"أداة الضغط الأولى على أردوغان"، هكذا يمكن وصف ملف اللاجئين السوريين، الذي باتت المعارضة توظفه في جولة الإعادة بطريقة عنصرية متصاعدة، دفعت الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، لوصف منافسه كمال كيجدار أوغلو وحزبه الشعب الجمهوري بالنازي، ولكنه وعد في الوقت ذاته بحل المشكلة بشكل واقعي وإنساني، فما هي خيارات أردوغان الواقعية في ملف اللاجئين السوريين بتركيا في حال فوزه بالرئاسة؟
مع تقدم أردوغان في جولة الانتخابات الأولى، والتي منعه من الفوز بها بضع مئات من آلاف من الأصوات، فإن المعارضة التركية، ولاسيما مرشحها كمال كيجدار أوغلو تخلت عن حذرها في تعاملها مع ملف اللاجئين، وحوّلت الحملة الانتخابية في الجولة الثانية لكي تدور حول مسألة طرد اللاجئين، ولم تعد تتحدث عن إخراجهم خلال عامين كما ذكرت مسبقاً.
المعارضة تهدّد بطرد اللاجئين دون تقديم خارطة طريق للحل
شهدت الأيام الأخيرة تخلي كمال كليجدار أوغلو عن الخطاب الليبرالي السابق للمعارضة؛ حيث تشدد في نبرته بخصوص المهاجرين، وتعهّد يوم الخميس، 18 مايو/أيار، بإعادتهم جميعاً إلى بلادهم بمجرد فوزه في جولة الإعادة، في تحوّل لافت عن خطابه خلال الحملة الانتخابية الأولى، التي كان يتبنى خلالها الهدف نفسه، ولكن خلال عامين، مشيراً إلى ضرورة العمل على تهيئة الظروف لإعادتهم، وبصفة خاصة السوريين.
لم تقدم المعارضة بطبيعة الحال خارطة الطريق لكيفية إخراجهم في ظل رفض رئيس النظام السوري بشار الأسد استقبالهم؛ لأن طردهم من سوريا غير تركيبتها السكانية، وجعل العرب السنة أقلية (أغلب اللاجئين السوريين من العرب السنة).
كما لم تتحدث المعارضة عن كيف ستتفاوض مع أوروبا في هذا الملف، علماً بأن الاتفاق الحالي بشأن اللاجئين بين تركيا والاتحاد الأوروبي تم إبرامه عندما كان أحمد داوود أوغلو القيادي بطاولة المعارضة السداسية رئيساً للوزراء، وهو الاتفاق الذي قدم بموجبه الاتحاد الأوروبي 6 مليارات دولارات لتركيا.
ويمثل إعلان رئيس حزب "النصر" اليميني المتطرف في تركيا، أوميت أوزداغ، دعمه للمرشح الرئاسي عن تحالف الأمة المعارض كمال كليجدار أوغلو، في جولة الإعادة للانتخابات الرئاسية يوم 28 مايو/أيار 2023، ضغطاً إضافياً على أردوغان في هذه القضية.
وزايد أوزداغ على الرقم الزائف الذي روجه كليجدار أوغلو بشأن اللاجئين في تركيا فبعد أن قال الأخير إن تركيا بها عشرة ملايين لاجئ، قال أوزداغ: "إن أهم قضية أمام تركيا هي عودة 13 مليون طالب لجوء وهارب. ولا يمكن لتركيا أن تتغلب على مشاكلها الاقتصادية دون إعادة 13 مليوناً إلى وطنهم".
أردوغان لم يحاول التساوق مع خطاب المعارضة، ويتهم حزب الشعب بالنازية
رغم الضغط الكبير، الذي يمثله ملف اللاجئين بتركيا على أردوغان وحزب العدالة، فإن الرئيس التركي، لم يحاول التساوق مع هذا الخطاب في هذه الأوقات الحرجة، ورد بشكل هجومي، متهماً حزب الشعب بالنازية، مع إشارته إلى أنه تم تنفيذ برنامج لإعادة نحو نصف مليون لاجئ لشمال سوريا في المناطق الخاضعة للمعارضة المتحالفة مع أنقرة.
