قبل دخول الهدنة حيز التنفيذ في السودان، اشتعل الموقف على الأرض وسط محاولات مكثفة من قوات حميدتي للسيطرة على قاعدة وادي سيدنا الجوية، فما أهمية تلك القاعدة بالنسبة لمعركة الخرطوم؟
كان السودان قد شهد، منذ يوم 15 أبريل/نيسان، انفجاراً عنيفاً في الموقف المتوتر بين الرجلين القويين المتنافسين على السلطة في البلاد: الجنرال عبد الفتاح البرهان، الحاكم الفعلي للبلاد وقائد القوات المسلحة السودانية، والجنرال محمد حمدان دقلو، المعروف على نطاق واسع باسم حميدتي، الذي يقود قوات الدعم السريع، حيث بدأت حرب شوارع في الخرطوم، ثم امتدت إلى جميع أنحاء البلاد.
ورغم الإعلان عن نجاح الوساطة السعودية-الأمريكية في التوصل إلى هدنة بين الطرفين، مدتها أسبوع وتبدأ من مساء الإثنين 22 مايو/أيار، إلا أن حدة القتال اشتدت بشكل لافت منذ السبت 20 مايو/أيار، ودوت ضربات جوية وضربات مدفعية قد تكون الأعنف منذ بداية الصراع بين طرفي الصراع السوداني في العاصمة الخرطوم، فماذا يحدث؟
السيطرة على قاعدة "وادي سيدنا"
أفاد شهود بأن الجيش السوداني يقاوم محاولة قوات الدعم السريع التقدم نحو قاعدته الجوية الرئيسية بالقرب من العاصمة الخرطوم، وهي قاعدة وادي سيدنا، التي يستخدمها الجيش لشن ضربات جوية على قوات الدعم السريع، كما كانت الحكومات الأجنبية تستخدم القاعدة نفسها لإجلاء مواطنيها في وقت مبكر من الصراع، بحسب تقرير لهيئة الإذاعة البريطانية BBC.
كان الجيش وقوات الدعم السريع قد أعادا، الأحد، تأكيد التزامهما بالهدنة في بيانين منفصلين، رغم تواصل القتال. وأفاد شهود بوجود قتال متقطع في وسط العاصمة الخرطوم وجنوبها أعقبته ضربات جوية وإطلاق نيران مضادة للطائرات في وقت لاحق من اليوم في شرق الخرطوم وأم درمان اللتين تكونان مع مدينة بحري ولاية الخرطوم.
ويتمركز مقاتلو الدعم السريع في حوالي 20 شاحنة شرق النيل، ويحاولون عبور جسر للوصول إلى مطار وادي سيدنا، ورد الجيش السوداني بقصف مدفعي ثقيل، ويستمر القتال منذ عدة أيام لكن وتيرته تصاعدت.
وقال أحد السكان في ضاحية خوجلي في بحري "يبدو وكأنه يوم القيامة منذ وقت مبكر من صباح يوم الأحد. أعتقد أنهم سيعذبوننا قبل أن يدخل وقف إطلاق النار هذا حيز التنفيذ".
وفي مؤشر على عدم ثقتهم باتفاق وقف إطلاق النار الأخير، تواصل حافلات السكان الفرار من الخرطوم والمدن الأخرى عبر نهر النيل وبحري وأم درمان، حيث لم يتوقف القتال.
وقال معظم الأشخاص الذين تحدثت إليهم الشبكة البريطانية في الخرطوم إن وقف إطلاق النار لن يستمر إلا إذا تم نشر مراقبين دوليين، بدعم من قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة.
وتعد السيطرة على قاعدة وادي سيدنا الجوية مفتاح نجاح أو فشل أي انقلاب عسكري في السودان، وبدون تحييدها لا يمكن إخضاع العاصمة الخرطوم، واليوم تلعب قاعدة وادي سيدنا الجوية، دوراً استراتيجياً في المعارك الدائرة بين الجيش وقوات الدعم السريع، كما لعبته طيلة نصف قرن مضى، بحسب تقرير لوكالة الأناضول.
فقاعدة وادي سيدنا الجوية، التي تقع شمالي أم درمان، على بعد 22 كلم من مركز العاصمة السودانية الخرطوم، تضم مطاراً مدنياً، وبالمحاذاة منها تقع الكلية الحربية بمعاهدها المتخصصة مثل المشاة والمظليين، وأيضاً "مجمع الصافات للتصنيع العسكري"، المتخصص في الصيانة والصناعة والتطوير والتحديث لمختلف أشكال الطائرات المدنية والعسكرية.
وتلعب قاعدة وادي سيدنا الجوية، الدور الأبرز في هجمات الجيش على قوات الدعم السريع، وخاصة معسكرات القوات داخل الخرطوم الكبرى (نحو 11 معسكراً)، ونقاط تمركزها بالمحاور الاستراتيجية وبالأخص رؤوس الجسور، التي تربط مدن العاصمة الثلاث (الخرطوم، خرطوم بحري، أم درمان).
