أثار ما فعلته الشرطة الفرنسية بالمحتجين على عتبة مهرجان كان للأفلام تساؤلات جدية حول هل باتت فرنسا على شفا الاستبداد؟
كان الوضع يسير كالمعتاد، بعد ظهر يوم الجمعة 19 مايو/أيار، داخل بهو فندق كارلتون، الفندق الفخم من فئة الخمس نجوم الذي يستضيف غالباً ضيوفاً بارزين خلال مهرجان كان السينمائي.
كان الضيوف يرتدون ملابس أنيقة وينقرون على هواتفهم، بينما يتدفق الوافدون الجدد من سيارات الدفع الرباعي الجذابة. وانتشرت همسات عن مؤتمر صحفي قادم لفيلم إنديانا جونز الجديد.
لكن في الوقت الذي ظهر فيه هاريسون فورد داخل إحدى غرف المؤتمرات بالفندق، دار مشهد مختلف تماماً على الدرجات الأمامية للمبنى، حسبما ورد في تقرير لموقع The Daily Beast الأمريكي.
احتجاجات على عتبة مهرجان كان
فقد رفع بضع عشرات من العمال من الفنادق والمطاعم المحلية لافتة ضد قانون الحكومة الفرنسية الأخير لرفع سن التقاعد، وتعاملوا مع أسئلة من الصحافة قبل أن يهتفوا ضد الإصلاح الذي لا يحظى بشعبية.
وقال زكريا رامي، موظف الاستقبال البالغ من العمر 49 عاماً، الذي عمل لمدة 20 عاماً في فندق كارلتون، لموقع The Daily Beast إنه جاء ليسلّط الضوء على ظروف العمل الصعبة في القطاع وساعات العمل الشاقة. وأضاف: "أعمل في نوبات ليلية، واقفاً على قدمي، ونطالب أيضاً بتعويض أفضل عن ظروف العمل الصعبة التي نعيشها".
وكان تجمع يوم الجمعة، 19 مايو/أيار، غير معتاد للغاية لسبب آخر: فقد حوصر التجمهر في ملكية الفندق، وأحاطت بالمتظاهرين حلقة من الحواجز الفولاذية تفصلهم عن الرصيف العام على طول شارع كروازيت الشهير. ويرجع هذا لأنه طوال فترة مهرجان كان التي تستمر أسبوعين، حظرت الشرطة المحلية جميع الاحتجاجات داخل منطقة واسعة محددة في وسط مدينة كان، مستشهدة "بالتهديدات المزعومة للنظام العام". ويخاطر المخالفون بدفع غرامة قدرها 135 يورو (145 دولاراً).
وقالت سيلين بيتي، مسؤولة نقابية في منظمة الكونفدرالية العامة للشغل، لموقع The Daily Beast، بينما تشارك في التظاهر: "إنه أمر مثير للسخرية تماماً أننا لا نستطيع الوصول لأماكن عامة وتنظيم مسيرات على الكروازيت. لكن من المهم للغاية الاحتجاج في مهرجان كان لإبراز مطالبنا".
وكما هو الحال مع أي حشد في مدينة كان، اجتذب بحر الأعلام الحمراء فضول المارة، لكن الكثير منهم أكملوا طريقهم المبتهج عندما أدركوا أنه لا يوجد نجوم سينما في المشهد.
قادة الشرطة يقيدون الحق الدستوري للاحتجاح
ويُعَد حظر الاحتجاج في مدينة كان بالتزامن مع فعاليات مهرجان كان، أحد المؤشرات على اتجاه مماثل متزايد. ففي حين أنَّ الحق في الاحتجاج محمي دستورياً في فرنسا، يتجه رؤساء الشرطة في البلاد أكثر فأكثر نحو حظر المظاهرات العامة، مشيرين عادةً إلى مبرر مزعوم بوجود "تهديدات على النظام العام"؛ مما يجبر المحامين على الطعن عليه على عجل في المحكمة، بدرجات متفاوتة من النجاح.
وقال جان بابتيست سوفرون، المحامي والعضو البارز في جمعية الدفاع عن الحريات الدستورية، لموقع The Daily Beast: "إنه لأمر مخزٍ تماماً. هناك حدود للحق في الاحتجاج، لكن قرار الحظر واسع للغاية".
وفي الأسابيع الأخيرة، تراكمت قائمة الأوامر المماثلة؛ إذ أُعلِنَت سلسلة من عمليات الحظر على الاحتجاجات في البلدات التي زارها الرئيس إيمانويل ماكرون -التي ألغتها المحكمة في بعض الحالات- وحُظِرت التظاهرات أيضاً خارج ملعب فرنسا قبل نهائي كأس فرنسا لكرة القدم، الذي أسقطه القضاء أيضاً.
ويمكن القول إنَّ الأبرز بين هذه السلسلة هو حظر الاحتجاجات خلال إحياء ذكرى يوم النصر في الحرب العالمية الثانية في باريس، الذي أيّده القضاء في النهاية؛ مما أدى إلى مشهد سريالي للموكب الرئاسي وهو يتحرك على طول شارع الشانزليزيه الفارغ.