واعتبر أن ما تلوح به المعارضة التركية عار على البلاد، وأن استقبال اللاجئين مسألة إسلامية وإنسانية ودينية.
كما اتهم أردوغان كليجدار أوغلو باحتراف الكذب عندما تحدث عن أن عدد اللاجئين في تركيا 10 ملايين، وهو رقم يزيد بمرتين ونصف على الأعداد المسجلة وفقاً لتقديرات التركية والأممية الرسمية.
وأكد الرئيس التركي في حديثه مع شبكة سي إن إن الأمريكية على أن عودة اللاجئين سوف تكون طوعية وغير قسرية، ووفقاً للقوانين الدولية.
وزير داخليته يدافع عن اللاجئين السوريين
كما دافع وزير الداخلية التركي سليمان صويلو عن اللاجئين السوريين، وفنّد ادعاءات المعارضة، وخاصة كمال كليجدار أوغلو بشأن عدد السوريين اللاجئين في تركيا، إذ قال صويلو في مقابلة أجراها مع قناة CNN Turk إن عدد السوريين هو 3 ملايين و381 ألفاً و429 سورياً يخضعون للحماية المؤقتة، ليحسم بذلك جدلاً أثارته المعارضة بشأن عدد اللاجئين بتركيا.
وأضاف تعليقاً على اتهامات كليجدار أوغلو للاجئين بتهديد الأمن، قال صويلو إن معدل الجرائم لدى السوريين المقيمين في تركيا لا يرتفع، مشيراً إلى أن السوريين أناس يتحكمون بأنفسهم وهم منضبطون.
المعارضة لا تشير لدور الأسد في الأزمة، والغرب يتجاهل خطابها العنصري
المفارقة أن الغرب يتحدث عن وجود عمليات إعادة غير طوعية للاجئين من دون تركيا من دون إثبات، كجزء من محاولة تشويه الرئيس التركي، بينما لا تتطرق وسائل إعلام الغرب ولا مؤسساته الحقوقية ولا مسؤوليه عن خطاب المعارضة الخطير بشأن إعادة اللاجئين قسراً، في ظل رفض نظام الأسد استقبالهم مما يهدد بأزمة إنسانية خطيرة على حدود تركيا مع سوريا وأوروبا على السواء.
ومع ذلك، كان واضحاً أن الرئيس التركي يعلم حساسية الموضوع، وأنه ينوي التعامل مع هذا الملف بقوة.
من الواضح أن خيارات أردوغان في ملف اللاجئين بتركيا تعتمد على سلسلة من الحلول وليس حلاً واحداً وأن هذه الحلول سيسعى لتطبيقها بشكل متوازٍ.
الخيار الأمريكي.. دمج جزء من اللاجئين
كان لافتاً في حديث أردوغان مع شبكة "سي إن إن" الأمريكية، قوله إن اللاجئين بينهم من أصحاب المهارات التي تحتاجهم تركيا، مثل الأطباء والمهندسين والمحامين، ملوحاً بإمكانية دمجهم في المجتمع التركي.
كما قال وزير الخارجية التركية مولود تشاووش أوغلو، إنه لا يصح القول إن تركيا ستعيد كل اللاجئين السوريين إلى بلادهم، مشيراً إلى وجود قطاعات في تركيا مثل الزراعة والصناعة، بحاجة إلى يد عاملة.
وقال أردوغان إن تركيا لكي تكون دولة رائدة (اقتصادياً وعلمياً)، مثل الولايات المتحدة، فإنهم يجب أن تتيح الفرصة للمهاجرين ذوي المهارات التي تحتاجها البلاد.
ويعد هذا جزء من خطاب قديم لحزب العدالة والتنمية كان رئيس الوزراء الأسبق أحمد داوود أوغلو جزء من عملية تشكيله قبل أن ينشق عن الحزب، يقوم على النظر لتركيا في جذورها كدولة متنوعة ومنفتحة وليس دولة قومية متعصبة، كما كان الأمر قبل وصول حزب العدالة للحكم، وهم يرون الدولة العثمانية في مرحلة قوتها كانت دولة متنوعة
وبالفعل، منحت تركيا أعداداً قليلة من اللاجئين العرب الجنسية، رغم أن المعارضة تميل للمبالغة في أعدادهم.
