلاد إلى مركز مالي عالمي؟
على جانب آخر، فإن أردوغان يعلم أن إحدى مشكلات الليرة كانت التوتر مع الكتل المالية النقدية الدولية الكبرى، المشار إليها، والآن دَخَل في مصالحة واسعة مع هذه الكتلة.
وهناك مؤشرات قوية على أن استقرار الليرة الأخير نابع من إيداع أرصدة وعمليات تبادل للعملة، نفذتها قطر والسعودية والإمارات وروسيا، وحتى الصين مع تركيا.
وفي ظل الحصار الغربي على روسيا، فإن هناك مؤشرات على أن الأموال الروسية الخاصة والعامة تتوجه لتركيا، كما أن هناك مؤشرات قوية على أن السعودية لديها رغبة في توسيع استثماراتها في محيطها، ومع تحسن علاقتها مع تركيا والمميزات التي توفرها الأخيرة، فإن أنقرة سوف تنال نصيبها من هذه الاستثمارات، خاصةً في ظل الغضب السعودي من الأداء الاقتصادي لحليفتيها الكبيرتين مصر وباكستان.
كما أن الغرب أصبح مشغولاً بنزاعَيه مع الصين وروسيا، عن مشاغباته غير المنطقية مع تركيا، ويبدو أن الزعماء الغربيين قد يئسوا من فكرة إسقاط أردوغان، بل يقرون ضمناً بأنه لا يمكن الاستغناء عنه في أزمة مثل أوكرانيا، والوساطة مع روسيا والتصدي لنفوذ إيران، وفي الوقت ذاته تحتاج أوروبا لنقل جزء من سلاسل التوريد من الصين، لمناطق أقرب، وتركيا بفضل ميزات الاستثمار ورخص التكاليف مرشح مثالي تلذلك.
قد تؤدي العودة لسياسة تصفير المشكلات، وتحسن العلاقات التركية مع روسيا والخليج وأوروبا والصين، وسط توترات بين معظم هذه الكتل، والتزام تركيا الصارم الذي أبدته في ذروة خلافاتها السياسية الفائتة بتحييد الاقتصاد عن السياسة، عكس الغرب الذي يستخدم الدولار كسلاح، قد يؤدي كل ذلك إلى توفير فرص لأنقرة لأن تصبح مركزاً مالياً عالمياً، في عالم جديد يسوده الاستقطاب.
التكنولوجيا قد تأتي بحل نهائي لمشكلات الليرة
ولكن حل مشكلة الليرة التركية، إضافة لحاجته إلى تبريد توترات تركيا الخارجية والإجراءات التي اتخذها أردوغان، فإنه يتطلب أيضاً معالجة العيوب الهيكلية في الاقتصاد التركي، والتي أغلبها سمة أساسية لاقتصادات جنوب أوروبا، كما سبقت الإشارة.
تحتاج تركيا للتحول لصناعات التكنولوجيا ذات القيمة المضافة العالية، وهي الصناعات التي تتركز في آسيا، وبعضها قطاعاتها موجودة في شمال أوروبا وأمريكا الشمالية.
فرغم ضخامة صادرات تركيا فإن قطاعاً كبيراً من صناعتها إما تجميع مثل صناعة السيارات، أو صناعات تعتمد على الأجور الرخيصة وذات قيمة مضافة محدودة، مثل صناعة الملابس، والأخيرة قد تفقد تنافسيتها مع رفع الأجور الكبير الأخير خلال العامين الأخيرين، الذي وصل ذروته قبل الانتخابات.
ليس من السهل منافسة صناعة التكنولوجيا المربحة المتوطنة في آسيا، وهي مسألة ثقافية واجتماعية، خاصةً أن جوار أنقرة الأوروبي الذي تعتمد عليه في الحصول على التكنولوجيا فشل حتى الآن في تحقيق ذلك.
