تحدثت أنباء عن قرب التوصل إلى هدنة بين طرفي الصراع الدامي، الجيش بقيادة البرهان والدعم السريع بقيادة حميدتي، بوساطة سعودية، فماذا يعني ذلك لحاضر ومستقبل السودان؟
كان السودان قد شهد، منذ يوم 15 أبريل/نيسان، انفجاراً عنيفاً في الموقف المتوتر بين الرجلين القويين المتنافسين على السلطة في البلاد: الجنرال عبد الفتاح البرهان، الحاكم الفعلي للبلاد وقائد القوات المسلحة السودانية، والجنرال محمد حمدان دقلو، المعروف على نطاق واسع باسم حميدتي، والذي يقود قوات الدعم السريع؛ حيث بدأت حرب شوارع في الخرطوم، ثم امتدت إلى جميع أنحاء البلاد.
وعلى الرغم من الإعلان عن أكثر من هدنة، كان آخرها لمدة 72 ساعة اعتباراً من الثلاثاء 25 أبريل/نيسان، بهدف إفساح المجال أمام الدول الغربية والعربية والآسيوية لإجلاء رعاياها من البلاد، إلا أنه لا توجد مؤشرات على استعداد أي من الطرفين للاستماع إلى صوت العقل وتجنيب البلاد شرور صراع ممتد لا أحد يمكنه التنبؤ بنهايته.
أنباء عن "تقدم" في مفاوضات جدة السعودية
مساء الأربعاء 10 مايو/أيار والساعات الأولى من الخميس حملت أنباء جيدة تفيد باقتراب الطرفين المتحاربين من الاتفاق على وقف لإطلاق النار خلال محادثاتهما بالسعودية. وبعد جمود استمر لأيام على ما يبدو، حيث بدأت المفاوضات بين الوفدين في مدينة جدة السعودية، قال مصدر من الوساطة لرويترز الأربعاء إن المفاوضات أحرزت تقدماً، ومن المتوقع التوصل إلى اتفاق على وقف إطلاق النار قريباً، وقال مصدر آخر مطلع على المحادثات إن الاتفاق قريب. واستمرت المحادثات حتى ساعة متأخرة من الليل.
تلك المفاوضات، التي بدأت السبت 6 مايو/أيار بوساطة سعودية وأمريكية، لا تهدف إلى إنهاء الاشتباكات الدامية بشكل دائم والعودة إلى المسار السياسي، بل تهدف بالأساس إلى التوصل لهدنة "إنسانية" تسمح بإيصال المساعدات إلى المحتاجين إليها داخل السودان من جهة، والسماح للراغبين في المغادرة من المدنيين بالخروج الآمن من جهة أخرى.
وهذا ما عبرت عنه فيكتوريا نولاند، وكيلة وزارة الخارجية الأمريكية، إذ قالت للصحفيين إن المفاوضين الأمريكيين "يشعرون بتفاؤل حذر" إزاء الحصول على التزام بالمبادئ الإنسانية ووقف لإطلاق النار، لكنهم يدرسون أيضاً الأطراف التي يمكن استهدافها بالعقوبات ما لم يوافق الفصيلان المتحاربان على ذلك.
وسائل الإعلام السعودية أكدت أيضاً على المعنى نفسه، مشيرة إلى أن البنود الرئيسية للهدنة المتوقعة قد تم التوافق عليها، وفي انتظار الإعلان رسمياً عن الهدنة ومدتها وبنودها حال التوقيع عليها من جانب طرفي الصراع والوسيطين السعودي والأمريكي.
وتمثل هذه الهدنة، بغض النظر عن طابعها، مطلباً ملحاً للغاية في ظل الأوضاع المتردية في السودان، وبخاصة الخرطوم العاصمة، التي أوشكت المرافق فيها على الانهيار التام، وقالت منظمة (الإغاثة الإسلامية عبر العالم) إن العديد من عمليات الإغاثة في دارفور والخرطوم ما زالت معلقة بسبب انعدام الأمن الشديد.
والمنظمة تعتزم تقديم مساعدات لآلاف الأشخاص في ولاية الجزيرة جنوب شرقي الخرطوم التي فر إليها نحو 50 ألف شخص، وكذلك لأشخاص في مناطق من ولاية الخرطوم وشمال كردفان حيث يحتدم القتال.