وألمح وزير الداخلية التركي إلى توسيع هذا الخيار، تحديداً مع التركمان السوريين، حيث قال: "لم نكن نرغب في منح الجنسية التركية لتركمان سوريا بغية الحفاظ على استمراريتهم هناك، ولكن سوء الأوضاع في سوريا دفعنا لاستقبالهم ومنحهم الجنسية".
تجدر الإشارة إلى أنه يصعب على المعارضة التركية الاعتراض على مسألة منح التركمان الجنسية؛ لأن التركمان جزء من الأسرة التركية الكبيرة، ويتحدثون لغة قريبة من اللغة التركية، كما أن منح الجنسية للقوميات التركية الهاربة من الاضطهاد جزء من إرث الدولة التركية الحديثة، بل إن المهاجرين الأتراك الهاربين من اضطهاد روسيا والدول الأوروبية لعبوا دوراً في بناء القومية التركية الحديثة والقومية الطورانية.
أما منح الجنسية للاجئين السوريين العرب، فهي مسألة قد تكون محدودة ومرتبطة كما ألمح أردوغان بمدى حاجة أسواق العمل لهم ومدى اندماجهم في الثفاقة التركية وبقائهم لفترة طويلة بتركيا.
إعادة الانتشار الداخلية
واحدة من أكثر الخطوات التي نفذتها السلطات التركية في ملف معالجة قضية اللاجئين، هي مسألة إعادة الانتشار الداخلي والتعامل مع اللاجئين المخالفين.
فقلد لجأ معظم النازحين السوريين إلى الولايات التركية المحاذية لسوريا، وكانت تصاريح إقامتهم على هذه الولايات، لكن بطبيعة الحال مدينة إسطنبول بطبيعتها التجارية السياحية العالمية تجتذب المهاجرين، ولذلك هم يحاولون الانتقال إليها.
والمفارقة رغم أن أغلب الوجود السوري في الولايات الجنوبية الفقيرة، فإن وجود السوريين في إسطنبول الغنية هو الذي يثير حساسيات أكبر، بينما تبدو الولايات الجنوبية المحافظة أقل غضباً من الوجود السوري الأوضح لديها كما ظهر في التصويت المحدود للمرشح المعادي للاجئين سنان دوغان بهذه الولايات، حيث أن الولايات المحاذية لتركيا فقيرة ومحافظة وثقافتها لا تختلف كثيراً عن الثقافة العربية، بينما المدن الكبرى معقل القومية التركية الأتاتوركية الكمالية.
ولذا بذلت السلطات التركية جهوداً لإلزام اللاجئين بالإقامة في الولايات المسجلين بهما رسمياً، وأغلبها من الولايات الجنوبية، وذلك خاصة بعد فوز المعارضة ببلديتي أسطنبول وأنقرة.
إعادة اللاجئين إلى شمال سوريا الخاضع لسيطرة المعارضة الحليفة لأنقرة
المشروع الأهم في مسألة معالجة ملف اللاجئين والأكثر واقعية، هو إعادة اللاجئين للمناطق الخاضعة لسيطرة المعارضة في شمال سوريا، وهما عبارة عن جيبين الكبير منهما حول مدينة إدلب.
وأعلن وزير الخارجية التركي أنه تمت إعادة 550 ألف لاجئ طوعاً إلى هذه المناطق بعد بناء منازل لهم.
وقال وزير الداخلية التركي إن المنازل التي تشيدها تركيا في المناطق المحررة بالشمال السوري، تتم بدعم المانحين الدوليين وخاصة قطر، وتابع قائلاً: "70% من السوريين الموجودين حالياً في تركيا، مستعدون للعودة الطوعية في حال توفرت البنية التحتية لهم".
ماذا تحتاج مناطق الشمال السوري لكي تصبح أداة للحل، لا المشكلة؟
المشكلة تتعلق بعدم توافر الظروف الملائمة لإعادة أعداد أكبر من اللاجئين لهذه المناطق.