ولكن بدأت أنقرة خطوات لتحقيق هذا الهدف، بدءاً من محاولة جذب المواهب من الخارج، التركية وغير التركية، وتوفير الحوافز لها، وإنشاء واد للتكنولوجيا.
ويعد مشروع السيارة توغ الكهربائية التركية نموذجاً للتحول في اتجاهين، التحول من تجميع السيارات لصالح شركات أجنبية تحصل على معظم الأرباح إلى صناعة وطنية بالكامل، وتوطين التكنولوجيا ذات القيمة المضافة العالية، ممثلةً في الصناعات المغذية للسيارات الكهربائية مثل البطاريات.
كما تفيد تقارير بسعي أنقرة لتطوير وتوطين صناعة أشباه الموصلات.
إضافة لذلك تسعى أنقرة لزيادة الاعتماد على موارد الطاقة الجديدة المحلية، إضافة لمحاولة التوسع في استكشاف الغاز والنفط لتقليل فاتورة استيرادهما الباهظة.
كما أن الصناعات العسكرية التركية النامية تعد قاطرة مهمة للصناعات التكنولوجية ذات القيمة المضافة العالية، وكما حدث في الولايات المتحدة وكوريا وأوروبا، فإن الصناعة العسكرية لا تدخر دولارات استيراد الأسلحة فقط، ولا توفر فرصاً كبيرة للأيدي العاملة فحسب، بل إنها تمثل قاطرةً للتطور التكنولوجي، مفيدة للقطاع المدني بشكل كبير.
وبالطبع أدى الرفع الكبير للأجور ثلاث مرات خلال العامين، الذي أوصل الحد الأدنى للأجور إلى نحو 455 دولاراً عشية الانتخابات، لإضعاف تنافسية الصادرات التركية، حيث أعلن البنك المركزي التركي في الأسبوع الماضي عن تسجيلِ صافٍ سلبي لاحتياطيات النقد الأجنبي للمرة الأولى منذ عام 2002، مع رصيد سالب بقيمة 151.3 مليون دولار حتى الـ19 من مايو/أيار.
فقد تراجعت الصادرات التركية بنسبة 17% لتبلغ 19.3 مليار دولار في أبريل/نيسان.
ودعا بعض المصدرين إلى خفض قيمة الليرة مقابل الدولار بنسبة 25% من أجل تعزيز تنافسيتهم، لأن المنتجات التركية صارت مقوّمةً بأعلى من قيمتها، وأغلى من منتجات الدول الأخرى نسبياً اليوم.
وذكرت صحيفة Sabah التركية أن أردوغان يخطط لإعادة الحرس القديم من أجل إدارة الاقتصاد التركي؛ إذ قال أحد أكبر المعلقين السياسيين في الصحيفة إن الوزيرين السابقين جودت يلماز ولطفي إيلفان سيشاركان في الإدارة المالية الجديدة، تحت قيادة وزير المالية السابق محمد شيمشك (56 عاماً)، الذي يقال إن أردوغان يسعى لتكليفه بالإشراف على السياسة الاقتصادية.
وفي الأغلب، فإن على هذا الفريق المحتمل إدارة مسألة الليرة بدقة، فالمصدرون الأتراك بحاجة لبعض التراجع في سعرها، لاستعادة تنافسية الصادرات التركية، وفي الوقت ذاته دون إشعال موجة خوف من تدهور العملة بطريقة تُفضي لأزمة جديدة، رغم أن سياسة ضمان قيمة الودائع مفيدة في تقليل هذه المخاوف.
كما تحتاج أنقرة لتعزيز جذب الأموال الخليجية والروسية، مع العودة لجذب استثمارات الشركات الغربية، وعلى المدى البعيد تحتاج إلى تعزيز الصناعات عالية القيمة المضافة، عبر توفير الحوافر الحكومية، وتعزيز الاستثمار في البحث العلمي والتعليم، واستقطاب الكفاءات.