بريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة وروسيا هي دول كبرى تمددت في أوج عنفوانها على حساب العالمين العربي والإسلامي خلال القرون الأربعة الماضية، لكن ما ميز بريطانيا عن الآخرين أنها كانت الأكثر حنكة والأقل دموية، ولذا نجحت في بناء إمبراطورية ضخمة شملت تسعة أضعاف عدد سكان بريطانيا ذاتها، ووُصفت بأنها لا تغيب عنها الشمس؛ إذ امتدت من أسيا وأفريقيا إلى أوروبا وأجزاء من الأمريكيتين.
لقد رسمت بريطانيا الخريطة الحالية لعالمنا العربي بعد الحرب العالمية الأولى دون ارتكاب مجازر دموية مثل التي ارتكبها الفرنسيون في الجزائر، فبحسب رسالة مرفوع عنها السرية وجهها مدير الاستخبارات العسكرية البريطانية بالقاهرة عام 1916 إلى رؤسائه في لندن فقد قال:
"أهدافنا الآنية هي تفتيت الكتلة الإسلامية، ودحر الإمبراطورية العثمانية وتمزيقها.. إن العرب هم أقل استقراراً من الأتراك؛ وإذا عولج أمرهم بصورة صحيحة فإنهم يبقون في حالة من الفسيفساء السياسية، مجموعة دويلات صغيرة يغار بعضها من بعض؛ غير قادرة على التماسك".
وهو ما تطلب تشجيع مكماهون، المندوب السامي البريطاني في مصر، للشريف حسين والي الحجاز على إعلان الثورة ضد العثمانيين، حيث أرسل له رسالة في 1915 قال خلالها: "إن جلالة ملك بريطانيا العظمى يرحب باسترداد الخلافة إلى يد عربي صميم من فروع تلك الدوحة النبوية المباركة". فيما أصدر وزير الخارجية البريطاني بلفور وعده الشهير في عام 1917 بإقامة وطن قومي لليهود في فلسطين، وهو ما أسفر عن مأساة ما زال العالم الإسلامي يعيش تداعياتها حتى اليوم.
بريطانيا والحضور الناعم
اهتممت بقراءة ما يتعلق بالسياسة الخارجية البريطانية، وبالأخص في عالمنا العربي، فوجدت وجبة دسمة في سلسلة "الجزيرة العربية في الوثائق البريطانية" التي أصدرها الأستاذ نجدة فتحي صفوة في 7 أجزاء، وهي عبارة عن ترجمات لنصوص ووثائق من الأرشيف البريطاني مرفوع عنها السرية دون إضافات من المترجم.
كذلك قرأت مؤخراً كتاباً جماعياً مهماً صدر في عام 2022 باللغة الإنجليزية بعنوان "ما التالي لبريطانيا في الشرق الأوسط؟: الأمن والتجارة والسياسة الخارجية بعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي"، حيث شدد مؤلفو الكتاب على أن القدرات البريطانية في المشهد الدولي صارت أكثر محدودية، وأن على لندن أن تكون أكثر انتقائية في القضايا التي تنخرط فيها بحيث تعمل في حدود قدراتها، وذلك بعد أن تحولت عقب الحرب العالمية الثانية إلى قوة كبرى من المرتبة الثانية، بحسب وزير الخارجية البريطاني السابق مايكل ستيوارت.
وفق الكتاب المشار له، فإن الخليج العربي هو المنطقة ذات الأولوية لدى لندن؛ نظراً لأهميتها الأمنية والاقتصادية، ثم تأتي بعد الخليج إيران وتركيا وإسرائيل، كما أن الأردن وسلطنة عمان على وجه الخصوص هما حليفان تاريخيان تربطهما بلندن علاقات عميقة، ورغم إخلاء القواعد العسكرية البريطانية من المنطقة، فما زال يعمل في دول الخليج العديد من المسؤولين البريطانيين السابقين كمستشارين سياسيين وعسكريين وأمنيين واقتصاديين مما يجعلهم مؤثرين في رسم السياسات وصنع القرار.
بجوار المعطيات السابقة، أصدرت منذ أيام منظمة "AOAV" المعنية بنشر أدلة العنف المسلح ضد المدنيين حول العالم، تقريراً تناول دور القوات الخاصة البريطانية في 19 دولة على الأقل منذ عام 2011 حتى الآن بناء على مصادر إخبارية مفتوحة.
جاءت دول عربية وإسلامية في مقدمة الدول التي نشطت فيها القوات الخاصة البريطانية مثل الجزائر والعراق وليبيا ومالي ونيجيريا وباكستان والصومال والسودان وسوريا واليمن ومضيق هرمز، فضلاً عن استخدام مواقع في 6 دول أخرى للتدريب وتجهيز العمليات مثل سلطنة عمان والأردن والسعودية وجيبوتي.
اللافت في التقرير أن قائد القوات الخاصة البريطانية مسؤول فقط أمام وزير الدفاع ورئيس الوزراء، وبالتالي نفذت قواته هجمات وتواجدت على الأرض في دول رفض البرلمان البريطاني صراحة إرسال قوات برية إليها مثل سوريا في عام 2013.