والأوضاع الاقتصادية في مناطق المعارضة أفضل من مناطق النظام السوري، في ظل ارتباطها بتركيا واستخدامها لليرة التركية في التعامل.
ولكن المشكلة تكمن في خلافات قوى المعارضة، وعدم وجود إطار موحد واقعي، بل استمرار المنافسات التي تصل للقتال أحياناً بين فصائل المعارضة في الشمال السوري.
وواقعياً، هيئة تحرير الشام المنبثقة عن جبهة النصرة المصنف إرهابية عالمياً، هي أقوى فصيل مسلح في إدلب، ولقد سعت للقضاء أو إضعاف الفصائل المسلحة القوية المناوئة لها، مع تركها الحكم لمجموعات ذات طابع مدني.
المشكلة أن هذا التنظيم مرفوض تركياً ودولياً وحتى سوريا، رغم تأكيده قطع جذوره مع القاعدة (ومحاربته أحياناً الفصائل المحسوبة على القاعدة بالمنطقة)، ولكن محاولة القضاء عليه عسكرياً، مسألة صعبة، كما أنه يعد القوة الوحيدة القادرة على التصدي لأي هجوم للروس أو نظام الأسد.
وهناك حاجة كبيرة لأن تنظم المعارضة السورية نفسها وتدمج كل هذه الفصائل وتقيم حكومة مسؤولة في شمال سوريا، بما يمكنها من إدارة المنطقة وتوفير ظروف أمنية مواتية لعودة اللاجئين.
تتمتع المنطقة المكتظة بالنازحين من مناطق سوريا الأخرى بميزة الاتصال بتركيا، بما في ذلك فرصة محاولة نقل النموذج الإنتاجي التركي لها، وأن تكون موطناً لصناعات مكملة للصناعات التركية التي تحتاج لأيدي عاملة رخيصة، خاصة أن السوريين مشهورون بمهاراتهم التجارية والصناعية.
الأكراد يسيطرون على مناطق عربية غنية بالنفط
إحدى النقاط المثيرة للجدل، والتي تتجاهلها الصحافة الغربية أن جزءاً من اللاجئين في سوريا جاءوا من منطقة شمال شرق سوريا الضخمة التي يسيطر عليها ما يُعرف بالإدارة الكردية الذاتية، والسؤال لماذا لا تبذل الدول الغربية جهوداً لإعادتهم لها في ظل حكم حزب الشعب الديمقراطي الكردي السوري، الذي يزعم بدعم غربي أنه يقدم نموذجاً لتعايش الشعوب بينما هو فعلياً، يقيم دويلة عنصرية تسيطر فيها القيادة السياسية للحزب المنبثق عن حزب العمال الكردستاني المصنف إرهابياً في الغرب وتركيا على أغلبية عربية.
هذه المنطقة هي الأغني بالنفط والقمح في سوريا، وهي توفر الإمكانات الاقتصادية اللازمة لاستيعاب ملايين اللاجئين السوريين، كما أن هذه المنطقة التي تشمل كل ما هو شرق الفرات تقريباً تمثل نحو ثلث مساحة سوريا، وهي تاريخياً منطقة ذات أغلبية عربية باستثناء الشريط الحدودي الملاصق لتركيا، الذي يضم عرباً وأكراداً، ولقد شهدت هذه المنطقة عمليات تطهير عرقي كردي للعرب السنة في المنطقة.
وفي حال إدخال هذه المنطقة في ملف التعامل مع أزمة اللاجئين، فإنها توفر آفاق حل كبيرة.
المشكلة تتمثل الدعم الغربي اللامتناه لهذه الإدارة رغم عنصريتها وعلاقتها بحزب العمال الكردستاني، وهي أمور مثبتة في تقارير العديد من مراكز الأبحاث الغربية منها مركز كارنيغي الأمريكي.
يمكن أن تسعى تركيا والمعارضة التركية لتحريك هذا الملف، بالدعوة لإجراء انتخابات في هذه المناطق، تسمح بتمثيل للسكان العرب الذين يمثلون الأغلبية، وبالتالي حكومة تشاركية بين العرب والأكراد تسمح بعودة اللاجئين السوريين من تركيا بما فيهم من أكراد وعرب.
