على مدى السنوات العشرين الماضية، اندلعت 16 جولة قتال بين إسرائيل والفصائل الفلسطينية في غزة، ورغم ذلك تزداد قوة الفصائل، فهل اختلف الأمر في معركة غزة الأخيرة؟
وادعى رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، الأحد 21 مايو/أيار، أنه في الأيام الخمسة من معركة غزة التي تسميها إسرائيل عملية الدرع والسهم، "قام الاحتلال بتغيير المعادلة".
نتنياهو على خطى "إذاعة صوت العرب"
ولكن صحيفة Haaretz الإسرائيلية علقت بالقول: "يذكرنا تفاخر نتنياهو بـ"صوت العرب"، المحطة الإذاعية في القاهرة التي بثت دعاية باللغة العبرية للإسرائيليين في القرن الماضي. أعلن مذيع القناة ذات مرة: "قواتنا تتقدم على جميع الجبهات".
لم يتغير شيء بالنسبة لقطاع غزة. تفتخر المؤسسة العسكرية الإسرائيلية بإنجازات هامشية تنعكس بشكل أساسي في النجاحات الاستخباراتية والعملياتية. قال مُنظِّر الحرب كارل فون كلاوزفيتز في كتابه "عن الحرب"، منذ حوالي 200 عام، إن كل حرب يجب أن يكون لها هدف سياسي استراتيجي، وإن "الحرب هي استمرار للسياسة بوسائل أخرى".
حسناً، من الصعب أن نرى كيف تحسن وضع إسرائيل ومكانتها بفضل العملية، أو أنها أسفرت عن أية إنجازات ذات أهمية استراتيجية.
الجهاد الإسلامي منظمةٌ صغيرة من حوالي 9 آلاف عضو نشط، حوالي 6000 منهم من المقاتلين، ومعظمهم في غزة. لها هوية ثلاثية: فلسطينية، وإسلامية سنية، وحليفة لإيران. ويقع مقر قيادتها في بيروت، ويزعم الإسرائيليون دون دليل أنها تتلقى تعليمات من فيلق القدس التابع للحرس الثوري وحزب الله.
ويفاقم كونها منظمةً صغيرة من الفشل الاستراتيجي لإسرائيل في معركة غزة الأخيرة، حسب صحيفة Haaretz.
فعلى عكس حزب الله وحماس، فإن حركة الجهاد الإسلامي ليست مسؤولة عن السكان الذين تعمل بينهم. لذلك يمكنها أن تتحمل تحدي إسرائيل، حتى لو عوقبت وتعرضت لضربات قاسية.
خسائر إسرائيل والجهاد من معركة غزة الأخيرة
يؤيد تحديد الأرقام هذه النظرية. تسببت عملية الدرع والسهم في فرار آلاف السكان من المجتمعات المحلية القريبة من حدود غزة، وعرقلت حياة حوالي مليوني إسرائيلي. تكبد الاقتصاد خسائر بالمليارات، لا ينبغي أن يكون هذا مصدر فخر لإسرائيل.
أطلقت حركة الجهاد الإسلامي 1468 صاروخاً وقذيفة هاون. وسقط حوالي 290 منها (نحو 20%) داخل قطاع غزة. من بين تلك الصواريخ التي تعبر الحدود إلى إسرائيل، سقط حوالي 55% في مناطق مفتوحة، لذلك تجاهلتهم القبة الحديدية. حوالي 45% منها كانت في طريقها إلى أهدافها، واعتُرِضَ حوالي 95% منها.
وهذا يعني أن جهاز الدفاع الجوي أطلق ما لا يقل عن 500 صاروخ اعتراض. سعر كل صاروخ حوالي 70 ألف دولار. وهذا يعني أن تكلفة جميع صواريخ الاعتراض التي أُطلِقَت خلال العملية تبلغ نحو 35 مليون دولار. أضف إلى ذلك مليون دولار أخرى، تكلفة صاروخ مقلاع داود الذي أُطلِقَ للتحقق من قدرته التشغيلية لأول مرة. بشكل عام، كلّف كل يوم حرب في غزة، إسرائيل، أكثر من 50 مليون دولار. أدت 5 أيام من الحرب مباشرة إلى خسارة أكثر من 250 مليون دولار، أو مليار شيكل.
قدَّر مصدر أمني أنه قبل القتال الأخير، كان لدى الجهاد الإسلامي حوالي 6 آلاف صاروخ، وأنها أهدرت 30% منها. إذا أضفنا إلى ذلك الصواريخ التي دمرتها الغارات الجوية على المستودعات ومواقع الإطلاق، يمكننا أن نخمن أن المنظمة فقدت حوالي 40% من ترسانتها الصاروخية.