وعلى الرغم من أن النزاعات المسلحة والحروب الأهلية ليست واقعاً يعيشه السودان للمرة الأولى، إلا أن معظم الاضطرابات التي شهدتها البلاد في السابق كانت تحدث في مناطق نائية، سواء في الجنوب أم في دارفور أو ولايات الشرق، وبالتالي هذه هي المرة الأولى التي تشهد شوارع الخرطوم اشتباكات من هذا النوع.
وفي هذا السياق، يثير الصراع هذه المرة قلق السودانيين بشكل خاص بالنظر لاندلاع قتال عنيف في الخرطوم إحدى أكبر مدن إفريقيا وعاصمة البلد الذي يقع على مفترق طرق استراتيجي بين مصر والسعودية وإثيوبيا ومنطقة الساحل المضطربة. وتتوقع الأمم المتحدة أن 5 ملايين آخرين سيحتاجون إلى مساعدات طارئة داخل السودان، ومن المتوقع أيضاً أن يفر 860 ألفاً إلى الدول المجاورة.
الخرطوم تشهد أعنف اشتباكات منذ اندلاع الصراع
وبالتزامن مع الأنباء الواردة من جدة بشأن قرب التوصل إلى اتفاق بشأن الهدنة، شهدت الخرطوم، مساء الأربعاء، جولة من الاشتباكات وصفتها التقارير الواردة من العاصمة بأنها الأعنف منذ اندلاع الصراع، الذي يقترب من دخول شهره الثاني.
إذ قال شهود لرويترز إن المعارك تصاعدت في العاصمة السودانية، حيث وقعت اشتباكات عنيفة وضربات جوية، وتحدث سكان عن مواجهات على الأرض في عدة أحياء بين طرفي الصراع وتبادل كثيف لإطلاق النيران شمالي أم درمان وشرقي بحري، وهما مدينتان يفصلهما نهر النيل عن الخرطوم.
ويواصل الجيش، منذ الثلاثاء، قصف أهداف في المدن الثلاث في محاولة لإبعاد قوات الدعم السريع التي سيطرت على مناطق سكنية واسعة ومواقع استراتيجية منذ اشتعال الصراع، وقال واحد من سكان حي شمبات بمدينة بحري اسمه أحمد: "ضرب شديد من الساعة 6:30 صباحاً (الأربعاء) طيران وآر.بي.جي. نحن راقدين على الأرض وفي ناس ساكنين قريب مننا جروا على النيل يحتموا هناك".
ومنذ بداية المعارك، تمركزت قوات الدعم السريع داخل أحياء الخرطوم، وأقامت نقاط تفتيش واحتلت مباني حكومية ونشرت قناصة على أسطح المنازل، بينما يحاول الجيش طردها باستخدام الضربات الجوية والمدفعية الثقيلة.
وقالت قوات الدعم السريع في وقت متأخر من الثلاثاء إن القصر الرئاسي التاريخي في وسط الخرطوم تعرض لضربة جوية، وهو ما نفاه الجيش. وللقصر أهمية رمزية، ويقع في منطقة استراتيجية تقول قوات الدعم السريع إنها تسيطر عليها. وأظهرت لقطات صورتها طائرة مسيرة الأربعاء وتحققت منها رويترز المبنى المعروف باسم القصر الجمهوري القديم سليماً على ما يبدو، رغم ظهور دخان يتصاعد من الطرف الجنوبي الشرقي لمجمع القصر.
وتفيد أحدث حصيلة للقتلى من منظمة الصحة العالمية بأن القتال خلف أكثر من 600 قتيل وخمسة آلاف جريح رغم الاعتقاد بأن الرقم الحقيقي أعلى من ذلك بكثير. وقال شهود إنهم رأوا جثثاً متناثرة في الشوارع. وتعطل العمل في معظم المستشفيات، وأدى انهيار القانون والنظام إلى انتشار أعمال النهب، وبدأت إمدادات الوقود والغذاء تنفد.
وقال أحمد علي (25 عاماً)، وهو من سكان الخرطوم لرويترز: "أملنا الوحيد هو أن تنجح المفاوضات في جدة في إنهاء هذا الجحيم والعودة إلى الحياة الطبيعية، ووقف الحرب والنهب والسرقة والفوضى".
وفي هذا السياق، قالت لجنة أمن الخرطوم إنها أوصت، الأربعاء، رئيس مجلس السيادة وقائد الجيش عبد الفتاح البرهان، بإعلان حالة الطوارئ والتعبئة العامة وحظر التجوال في الولاية.