في الأغلب سترفض الإدارة الكردية هذا المسعى؛ لأنها تريد إقامة دويلة كردية تهمش العرب السنة، مثلما يفعل نظام الأسد في بقية سوريا، ولكن المعارضة السورية، لاسيما الليبرالية يجب أن تعمل على تسليط الضوء على هذه القضية، بما في ذلك إمكانية تنظيم احتجاجات على المظالم التي يتعرض لها العرب بشمال شرق سوريا، خاصة أن الشكاوى يجأر بها أيضاَ الأكراد غير التابعين لحزب الشعب السوري، خاصة أن هناك تحذيرات متزايدة أشارت لها مراكز أبحاث غربية مثل كارنيغي أن هذه المظالم التي يتعرض لها عرب شمال شرق سوريا، يمكن أن تؤدي لعودة داعش.
وتحتاج المعارضة السورية في الشمال لكي تستطيع موازنة نفوذ الأكراد والنظام لبناء أنظمة إدارة ديمقراطية، وتراتبية، تتمتع باللامركزية، لا بالتشتت، وأن تكون المؤسسات فوق حزبية، أي تكون الأحزاب والفصائل تقود المؤسسات، ولكن لا أن تصبح المؤسسات فصائلية، والأهم ظهور شخصيات سورية قيادية تخاطب الشعب السوري والعالم.
التطبيع مع الأسد
قال وزير الخارجية التركي مؤخراً: "نحن بحاجة إلى إرسال اللاجئين ليس فقط إلى المناطق الآمنة، ولكن أيضاً إلى الأماكن التي يسيطر عليها النظام؛ لذلك علينا أن نرسلهم إلى المدن التي أتوا منها، ولهذا بدأنا في التواصل مع النظام، وقد اتخذنا قراراً ببناء البنية التحتية لهذه الخطوة".
وسعى الرئيس التركي للتطبيع مع بشار الأسد، قُبيل الانتخابات بدعم من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، ولكن الأسد تقدم بخطوات بطيئة في هذا الملف وأراد إرجاءه لما بعد الانتخابات الرئاسية التركية على أمل هزيمة أردوغان.
أعلن أردوغان، العام الماضي، عن إنشاء آلية ثلاثية تجمع تركيا وروسيا وسوريا، من أجل التوصل إلى حل للأزمة السورية، من خلال إعادة اللاجئين السوريين ومحاربة التنظيمات الإرهابية، كما عبر أردوغان، علناً، في نهاية نوفمبر/تشرين الثاني 2022، عن رغبة بلاده في تطبيع العلاقات مع سوريا، دون أن يستبعد لقاء على مستوى القمة في المستقبل.
تظل المرحلة الأبرز لهذه الجهود، متمثلة بأول لقاء ثنائي رفيع المستوى بين أنقرة ودمشق منذ بداية الحرب في سوريا 2011، وكان بين وزير الدفاع التركي، خلوصي أكار، ورئيس الاستخبارات، حقان فيدان، ووزير دفاع النظام السوري، علي محمود عباس، ورئيس الاستخبارات، حسام لوقا، من جهة أخرى، في موسكو، في 28 ديسمبر/كانون الأول 2022.
وتفيد المصادر التركية بأن هذا الاجتماع كان قد توصل بالفعل إلى عدد من الإجراءات الملموسة، مثل توافق أطراف الاجتماع على تشكيل لجنة ثلاثية للعمل على تطوير آلية لتسهيل عودة آمنة للاجئين السوريين إلى بلادهم، وبحث سبل التعامل مع ملف قوات سورية الديمقراطية (التي تشمل وحدات حماية الشعب الكردية)، وعودة حركة النقل التجاري التركي عبر سوريا.
ما زال نظام الأسد يشترط علناً على الأقل انسحاب القوات التركية من الأراضي السورية للتطبيع مع أنقرة، وهو الأمر الذي رفضته الأخيرة، وكرر الرئيس التركي هذا الرفض بتهذيب في لقائه الأخير مع "سي إن إن"، مشيراً إلى أن بلاده لديها حدود طويلة مع سوريا وستظل قواتها موجودة في سوريا طالما ظل هناك تهديد إرهابي في سوريا على تركيا.