كما استهدفت المقاتلات والمروحيات الهجومية المنطلقة من قاعدة وادي سيدنا، خطوط إمداد قوات الدعم السريع القادمة من إقليم دارفور وولاية شمال كردفان، باتجاه الخرطوم على طول نحو 1000 كلم. فطول خطوط الإمداد وانكشافها أمام الطيران إحدى نقاط الضعف الرئيسية لقوات الدعم السريع، والتي أعاقت إحكام سيطرتها على العاصمة.
لماذا لم تسيطر قوات حميدتي على "وادي سيدنا"؟
في بداية الصراع، لعبت قاعدة وادي سيدنا الجوية دوراً بارزاً في إجلاء دبلوماسيين ورعايا أجانب من نحو 40 جنسية، بينهم أتراك وأمريكيون وبريطانيون ومصريون وألمان، ما أبرز أهميتها الاستراتيجية.
لكن تعرض طائرة إجلاء تركية لإطلاق نار، أدى إلى توقف عمليات الإجلاء بالقاعدة، رغم أنها كانت الطريق الأكثر أمناً مقارنة بطريق الخرطوم ـ بورتسودان (800 كم/ شرق).
ولأنها أكبر قاعدة جوية في السودان، وتمثل مفتاح نجاح أي انقلاب عسكري، وعبرها وجه الجيش أعنف الضربات الجوية لقوات الدعم السريع، فمن الطبيعي أن تكون هدفاً رئيسياً لقوات حميدتي، خصوصاً أنها قريبة من مواقع انتشارها في أم درمان.
لكن المفارقة هنا هي أن قوات الدعم السريع، مع بداية هجومها، كان هدفها الأول السيطرة على المطارات والقواعد الجوية، على غرار قاعدة مروي الجوية في الولاية "الشمالية"، ومطار الخرطوم الدولي، ثم مطار نيالا، بولاية جنوب دارفور (غرب)، بينما أخفقت في السيطرة على قاعدة الفاشر الجوية، بولاية شمال دارفور (غرب)، وعلى قاعدة الأُبيِّض الجوية في شمال كردفان (وسط).
وأبرزت صفحات منسوبة للجيش السوداني على شبكات التواصل الاجتماعي أن قوات الدعم السريع كانت تستعد لمهاجمة قاعدة وادي سيدنا، انطلاقاً من معسكر كرري، في شمال أم درمان، والذي لا يبعد سوى بضعة كيلومترات عن القاعدة، ويضم نحو 5 آلاف مقاتل.
لكن طيران الجيش السوداني باغت قوات الدعم السريع في معسكر كرري بقصف كثيف عبر 10 طائرات هجومية، وفق وسائل إعلام عربية، ما أدى إلى انسحاب عناصرها من المعسكر، وسيطرة الجيش عليه. وبثت صفحات مقربة من الجيش فيديوهات قالت إنها لقوات الجيش داخل معسكر كرري بعد انسحاب قوات الدعم السريع منه.
وسرعة تحرك الجيش في قصف معسكر كرري قبل تحرك قوات الدعم السريع للاستيلاء على قاعدة وادي سيدنا، تعكس أنه كان يستعد مسبقاً لمثل هذا السيناريو. سقوط قاعدة وادي سيدنا الجوية، بيد قوات الدعم السريع كان من شأنه تغيير مجرى المعارك في الخرطوم، بالنظر للدور الذي تلعبه حالياً في الميدان.
وفي هذا الصدد، نقلت شبكة قناة الجزيرة، عن مسؤول عسكري لم تسمه، قوله إن "متمردي الدعم السريع حاولوا 3 مرات اقتحام قاعدة وادي سيدنا لتدميرها وإخراجها من الخدمة، لكنهم فشلوا وجرى دحرهم وتكبيدهم خسائر فادحة، كما سعوا إلى قصفها من مواقع بعيدة ولم يفلحوا في ذلك".
مفتاح السيطرة على عاصمة السودان
يبذل الجيش السوداني كل ما في وسعه حتى لا يفقد السيطرة على قاعدة وادي سيدنا، لأنها مفتاح لاستراتيجيته العسكرية المتمثلة في قصف قوات الدعم السريع من الجو، بينما يقاتل لاستعادة السيطرة على الخرطوم والمدينتين الأخريين. وبالتالي فإنه أمر أساسي لتلك الاستراتيجية أن تظل السيطرة على القاعدة للجيش قبل أن يدخل وقف إطلاق النار حيز التنفيذ هذه المرة.
فعلى الرغم من عدم التزام طرفي الصراع بأي من اتفاقيات الهدنة السابقة، إلا أن الأمر يبدو مختلفاً هذه المرة، فبنود الاتفاق الموقع في جدة محددة وتشمل آلية مراقبة يشارك فيها مراقبون من السعودية والولايات المتحدة الأمريكية وممثلون عن طرفي الصراع. وما إن يدخل وقف إطلاق النار حيز التنفيذ، أي طرف يسعى لتحقيق مكاسب ميدانية ربما يجد نفسه معرضاً لعقوبات صارمة قد تكلفه خسارة الحرب بشكل نهائي. فوفقاً لنص اتفاق جدة، ستتولى لجنة مؤلفة من ثلاثة ممثلين عن كل من طرفي الصراع وثلاثة أعضاء من السعودية ومثلهم من الولايات المتحدة مراقبة وقف إطلاق النار.
