يعيش العالم حالة محمومة من سباق التسليح، فكيف يؤثر اقتصاد الحرب على حالة الاقتصاد العالمي، الذي يواجه شبح الركود التضخمي بالفعل؟ ومن يدفع فاتورة زيادة الإنفاق العسكري بنسبة 5% في المتوسط سنوياً؟
مجلة الإيكونوميست البريطانية تناولت قصة "ضريبة الحرب" في تقرير يرصد ما تعنيه تكلفة سباق التسلح المحموم، الذي يشهده العالم منذ ما قبل بداية الهجوم الروسي على أوكرانيا، والذي تصفه موسكو بأنه "عملية عسكرية خاصة"، وتأثير ذلك السباق على اقتصاد العالم بشكل عام.
وبطبيعة الحال تزدهر صناعة السلاح في حالات الحروب، والحرب في أوكرانيا هي الأكبر في القارة الأوروبية منذ الحرب العالمية الثانية، لكن صناعة الموت أو السلاح لا يبدو أنها تتأثر سلباً حتى في غير زمن الحرب، فقبل الهجوم الروسي على أوكرانيا، ورغم وباء كورونا الذي أصاب الاقتصاد العالمي بالركود والانكماش، حققت تجارة السلاح أرباحاً كبرى، وتخطت المبيعات عام 2020 أكثر من نصف تريليون دولار.
وكان موقع The Conversation الأسترالي قد نشر تقريراً عنوانه "الحرب في أوكرانيا تهز عرش صناعة الأسلحة العالمية"، رصد الانقلاب الذي أحدثته الحرب في تلك الصناعة، وكيف استفادت دول كأمريكا والصين، بينما قد تكون روسيا أكبر الخاسرين.
الزيادة في الإنفاق العسكري
تتراوح نسبة الإنفاق على صناعة الأسلحة، سواء كإنتاج أو استيراد، بين دولة وأخرى بطبيعة الحال، لكن إجمالاً زادت تلك النسبة في عام 2022 إلى 4% تقريباً من إجمالي الناتج العالمي لتصل إلى أكثر من 2 تريليون دولار، مقارنة بما كانت عليه في عام 2021، بحسب تقرير لمعهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام.
وتسببت الحرب في أوكرانيا، التي يراها الغرب "غزواً روسياً غير مبرر"، في توجه الدول الأعضاء في حلف الناتو نحو اعتماد زيادات غير مسبوقة في إنفاقها العسكري، وترجمة الزيادات التي أعلنتها دول كألمانيا وفرنسا وبولندا وغيرها إلى أرقام يشير إلى زيادة بنحو 700 مليار دولار سنوياً وبشكل مطرد خلال السنوات المقبلة.
وحتى تتضح الصورة بشأن ما تعنيه تلك الزيادات المطردة في الإنفاق العسكري وتأثيرها المباشر على القطاعات الاقتصادية الأخرى، تجدر الإشارة هنا إلى ما قاله الرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش الأب عام 1992 خلال ترويجه لأهمية خفض الإنفاق العسكري حتى يتحسن الاقتصاد بشكل عام.
"يمكننا أن نحصد أرباح السلام هذا العام وفي الأعوام التالية من خلال التخفيض المستدام للميزانية العسكرية"، هكذا قال بوش الأب، وبالفعل انخفض الإنفاق العسكري الأمريكي من نحو 6% من إجمالي الناتج المحلي خلال عام 1989 بمقدار النصف خلال 10 سنوات.
لكن منذ عام 2001، عاد الإنفاق العسكري الأمريكي إلى الارتفاع بصورة مطردة، ومع الحرب في أوكرانيا والمنافسة الشرسة مع الصين والتوترات بفعل برنامج إيران النووي وعدم التوصل إلى إعادة إحياء الاتفاق الذي انسحب منه ترامب أو توقيع اتفاق جديد، من المتوقع أن تصل نسبة الإنفاق العسكري إلى مستويات غير مسبوقة. ولا يتوقف الأمر عند الولايات المتحدة بطبيعة الحال، فمن بين الأعضاء الـ31 في حلف الناتو، كانت هناك 3 دول فقط، عام 2014، تنفق 2% من ناتجها القومي على ميزانية الدفاع، وارتفع هذا العدد إلى 9 دول العام الماضي.
