منذ السماح للناخبين الأتراك في الخارج بالمشاركة السياسية والتصويت في الانتخابات العامة التي تجري في تركيا منذ عام 1987، لم تنجح المعارضة التركية بقيادة حزب الشعب الجمهوري في نيل ثقة ناخبي الخارج، ومن ثم الحصول على نصيب الأسد من أصواتهم في صناديق الاقتراع.
في الانتخابات الحالية استمرت توجهات الناخبين الأتراك على النحو ذاته منذ بدء مشاركتهم في عمليات الاقتراع؛ إذ حصد الرئيس التركي رجب طيب أردوغان 57.5% من أصوات الناخبين الأتراك مقابل 39.6% لمرشح تحالف الأمة المعارض كمال كليتشدار أوغلو.
وبحسب الهيئة العليا للانتخابات، يبلغ عدد الناخبين الأتراك المسجلين خارج تركيا 3 ملايين و416 ألفاً و150 ناخباً؛ تتركز غالبيتهم في ألمانيا بنحو مليون ونصف المليون ناخب، بعدها تأتي كل من فرنسا وهولندا.
مشاركة ناخبي الخارج
بدأت مشاركة الأتراك المقيمين خارج تركيا في التصويت بالانتخابات التركية؛ إلى جانب الاستفتاءات على التعديلات الدستورية التي مرت بها تركيا في انتخابات 29 نوفمبر/تشرين الثاني 1987.
وجاء ذلك بعد التعديلات الدستورية التي أقرتها تركيا في العام ذاته، وسمحت للمغتربين الأتراك خارج تركيا بممارسة حقهم في المشاركة الانتخابية، والإدلاء بأصواتهم داخل اللجان الانتخابية التي تقيمها الدولة فقط داخل المطارات والمنافذ الجمركية والحدودية؛ دون إقامة أية لجان انتخابية في الممثليات القنصلية التركية بالدول الأجنبية.
ونصّت التعديلات حينها على أن تقوم الدولة باتخاذ التدابير اللازمة للسماح للناخبين الأتراك خارج تركيا بالتصويت بالانتخابات، ونصت المادة 67 من الدستور التركي على أنه: "لكل مواطن تركي الحق في التصويت والترشيح والمشاركة في الأنشطة السياسية بشكل مستقل أو داخل حزب سياسي، والمشاركة في الاستفتاء وفق الشروط المنصوص عليها في القانون".
وفي 25 مايو/أيار 1987؛ تمت إضافة المادة 6 من قانون الأحكام الأساسية للانتخابات والسجلات الانتخابية، والمعروف باسم القانون رقم 298، ليعطي الحق لأولئك الذين يعيشون خارج تركيا ويملكون جنسية الجمهورية التركية بالاقتراع العام في الانتخابات العامة؛ في صناديق الاقتراع التي سيتم إنشاؤها على البوابات الحدودية خلال فترات الانتخابات.
ومنذ ذلك الحين نظمت تركيا 12 انتخابات برلمانية عامة؛ من بينها الانتخابات الجارية، و3 استفتاءات شعبية على تعديلات دستورية إلى جانب 3 انتخابات رئاسية.
وفي جميع الانتخابات التي سبقت الانتخابات الرئاسية التركية عام 2014، لوحظ أن قلة الإقبال على صناديق الاقتراع داخل المنافذ الحدودية من قبل الناخبين الأتراك في الخارج.
في عام 2007، شهدت تركيا التعديلات الدستورية الثالثة على دستور البلاد المكتوب عام 1982، ليعطي الحق للناخبين الأتراك بانتخابات رئيس الجمهورية بالاقتراع المباشر؛ إضافة إلى إنشاء لجان انتخابية في كل الممثليات القنصلية التركية حول العالم لتسهيل عملية مشاركة الناخبين الأتراك في الإدلاء بأصواتهم.
وفي عام 2014 تم انتخاب الرئيس التركي لأول مرة في تاريخ البلاد من قبل الناخبين عبر الاقتراع المباشر، وصوّت في هذه الانتخابات الناخبون الأتراك خارج تركيا عبر صناديق الاقتراع التي أقيمت في كل من التمثيليات الخارجية وعلى البوابات الحدودية والمنافذ الجمركية.
وبحسب معطيات المجلس الأعلى للانتخابات، بلغ عدد الناخبين المسجلين في الخارج مليونين و798 ألفاً و726 في انتخابات 2014، وبلغ إجمالي عدد الناخبين الذين ذهبوا إلى صناديق الاقتراع 528 ألفاً و416.