حماس أدارت غرفة قتال مشتركة مع الجهاد، ووجهت لها نصائح ولكنها لم تشارك
مما لا شك فيه أن الجزء الأكثر إثارة للاهتمام في معركة غزة الأخيرة (عملية الدرع والسهم) كان سلوك حماس. وصفها أحد كبار الضباط السابقين في جيش الدفاع الإسرائيلي بأنها "لعبة مزدوجة". من ناحية، أدارت حماس والجهاد الإسلامي غرفة حرب مشتركة أثناء القتال، ونصحت حماس الجهاد باتخاذ قرارات مختلفة مثل كيف ومتى تطلق صواريخها.
في المقابل، حماس لم توجه النيران، ولم تقدم صواريخ من ترسانتها، ولم تنضم إلى الحملة نفسها، ولم تذرف الدموع على الضربة القاسية التي تلقتها حركة الجهاد الإسلامي.
السبب الرئيسي لبقاء حماس خارج القتال كان استراتيجياً. تفضل قيادة حماس في غزة والضفة الغربية وأماكن أخرى الحفاظ على الإنجازات المهمة التي حققتها في صراع 2021 بين إسرائيل وقطاع غزة وتعزيزها، رغم الاختلافات في مزاج أعضائها. وأحد الإنجازات كان الحصول على صورة المدافع عن القدس والمسجد الأقصى، ذلك الإنجاز الذي يكتسب ببطء الشرعية في العالم العربي.
لهذه الأسباب لم تشارك حماس في القتال
منذ صيف 2021، تحافظ حماس بشق الأنفس على الهدوء مقابل دخول 23 ألف عامل من غزة إلى إسرائيل يومياً. هذا ترتيب يساعد على التخفيف من المحن والظروف المعيشية القاسية لنحو مليوني ساكن مكتظين في أقل من 400 كيلومتر مربع. في غضون ذلك، تساعد قطر، وبدرجة أقل تركيا، مالياً في إعادة إعمار القطاع. وتسمح إسرائيل ومصر بنقل الوقود والإمدادات والمواد الغذائية ومواد البناء والمعدات الطبية وغيرها من المواد عبر المعابر الحدودية أيضاً.
سبب آخر لصبر حماس يتعلق بالرئيس الفلسطيني محمود عباس؛ ترى قيادة حماس أن حسين الشيخ، المرشح الرئيسي لتولي السلطة من عباس، شخصية ضعيفة.تزعم الصحيفة الإسرائيلية أن حماس تعتقد أنه عند الضرورة ستكون قادرة على السيطرة على الضفة الغربية وطرد فتح، كما فعلت في غزة عام 2007. مثل هذه الخطوة ستجعل حماس زعيمة جميع الفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزة.
تقول الصحيفة الإسرائيلية: "كان استهداف وقتل 6 ناشطين بارزين في الجهاد الإسلامي -قال التنظيم في بيان إن 11 من عناصره قد قُتِلوا- أعظم إنجاز لإسرائيل في الحرب الأخيرة. لكنه مجرد إنجاز تكتيكي. وتعتبر أنه كان أكبر خطأ إسرائيل في معركة غزة الأخيرة، هو التخلي عن سياسة أن حماس هي القوة السيادية في غزة، وبالتالي فهي تتحمل المسؤولية عن أية هجمات تنشأ هناك، حسب زعمها.
في الماضي، مقابل كل إطلاق صاروخ أو هجوم من قبل الجهاد الإسلامي أو أي منظمة أصغر، كانت إسرائيل تتصرف مباشرة ضد حماس. هذه المرة، تحركت فقط ضد الجهاد الإسلامي. وقال المصدر الأمني: "هذا خطأ كبير جداً من جانب حكومة نتنياهو".
ترى الصحيفة أنه خلاصة القول هي أنه مع انتهاء معركة غزة، من الواضح أن إسرائيل ليست لديها استراتيجية وسياسة شاملة لغزة، وهي تواجه صعوبة في العمل حتى ضد منظمة صغيرة مثل الجهاد الإسلامي.
كان غياب السياسة أوضح هذه المرة في معركة غزة، لأن نتنياهو امتنع عن عقد مجلس الوزراء الأمني، كما كان معتاداً في الماضي. كان السبب واضحاً. نتنياهو لا يثق في إيتمار بن غفير وبتسلئيل سموتريتش -ليس فقط لأنهما يفتقران إلى الخبرة، ولكن أيضاً لأنه يخشى أن يسربا معلومات من مناقشات الحكومة.
في الواقع، قد يُقال إن حكومة نتنياهو السادسة أصبحت أكبر تهديد لأمن إسرائيل القومي.