بالنسبة لأنقرة، فإن الحديث عن أن تسحب وحدها قواتها من سوريا بينما لإيران وروسيا وأمريكا والأكراد قوات في سوريا، يبدو طلباً سخيفاً، خاصة أن هناك اتفاقية قديمة بين دمشق وأنقرة تسمح للأخيرة بالتوغل في الأراضي السورية لحماية أراضيها من الإرهاب، علماً بأن عمليات إرهابية عدة نفذت ضد تركيا انطلقت من المناطق الخاضعة للأكراد، إضافة لتعرض بلدات بالجنوب التركي لإطلاق صواريخ من سوريا.
وفي حين أن روسيا تتجنب علناً إثارة مطلب الانسحاب التركي من سوريا بشكل متكرر، فإن إيران لم تتردد في طرحه. كما أنها ستنظر إلى أي مصالحة بين أنقرة ودمشق من دون أن تحقق انسحاباً تركياً من سوريا على أنه سيكرس الحضور التركي بدلاً من تقليصه.
بالنسبة لنظام الأسد الذي نجا من احتمالات السقوط التي كانت يوماً وشيكة قبل التدخل الإيراني – الروسي، ليس هناك دوافع ذاتية للتطبيع مع أنقرة في ظل الحماية المتوفرة له من روسيا وميليشيات إيران.
ولكن عامل الضغط على الأسد هو سعي روسيا لهذا التطبيع، لما فيه من مصلحة لأردوغان، الذي رغم أن حكومته أثبتت أنها منافس شرس لموسكو في ليبيا وسوريا، والقوقاز، فإنها في الوقت ذاته شريك ومفاوض موثوق في الحرب والاقتصاد.
عقب اجتماع وزراء دفاع الدول الثلاث في موسكو في 28 ديسمبر/كانون الأول 2022، أكد وزير الدفاع التركي، خلوصي أكار، أن الجانب التركي أشار خلال الاجتماع إلى ضرورة المضي نحو حل الأزمة السورية على أساس قرار مجلس الأمن 2245، الصادر في ديسمبر/كانون الأول 2015.
والمعروف أن هذا القرار وضع خارطة طريق لاتفاق أطراف النزاع السوري الداخلي على إقامة حكم ذي مصداقية، غير طائفي أو فئوي، وعلى دستور سوري جديد. ولكن، وبعد مضي 7 سنوات على صدور القرار الأممي، وإشراف الأمم المتحدة على سلسلة لقاءات بين الأطراف السورية، ليس ثمة تقدم يُذكر، سواء فيما يتعلق بإعادة بناء الدولة السورية، أو وضع دستور سوري جديد محلَّ توافق بين النظام والمعارضة.
وفي ظل مخاوف المعارضة التركية أكد وزيرا الدفاع والخارجية في تركيا، أن مسار الاتصالات بين تركيا وسوريا لن يكون له أثر سلبي على الشعب السوري وعلى قوى المعارضة السورية في تركيا، كما عقد وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو اجتماعاً مع قيادة الائتلاف السوري المعارض، وقال موقفنا في اجتماع موسكو هو الدفاع عن بلدنا وشعبنا، لقد عبرنا عن تصميمنا لمحاورينا بأنه لا مجال على الإطلاق بالنسبة لنا أن نفعل شيئاً ضد إخواننا السوريين، سواء في تركيا أو في سوريا.
ويبدو أن مقاربة تركيا للمسألة تحظى جزئياً بتفهم موسكو التي تولي أهمية لاستمالة تركيا.
خيارات تركيا البديلة مع الأسد
وعلى الرغم من أن تركيا راغبة في إتمام المصالحة مع الأسد، فإنها غير مستعدة لتقديم تنازلات جوهرية على الفور أو في المستقبل المنظور.