وحصل مرشح حزب العدالة والتنمية رجب طيب أردوغان على 329 ألفًا و317 من أصوات الناخبين الأجانب؛ مقابل 153 ألفاً و553 لأصوات أكمل الدين إحسان أوغلو مرشح المعارضة، و43 ألفاً و689 صوتاً لصلاح الدين دميرطاش؛ مرشح حزب الشعوب الديمقراطي الكردي، وبلغت نسبة المشاركة 18.9%.
تفضيلات ناخبي الخارج
من جانبه يرى أستاذ علم الاجتماع السياسي في جامعة "بلفليد" الألمانية الدكتور علي سعيد يلكين أنه يمكن تقسيم العوامل التي تؤثر على السلوك الانتخابي للناخبين الأتراك خارج أراضيهم إلى أسباب داخلية وخارجية.
وأضاف يلكين في رسالة بحثه لنيل درجة الدكتوراه من الجامعة ذاتها؛ التي جاءت تحت عنوان "المشاركة السياسية للمهاجرين"، أنه في حين أن عوامل مثل الأسرة واختلاف الأجيال، والوضع الاجتماعي، والحالة التعليمية، والجنس، والهوية العرقية والدينية تأتي في المقدمة للأسباب الداخلية التي تؤثر على توجهات الناخبين؛ يأتي برنامج الحزب وزعيمه، والحملات الانتخابية، والمنطقة التي يعيشون فيها وسياسات البلد الذي يعيشون فيه ضد تركيا في مقدمة الأسباب الخارجية.
ويرى يلكين خلال مشاركته في منصة بحثية عبر الإنترنت؛ أنه عندما يتم فحص العوامل التي تؤثر على التفضيلات الحزبية للناخبين الذين يعيشون في الخارج، فإن معظم الناخبين الذين قابلتهم على الأقل يقولون إن هناك "تأثيراً عائلياً" في تفضيلاتهم.
وتابع الباحث السياسي أنه لا يتم تشكيل هذا التفضيل على أنه قرار مجلس العائلة، ولكن نتيجة للمناقشات أو تبادل المعلومات في المنزل، ويمكن القول إن تأثير الأسرة، الفعال في السلوك الانتخابي، يتناقص بمرور الوقت.
ويُرى أن الناخبين المهاجرين يصوتون وفقاً للأحزاب السياسية في البلد الذي يعيشون فيه والسياسة الخارجية للحكومات ضد تركيا.
شوهد أفضل مثال على ذلك خلال التصويت العام في عام 2017؛ كما سيُذكر، إذ لم تسمح ألمانيا وهولندا لوزراء حكومة حزب العدالة والتنمية الذين أرادوا عقد اجتماعات مع الناخبين الأجانب خلال فترة الحملة الانتخابية لهذا التصويت الشعبي، الذي تسبب في أزمة بين تركيا وهذه الدول، في تزايد عدد الذين فضلوا "نعم" في التصويت الشعبي بعد هذه الأزمة.
تأثير أصوات الخارج
ولمعرفة مدى تأثير أصوات الناخبين في الخارج يمكن النظر إلى حصة حزب الشعوب الديمقراطي (الكردي)، الذي يخوض الانتخابات الحالية تحت اسم حزب "اليسار الأخضر"، بعدما خسر العديد من نوابه في 3 مدن رئيسية تتمتع بغالبية كردية لصالح حزب العدالة والتنمية بسبب معدل الإقبال المنخفض للناخبين الأكراد للتصويت في الجولة الأولى من الانتخابات.
وبعد إضافة أصوات الخارج إلى إجمالي الأصوات الخاصة بكل حزب، لم يتمكن حزب "اليسار الأخضر" من الحفاظ على مرشحه من المرتبة الخامسة في أورفا، والمرشح الرابع في باتمان، إلى البرلمان، بينما لم يتمكن من انتخاب أي نائب في ولاية أديامان.
وانتقل الموقف البرلماني المفقود لحزب اليسار الأخضر في باتمان إلى المتحدث باسم "هدى بار" الكردي وحليف حزب العدالة والتنمية في تحالف "الشعب" سيركان رامانلي، وفي أورفا ذهب المقعد لمرشح حزب العدالة والتنمية فاروق بينارباشي؛ لم يتمكن حزب اليسار الأخضر من الحصول على نائب في أديامان بسبب أصوات ناخبي الخارج.
لماذا تخسر المعارضة تصويت الأتراك في الخارج؟
ويرى الدكتور إفران بالتا أستاذ العلاقات الدولية في جامعة "أوز يغين" التركية أن غالبية أصوات الخارج تأتي من قبل النساء اللائي تتراوح أعمارهن بين 50 و64 عاماً ويبدين اهتماماً أكبر بالانتخابات.