لكن تكريس 2% من إجمالي الناتج المحلي لميزانية الجيوش لا يمثل السقف أو الحد الأدنى، بل أصبح يمثل العتبة أو الحد الأدنى لدول الناتو، وهو المفهوم المتوقع التأكيد عليه خلال قمة ليتوانيا للحلف العسكري الغربي في يوليو/تموز المقبل. كما أن هناك دولاً تخطت بالفعل عتبة الـ2%، حيث تخطط بولندا لمضاعفة هذه النسبة خلال العام الجاري وتضاعف حجم جيشها وتسليحه، بينما تتحدث فرنسا عن التحول إلى "اقتصاد الحرب".
وإذا كان هذا هو الحال في أمريكا وأوروبا، فالموقف في أقصى شرق الكرة الأرضية لا يختلف كثيراً، حيث تزداد حدة سباق التسلح في آسيا ومنطقة المحيطين الهادي والهندي بشكل لافت. تايوان رفعت ميزانيتها العسكرية بأكثر من 50% هذا العام، والأمر نفسه فعلته الهند وباكستان خلال العقد الماضي وبنفس النسبة، بينما انضمت أستراليا إلى تحالف "أوكوس" مع أمريكا وبريطانيا للحصول على غواصات نووية.
أما اليابان وكوريا الجنوبية، فقد أعلنتا تبني استراتيجية عسكرية جديدة تشمل زيادات غير مسبوقة في الإنفاق العسكري، وفي الشرق الأوسط، تتسابق الدول على شراء الأسلحة بمستويات قياسية أيضاً، في ظل زيادة التوترات الإقليمية والدولية والانشغال الأمريكي عن المنطقة.
ماذا يعني "اقتصاد الحرب"؟
خلال خطاب لها في أبريل/نيسان الماضي، قالت كريستالينا جورجيفا، رئيسة صندوق النقد الدولي، إن الحرب في أوكرانيا "تهدد بفقدان العالم عوائد السلام التي تمتعنا بها على مدى العقود الثلاثة الماضي".
والمقصود بعوائد السلام هو توجيه الجزء الأكبر من إجمالي الناتج المحلي في كل دولة إلى الإنفاق على البنية التحتية والخدمات كالتعليم والصحة والرعاية الاجتماعية وغيرها من القطاعات والمجالات الاقتصادية التي تسعى للارتقاء بنوعية ومستويات معيشة الناس.
لكن الآن مع سيطرة "اقتصاد الحرب" على المشهد العالمي، تتحول عوائد السلام إلى "ضريبة حرب"، فماذا يعني ذلك؟ على الرغم من أن الحصول على أرقام دقيقة عن الإنفاق العسكري الخاص بكل دولة أمر غاية في الصعوبة، إلا أن المقارنة على أساس كلي وعالمي قد ترسم صورة أقرب للواقع.
بشكل عام، كان الإنفاق العسكري، خلال العقود الثلاثة الماضية، يمثل نحو 2% من إجمالي الناتج الاقتصادي العالمي، ومن المتوقع أن تتضاعف هذه النسبة سنوياً الأعوام الحالية. لكن هذه النسب الإجمالية ليست كافية لتوضيح التأثير الفعلي على مناحي الاقتصاد الأخرى.
فالإنفاق العسكري ذاته يشهد تحولات ضخمة على جميع المستويات. المستوى الأول مرتبط بالتطور التكنولوجي الهائل، والذي ينعكس بطبيعة الحال على نوعيات أنظمة التسليح، فالطائرات المقاتلة تطورت بصورة مذهلة ليصبح بإمكان مقاتلة واحدة ضرب عدة أهداف في طلعة واحدة، على عكس الماضي عندما كان ضرب هدف واحد يتطلب استخدام عدة مقاتلات، بحسب جيمس غيرتس، كولونيل متقاعد في سلاح الجو الأمريكي يعمل مستشاراً لشركة لوكس كابيتال الخاصة.
وفي نفس المستوى، لا بد من الأخذ في الاعتبار توظيف الذكاء الاصطناعي في الصناعات العسكرية بشكل متزايد، لدرجة أن الشركات الناشئة في مجال التكنولوجيا لم تعد تركز على إنشاء منصات تواصل اجتماعي جديدة، بل تركز على تطوير استخدامات وتطبيق الذكاء الاصطناعي في المجالات العسكرية.
فشركات سيليكون فالي تحول اهتمامها بشكل لافت إلى "الأمن القومي"، وبحسب بول كوان من شركة جنرال كاتاليست الاستثمارية، "لم يعد المؤسسون لشركات التكنولوجيا يريدون العمل على منصة تواصل اجتماعي، كما كان الحال في السنوات الماضية". وبعد أن كان المجال العسكري "مرفوضاً لأسباب أخلاقية" من جانب رواد التكنولوجيا، أصبح المجال الأكثر حضوراً في الشركات التكنولوجية الناشئة عام 2022.