كما أن الأسد قد يمضي قدماً بضغط روسي وقبول إيراني في التطبيع مع تركيا، إذا فاز أردوغان، ولكنه لن يقبل على الأرجح طوعاً عودة اللاجئين، وهو بالفعل عاد للجامعة العربية دون أن يقدم أي تنازل ملموس في هذا الملف بما في ذلك ملف اللاجئين الذي يهم الأردن (عراب مبادرة عودة سوريا) ولبنان.
كما أن سياسة حزب العدالة أبدت تمسكاً بأن عودة اللاجئين السوريين يجب أن تكون آمنة وهي مسألة غير مضمونة مع نظام مثل النظام السوري إطلاقاً.
فهل لدى أنقرة خيارات بديلة؟
سبق أن لمَّحت تركيا إلى أن لديها خيارات أخرى مع نظام الأسد بما فيها العمل العسكري، وسبق أن شن الجيش التركي عملية عسكرية واسعة في إدلب ضد جيش النظام السوري عام 2020، بعد قصف مركز أدى لمقتل عشرات الجنود الأتراك وإطلاق نظام الأسد بدعم من موسكو عملية عسكرية واسعة ضد المعارضة.
وفي ذروة مساعي أنقرة للتطبيع مع الأسد مؤخراً، لوَّح وزير الدفاع التركي في مواجهة تمنع النظام بأن أنقرة لديها خيارات أخرى، بما فيها العمل العسكري.
خطة حلب
يبدو الهدوء الحالي للدبلوماسية التركية نابع من الانشغال بالانتخابات، ولكن أنقرة أثبتت من قبل أنها لديها القدرة والاستعداد لتنفيذ عمل عسكري ضد الأكراد رغم غضب الغرب، وبالتالي تنفيذ عمل عسكري ضد الأسد، حليف إيران وروسيا لن يغضب الغرب كثيراً.
كما أن الظروف القادمة تبدو في صالح أنقرة في هذا الملف، روسيا متورطة بالكامل في الحرب الأوكرانية، والجيش الروسي لم يعد العملاق المرعب كما كان ينظر له من قبل، كما أن حاجة موسكو لأنقرة، أكبر بكثير من حاجتها للأسد، والإيرانيون رغم أنهم منتصرون استراتيجياً بعد المصالحة مع السعودية وتأمين نفوذهم في المنطقة، قد يواجهون جولة من التصعيد الأمريكي الإسرائيلي التي قد تستغلها أنقرة لصالحها في جوارها السوري.
حتى الآن، لم يحاول أردوغان أن ينتهز خلافات الغرب مع روسيا وإيران، لإشعال جبهة ضد البلدين في سوريا، بل على العكس، فإنه قدم نفسه للإيرانيين والروس، كشريك مسؤول، يرفض الضغوط الغربية للابتعاد أو معاداة موسكو وطهران، ولكنه قد يطلب في المقابل تأمين الحد الأدنى من مصالحه في سوريا وهي المتعلقة بتأمين مناطق المعارضة وعودة اللاجئين، وإضعاف الحزب الكردي المهيمن على الشمال السوري.
إذا امتنعت موسكو وطهران عن معالجة مطالب تركيا الحساسة، سيكون لدى الأخيرة خيار التصعيد الذي سيكون مناسباً لمصالح الغرب، ويمكن أن يتم بالتوازي مع تصعيد في الحرب الأوكرانية والأزمة الغربية مع طهران.
وقبل فترة قليلة اقترح مساعد الرئيس التركي ياسين أقطاي، بإعادة اللاجئين طوعاً لحلب (باعتبار أغلب اللاجئين منها) على أن تخضع حلب لشكل من الإدارة المستقلة عن النظام من قِبل المعارضة وإشراف دولي ودور تركي.
يبدو هذا الخيار الأصعب، ولكن الأفضل بالنسبة لأنقرة، ولكن سيكون مرتبطاً بتطورات العلاقة مع إيران وروسيا والغرب، ومدى تورط الأطراف الثلاثة في صراعتهما وحاجاتهم جميعاً لتركيا.
كما أن هذا الخيار مرتبط بشكل كبير بتطوير المعارضة السورية لهياكلها السياسية والإدارية والعسكرية، والاهم بمدى استجابة الأسد، لدعوات التطبيع التركي، وبالأخص لمسألة عودة اللاجئين.