وبحسب الهيئة العليا للانتخابات تجاوزت نسبة مشاركة هذه المجموعة في انتخابات 2018 نحو 70%، بينما كانت أقل نسبة مشاركة بين سن 18-34 للناخبين.
وأضاف إفران في حديثه لـ"عربي بوست" أن المعارضة التركية فشلت في جذب هذه الشريحة والاهتمام بالرسائل الانتخابية التي تحفزها للتصويت له في كل الاستحقاقات الانتخابية السابقة وحتى الحالية.
وإلى ذلك يضيف بالتا أن المجموعة الأولى التي تهتم بالمشاركة في الانتخابات التركية وتظهر اهتماماً بها؛ تحسب على مجموعات الجيل الأول الذي هرب من تركيا بسبب الاضطهاد الذي تعرضوا له في الفترات السابقة.
وتابع أستاذ العلاقات الدولية أن تلك المجموعات تتمسك بخصائصها المحافظة من خلال تعزيز روابطها واتصالاتها ببعضها، خاصة تلك التي تأتي من ريف الأناضول كعمال مؤقتين إلى بلدان مثل ألمانيا والنمسا وهولندا وفرنسا وبلجيكا.
السياسية الخارجية
من جانبه يرى الباحث التركي داغان إييراك أن السياسة الخارجية التي يتبعها الرئيس التركي رجب طيب أردوغان باتت مفضلة لدى شريحة الناخبين الأتراك في الخارج؛ خاصة في ظل الخدمات المقدمة لهم في القنصليات والممثليات التركية في الدولة الأجنبية.
وأضاف الباحث التركي في حديثه لـ"عربي بوست" أن برنامج السياسة الخارجية الذي أعلنه مرشح تحالف الأمة المعارض كمال كليجدار أوغلو بالتوجه نحو الغرب وتنفيذ رؤيته في السياسة التركية لم يرضِ طموح هذه الفئات، التي عاشت في ظل زعيم يعمل على تحرير بلاده من التبعية لأي محور كان.
وتابع إييراك أن هناك خطة عمل متناغمة تبناها العدالة والتنمية للتعامل مع ناخبي الخارج على عكس المعارضة، مشيراً إلى أن الحزب الحاكم يقوم بعمل منظم للغاية في دولة ألمانيا التي تضم أكبر عدد من الناخبين الأتراك في الخارج.
وأوضح الباحث التركي أن الحكومة الألمانية لم تسمح بفتح لجان انتخابية في مدينة دورتموند، فبدأ الحزب على الفور في توفير وسائل نقل لإحضار الناخبين إلى اللجان الانتخابية في أقرب مدن لهم.
وتابع إييراك أن وزراء الحزب لم يتوقفوا عن زيارة الجالية التركية في أوروبا قبل وأثناء الانتخابات التركية في الجولة الأولى، وهو الأمر الذي غفلت عنه المعارضة التركية.
لا يوجد سبب للتغيير
وبحسب النسخة التركية من موقع يورو نيوز، فإن الأوضاع الداخلية في تركيا قد تؤثر على ناخبي الداخل من حيث ارتفاع الأسعار ونسب التضخم… إلى آخره، ولكن الأمر بحسب تقرير للموقع الأوروبي لن يؤثر في الناخب الخارجي، ومع تركيز المعارضة على احتياجات الناخب الداخلي فقط؛ خسرت المعارضة الكثير من أصوات الخارج.
وأضاف تقرير الموقع أن أردوغان نجح ولا يزال في مناشدة مشاعر ناخبي الخارج وربطهم بقضايا تركيا الداخلية والخارجية، حتى بات مناصروه في كل مكان يتباهون على سبيل المثال بتسليم أول سيارة محلية الصنع تنتجها تركيا بإمكاناتها المحلية منذ عقود.
ويرى الموقع أنه لم يكن من قبيل المصادفة أن يذهب وزير الخارجية التركي مولود تشاووش أوغلو إلى العاصمة النمساوية فيينا بسيارة TOGG، وحديثه مع نظيره النمساوي أنه سيتم تصدير السيارة التركية إلى أوروبا خلال الفترة القادمة.
ويختم الموقع تقريره بأنه يبدو أن أنصار أردوغان في أوروبا ليس لديهم سبب لتغيير رأيهم؛ في حين أن المعارضة التركية لم تكن قادرة على إطلاق حملات سياسية جيدة التنظيم في أوروبا لزيادة إقبال الناخبين في الخارج إلى صفوفها.