ويقول محللون إنه لم يتضح ما إذا كان باستطاعة قائد الجيش الفريق أول ركن عبد الفتاح البرهان أو قائد قوات الدعم السريع محمد حمدان دقلو، المعروف باسم حميدتي، تنفيذ وقف إطلاق النار على الأرض.
وقاعدة وادي سيدنا مؤمنة شرقاً عبر نهر النيل، وأقرب جسر منها للعبور من ضفة خرطوم بحري إلى ضفة أم درمان يقع جنوب المنطقة العسكرية بوادي سيدنا، ويدعى جسر حلفايا، ويخضع لسيطرة الجيش، ما يصعب أكثر من قدرة قوات الدعم السريع على المناورة لاستهداف القاعدة الجوية.
فبعد خروج مطار الخرطوم الدولي من الخدمة بسبب الاشتباكات، وكذلك اقتحام قوات الدعم السريع لقاعدة جبل أولياء (جنوب الخرطوم) التي تستخدم كمهبط للمروحيات، فإن قاعدة وادي سيدنا، أصبحت المنفذ الجوي الوحيد للعاصمة نحو الخارج.
وجعل هذا الوضع الجديد دور قاعدة وادي سيدنا استراتيجياً وحيوياً على أكثر من صعيد، خاصة مع احتمال طول أمد الحرب، وحاجة أطراف الصراع لدعم خارجي بالأسلحة والذخائر.
كانت الأهمية الاستراتيجية لقاعدة وادي سيدنا قد برزت منذ إنشائها عام 1967، عندما استخدمت كقاعدة خلفية لاستقبال وتأمين الطائرات الحربية المصرية في حرب الستة أيام من نفس السنة، عندما تعرضت القواعد الجوية المصرية لغارات إسرائيلية شاملة.
كما برزت قاعدة وادي سيدنا في الانقلابين العسكريين الناجحين اللذين قادهما كل من العقيد جعفر نميري عام 1969، والعقيد عمر حسن البشير في عام 1989. وكانت قاعدة وادي سيدنا، ضمن النقاط المستهدفة فيما يعرف بـ"عملية المرتزقة" عام 1976، التي حاول فيها النظام الليبي بزعامة معمر القذافي، الإطاحة بنظام نميري في السودان، عبر تدريب مجموعات من المعارضة السودانية، ووضع خطة للسيطرة على الخرطوم.
إبراهيم خليل، زعيم حركة العدل والمساواة المتمردة في دارفور، وضع هو الآخر، قاعدة وادي سيدنا الجوية، ضمن أهدافه للسيطرة على العاصمة، عندما زحف من معاقله البعيدة في الإقليم عام 2008. وقسّم خليل، قواته إلى ثلاثة فرق، الأول قاده نحو الخرطوم، والثاني نحو مقر الإذاعة والتلفزيون بأم درمان، والثالث توجه نحو المنطقة العسكرية بوادي سيدنا.
فقاعدة وادي سيدنا، كانت دوماً هدفاً للطامحين والطامعين في حكم الخرطوم، ومنها بسط السيطرة والنفوذ على كامل البلاد، بالنظر إلى الطابع المركزي للدولة. فبدون السيطرة على قاعدة وادي سيدنا الجوية، لن تتمكن قوات الدعم السريع من إحكام قبضتها على العاصمة الثلاثية، حتى ولو سيطرت على كامل مقرات القيادة العسكرية والقصر الجمهوري والإذاعة والتلفزيون، ومطار الخرطوم، ومهبط المروحيات بجبل أولياء.
ويدفع السيناريو لتوقع أن تحاول قوات الدعم السريع تكثيف محاولاتها للسيطرة على قاعدة وادي سيدنا الجوية، وإلا فإنها ستتعرض للاستنزاف من حيث الذخائر والوقود، وبدرجة أقل المؤن.
ومنذ بداية الصراع، فر 1.1 مليون شخص من ديارهم، سواء داخل البلاد أو إلى الدول المجاورة، مما أجج أزمة إنسانية تهدد بزعزعة استقرار المنطقة. ويكابد أولئك الذين بقوا في الخرطوم من أجل البقاء وسط جرائم النهب المستشرية وانهيار الخدمات الصحية وتناقص إمدادات الغذاء والوقود والكهرباء والمياه.
وقالت صفاء إبراهيم (35 عاماً)، وهي موظفة في شركة وتعيش في الخرطوم، لرويترز عبر الهاتف إنها تأمل في أن ينهي اتفاق جدة هذا الصراع: "نتمنى نجاح هذا الاتفاق، تعبنا من هذه الحرب وتشردنا من منازلنا إلى خارج الخرطوم وتشتتت الأسرة بين مدن السودان ومصر.. نريد أن نعود للحياة الطبيعية والأمان. على البرهان وحميدتى أن يحترما رغبة الناس في الحياة".