وهناك الآن جهود متسارعة لدمج شركات الصناعات العسكرية في المجال التقني، وكشف تقرير برلماني بريطاني مؤخراً أن "النظم القديمة تتسم بالروتين والبطء الشديد"، في إشارة إلى أهمية الاعتماد على "النظم التكنولوجية الحديثة" في مجال الصناعات العسكرية.
وفي الماضي، كان تطوير وإنتاج طائرة مقاتلة من جيل جديد يستغرق نحو 20 عاماً، لكن الآن يمكن تقليد التطوير التكنولوجي في سيليكون فالي وإنتاج طائرة حديثة كل 6 شهور أو عام من خلال تطوير برامج التشغيل اعتماداً على الذكاء الاصطناعي، كما يرى تيم تايكليت، المدير التنفيذي لشركة لوكهيد مارتن، أكبر شركات تصنيع الأسلحة في العالم على الإطلاق.
ما تأثير هذه "الهستيريا" العسكرية على اقتصاد العالم؟
هناك عدة عوامل تجعل من هذه الهستيريا العسكرية وسيطرة "اقتصاد الحرب" خطراً داهماً على الاقتصاد العالمي بشكل عام. العامل الأول يتمثل في الزيادة المطردة لأسعار أنظمة التسليح، على الرغم من أن العكس هو المفترض أن يحدث، نتيجة للتطور التكنولوجي الكبير.
والسبب الرئيسي في هذه الزيادة يرجع إلى توجه الشركات العسكرية إلى الإنفاق الضخم على مراحل البحث والتطوير، ثم تحميل تلك التكاليف على سعر المنتج النهائي، أي السلاح نفسه، وهو ما يؤدي إلى زيادة سنوية هائلة قدرها 5% على فاتورة التسلّح عالمياً.
أما السبب الثاني فيتعلق بطبيعة صناعة وتجارة الأسلحة، التي تتسم بالسرية الشديدة وهو ما يجعل "المراقبة والتدقيق" غاية في الصعوبة، ما يفتح المجال أمام احتمالات تفشي الفساد وإهدار الأموال، وفي النهاية يتم تحميل تلك الأموال على السعر النهائي للمنتج.
أما بالنسبة لتأثير هذا التوسع في الإنفاق العسكري على الاقتصاد العالمي، فيتمثل في عدة نواحٍ أبرزها بطبيعة الحال التراجع في الإنفاق على المجالات المدنية مثل التعليم والصحة والرعاية الاجتماعية والاستثمار في مجالات أخرى خدمية أو خاصة بالبنية التحتية.
فاقتصاد الحرب مربح للغاية لمن يستثمرون فيه وهو ما يمثل عاملاً مشجعاً للمستثمرين على الانضمام لتلك الصناعة وتجاهل صناعات أخرى قد يكون البشر في أمَسّ الحاجة إليها.
ففي عام 2020، تسببت جائحة كورونا في خسائر ضخمة في الأرواح والأرزاق، لكن صناعة الأسلحة لم تتأثر بل ارتفعت المبيعات بصورة لافتة إلى 513 مليار دولار في عام واحد، أكثر من نصفها حصلت عليها شركات دولة واحد، وهي الولايات المتحدة الأمريكية، بحسب تقرير لموقع Responsible Statecraft الأمريكي.
أما النقطة الأخرى فتتمثل في كيفية تقسيم الموازنة العامة لكل دولة، فالدول الكبرى مثل الولايات المتحدة وحلفائها الغربيين، التي يوجد فيها نظام ديمقراطي ومحاسبة ورقابة، قد يكون من الصعب تمرير أي خفض لميزانيات قطاعات التعليم والصحة والرعاية الاجتماعية، فيكون المخرج هو تخفيض مخصصات مكافحة التغير المناخي أو الهيئات الأممية مثل منظمة الصحة العالمية والهيئات الإغاثية، على سبيل المثال.
وبطبيعة الحال من يدفع ثمن "ضريبة الحرب" هذه هم الفقراء والمحتاجون حول العالم، الذين يعتمدون على إعانات الهيئات الإغاثية الأممية، والدول الأقل قدرة على مواجهة التأثيرات الكارثية للتغير المناخي، رغم أن هذا الخطر الداهم الذي يتهدد الكوكب بأكمله هو صنيعة الدول الكبرى بالأساس.