وكما هو الحال في مهرجان كان السينمائي، يقترن هذا الحظر أحياناً بإجراءات تسمح بمراقبة بواسطة الطائرات بدون طيار. قال سيرج سلامة، أستاذ القانون في جامعة غرونوبل ألب، وهو أيضاً عضو في جمعية الدفاع عن الحريات الدستورية، لموقع The Daily Beast: "صدور هذا العدد من الإجراءات في مثل هذه الفترة القصيرة من الزمن غير عادي".
وأضاف سلامة: "إذا كنت تريد فهم جذور ما يحدث الآن في مهرجان كان، فعليك العودة إلى أحداث 2015
و2018 و2020، فحينها طور مسؤولو الشرطة هذا الإدمان على استخدام سلطتهم لتجريم الاحتجاجات"، في إشارة إلى ظهور حركة السترات الصفراء الاحتجاجية وإعلان حالة الطوارئ في المراحل الأولى من وباء "كوفيد-19".
ما يحدث يذكر بمنع الجزائريين من التظاهر خلال حرب الاستقلال
هناك القليل من السوابق على نشر الشرطة الفرنسية المنهجي لقرارات حظر الاحتجاج كما هو الحال اليوم. كما قال أستاذ القانون أوليفييه كان، في مقابلة أجراها مؤخراً مع صحيفة Le Monde، فإنَّ الحقبة الوحيدة التي يمكن مقارنتها مع ما يحدث حالياً هي الحرب الجزائرية، عندما أصدرت السلطات الفرنسية حظراً للاحتجاج على الجزائريين الذين يعيشون في فرنسا. (وفي ذلك الوقت، كان مدير شرطة باريس هو موريس بابون، الذي أُدِين لاحقاً بالتواطؤ في جرائم ضد الإنسانية لدوره في تنظيم ترحيل اليهود خلال الحرب العالمية الثانية).
موجة القيود والاعتقالات تثير تساؤلات حول انزلاق فرنسا للاستبداد
وتثير موجة القيود الحالية، ومعها ممارسات أخرى مثل الاعتقالات الجماعية وعنف الشرطة وزيادة المراقبة، قلقاً متزايداً بشأن الحالة العامة للديمقراطية الفرنسية. وتحولت مسألة ما إذا كانت فرنسا في خضم "انزلاق نحو الاستبدادية" إلى موضوع نقاش مثير في وسائل الإعلام الرئيسية.
من جهته، قال المحامي جان بابتيست سوفرون، إنه يفضل مصطلح "الأسلوب الاستبدادي" لوصف تعامل الحكومة مع المعارضة.
وأضاف: "لا أحب كلمة منحدر هبوطي.. هذا ليس ما يحدث. ما يحدث هو أننا نواجه أسلوباً لا يحترم القوى الموازية".
كما انتقد فابيان غوا، الباحث بمنظمة العفو الدولية المقيم في فرنسا، السلطات لتقويضها الحق في الاحتجاج في مدينة كان وأماكن أخرى.
وصرح غوا لموقع The Daily Beast: "بعض مبررات تقييد الاحتجاجات أو حظرها، التي ذكرها مسؤولو الشرطة مؤخراً، تشبه في كثير من الأحيان مختبراً للتجارب؛ مما يشير إلى أنَّ السلطات الفرنسية لديها أولوياتها مشوهة عندما يتعلق الأمر بالوفاء بواجبها لتسهيل الحق في التجمع السلمي".
وبرغم الانزعاج من موجة الحظر، شدد سيرج سلامة على أنَّ الديمقراطية الفرنسية لا تزال بعيدة عن أن تشبه نظيراتها في بولندا أو المجر. وقال: "نحن لم نصل بعد إلى هذا المستوى. لا يزال لدينا الكثير من الحماية. ولحسن الحظ، هناك مجتمع مدني، وصحافة حرة، والقدرة على اللجوء إلى القضاة، وإسقاط قرارات الحظر في المحكمة".
ومن المرجح أن تظهر هذه المعارضة من المجتمع المدني مرة أخرى في شوارع مدينة كان. إذ تخطط النقابات لتنظيم مسيرة أكبر بكثير خارج منطقة عدم الاحتجاج، يوم الأحد 21 مايو/أيار.
وقالت المسؤولة النقابية سيلين بيتي إنَّ المعارضة تتعلق أيضاً بالعودة إلى جذور مهرجان كان السينمائي، عندما أسهم النقابيون بدور رائد في تنظيمه.
وصرحت بيتي لموقع The Daily Beast يوم الجمعة 19 مايو/أيار: "يجب أن يظل هذا المهرجان شعبياً، ويمكن الوصول إليه، ولا يقتصر فقط على البهرجة والرأسمالية والليبرالية الاقتصادية. لم يعد يتعلق اليوم بالطبقة العاملة، لكن هذا المهرجان يجب أن يكون مفتوحاً أمام الجميع، ولجميع المواطنين".