بحسب التقرير انخرطت القوات الخاصة البريطانية دون محاسبة في عمليات قتل لمدنيين أفغان أبرياء بما في ذلك أطفال بناء على معلومات خاطئة، كما شاركت في تتبع وتصفية عناصر قائمة ضمت نحو 200 مواطن بريطاني من المتهمين بالانتماء إلى تنظيم داعش في العراق وسوريا، وهو ما يفتح الباب للمساءلة عن أنشطة القوات الخاصة، ودور الجيش في النزاعات الخارجية.
أبرز عمليات القوات الخاصة البريطانية في العالمين العربي والإسلامي
في يناير 2013 سافر عدد من خبراء القوات الخاصة البريطانية إلى الجزائر لتقديم المشورة والمساعدة في أعقاب سيطرة عناصر إسلامية مسلحة على محطة غاز "عين أميناس" كما قدموا تدريبات إلى نظرائهم الجزائريين بخصوص تبادل المعلومات الاستخباراتية وأمن الحدود ومكافحة الدعاية.
في العراق ساهم البريطانيون في جمع المعلومات الاستخبارية واستهداف قادة داعش ودعم البيشمركة الكردية، وفي ليبيا شارك نحو 350 جندياً بريطانياً في مطاردة الرئيس السابق معمر القذافي، وتدمير مخزون أسلحة القذافي من أنظمة الدفاع الجوي المحمولة على الكتف، كما وفروا معلومات لاستهداف عناصر داعش في مدينة سرت، لكنهم غادروا العاصمة طرابلس إثر هجوم حفتر عليها في أبريل 2019.
كذلك ساهم الجنود البريطانيون في تدريب جنود من نيجيريا والمغرب والكاميرون في السنغال لمواجهة عناصر تنظيمي داعش والقاعدة في منطقة الساحل والصحراء بأفريقيا، فيما ساهم 45 خبيراً بريطانياً في دعم القوات الفرنسية في مالي عبر تقييم التهديدات الاستخباراتية.
أيضاً انتشر 150 فرداً من القوات الخاصة البريطانية في قبرص لمراقبة عمليات الهجرة غير النظامية في البحر الأبيض المتوسط، وللرد على أي عمليات تستهدف سياحاً بريطانيين مثلما حدث في هجوم على ساحل أحد شواطئ تونس عام 2015.
كما استهدف البريطانيون تجمعات القراصنة وعناصر حركة الشباب على طول الساحل الصومالي، كذلك ساهم 60 خبيراً بريطانياً في تدريب القوات الكينية، كما ساندوها خلال محاولتها استعادة السيطرة على مجمع "ويست جيت" التجاري في نيروبي عقب سيطرة عناصر من حركة الشباب عليه في عام 2013.
لم يغب البريطانيون عن اليمن، حيث شاركوا في عمليات لقتل أو أسر عناصر تنظيم القاعدة بالتنسيق مع القوات الأمريكية والسعودية والإماراتية، وفي سوريا دعموا قوات قسد خلال القتال في مدينة كوباني ضد عناصر داعش، حيث ركزوا على جمع معلومات استخبارية من مقاتلي داعش البريطانيين الأسرى، بما في ذلك التسجيلات الصوتية ومسح قزحية العين وفصيلة الدم وعينات الحمض النووي.
فيما جرى إرسال فريقين من القوات الخاصة البريطانية في عام 2019 لحماية ناقلات النفط البريطانية خلال مرورها بالخليج، وتم تكليف الجنود بمراقبة النشاط البحري الإيراني حول جزيرة قشم.
في أفغانستان تورطت وحدات القوات الخاصة البريطانية والأمريكية في مقتل 295 مدنياً أفغانياً بين عامي 2009 و2012 وفقاً لتقارير بعثة الأمم المتحدة لمساعدة أفغانستان. فيما ساهم ضابطان بريطانيان مع نظرائهما الأمريكيين في التخطيط لحادث مداهمة منزل زعيم تنظيم القاعدة في باكستان.
كما نفذ البريطانيون آخر عمليات قواتهم الخاصة في شهر أبريل 2023 بالسودان لإجلاء أفراد البعثة الدبلوماسية البريطانية من الخرطوم عبر قاعدة وادي سيدنا الجوية بالتنسيق مع القوات المسلحة الفرنسية والأمريكية وبإذن من الجيش السوداني.
تشير الأنشطة المتعددة للقوات الخاصة البريطانية إلى أن لندن لا تزال فاعلة في المنطقة، لكن وفق نهج خفيف البصمة يعمل على تحقيق أهدافه بعيداً عن الضجيج الإعلامي، ودون الاصطدام بمشاعر شعوب العالم العربي والإسلامي، وهو ما تفتقده دولة مثل فرنسا على سبيل المثال، والتي دخلت عدة مرات في أزمات مع شعوب المنطقة بسبب تصريحات مواقف مسيئة لمسؤولين فرنسيين ضد الإسلام ورموزه.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.