وذكرت اللجنة في بيان، أنها "قررت رفع توصيات عاجلة لرئيس مجلس السيادة القائد العام للقوات المسلحة (البرهان) لإعلان حالة الطوارئ بالولاية وحظر التجوال، وإعلان التعبئة العامة واتخاذ معالجات عاجلة لسد الفجوة في المواد الغذائية والخدمات"، بحسب تقرير للأناضول.
ولجنة أمن الولاية تتبع للعاصمة الخرطوم برئاسة الوالي (الحاكم) أحمد عثمان حمزة، ومهمتها تنحصر في حفظ الأمن، وبحسب البيان، "استعرضت اللجنة تداعيات وإفرازات الحرب الدائرة حالياً بالولاية وتأثيرها على حياة المواطنين، واتخذت عدداً من التدابير الرامية لتعزيز الحالة الأمنية".
إلى أين تتجه الأمور في السودان؟
سواء تم التوصل إلى اتفاق هدنة بالفعل كما تشير الأنباء، أم لم يحدث ذلك، فجميع المؤشرات لا تبشر بالخير للأسف بشأن الأوضاع في السودان. فالجيش يرى أن الأمور تسير في اتجاه طرد "المتمردين"، كما يصفهم، بشكل كامل من الخرطوم، وأن ما يؤخر ذلك هو الحرص على سلامة المدنيين، حيث تتمركز قوات الدعم السريع في الأحياء السكنية، بينما تعمل قوات الدعم السريع بقيادة حميدتي على تعزيز مواقعها داخل الخرطوم.
لكن حتى في حال تمكن الجيش من حسم الأمور لصالحه في الخرطوم، فإن المتوقع أن يتحول مركز الصراع إلى دارفور وولايات أخرى في الغرب والشرق والجنوب، دون أن يكون في مقدور أحد توقع المدى الزمني لهكذا صراع أو تداعياته "الكابوسية"، حسب وصف رئيس الوزراء في الحكومة الانتقالية، الدكتور عبد الله حمدوك.
لكن ربما تكون أخطر المؤشرات على أن هذا السيناريو "الكابوسي" قد أصبح السيناريو الوحيد الأكثر ترجيحاً، هو الموقف الدولي والإقليمي، الذي يبدو أنه فقد القدرة أو الرغبة، وربما كليهما، في مواصلة جهود الوساطة بين طرفين يبدو كل منهما مقتنعاً بقدرته على الحسم العسكري وإزاحة الطرف الآخر بشكل نهائي.
وعلى الرغم من أن "السياسات الأمريكية مهّدت الطريق للحرب في السودان"، بحسب تقرير لمجلة Foreign Policy الأمريكية، إلا أن أروقة الأمم المتحدة تشهد الآن النقاش حول التوصل إلى آلية "لمراقبة الأوضاع" للحرص على التزام الطرفين بالقانون الإنساني الخاص بالصراعات.
فقد نددت بريطانيا والولايات المتحدة ودول أخرى، أغلبها غربية، بالانتهاكات التي يرتكبها طرفا الصراع في السودان، ودعت مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة إلى تكثيف مراقبة الأوضاع في اجتماع طارئ للمجلس، الخميس.
وقال مفوض الأمم المتحدة السامي لحقوق الإنسان فولكر تورك، أمام المجلس المؤلف من 47 عضواً، إن الجانبين "دهسا" القانون الإنساني الدولي، بينما تقود أربع دول، هي بريطانيا والولايات المتحدة وألمانيا والنرويج، الجهود لتمرير اقتراح لمنح خبير الشؤون السودانية بالأمم المتحدة مزيداً من الصلاحيات لمراقبة وتوثيق التقارير عن الانتهاكات.
وقال وزير الدولة البريطاني للتنمية وشؤون إفريقيا أندرو ميتشل للمجلس عبر رابط فيديو: "يتعين أن تكون هناك محاسبة على الأحداث المروعة التي تقع"، بينما قالت السفيرة الأمريكية ميشيل تايلور: "هذه هي اللحظة المناسبة لنبعث رسالة واضحة لطرفي النزاع بأن العالم يراقبهما ويتوقع منهما الالتزام بالمبادئ من أجل الشعب السوداني".
ومن جانبه سخر سفير السودان حسن حامد حسن من الاجتماع برمته، وقال متسائلاً: "لماذا تتسرعون في عقد جلسة خاصة كهذه في هذا التوقيت، خاصة أنها لم تحظ بتأييد أي دولة إفريقية أو عربية؟"، وأضاف: "ما يحدث في السودان شأن داخلي، وما تقوم به القوات المسلحة السودانية واجب دستوري على كل الجيوش في كل دول العالم".
وحول الجهود السعودية والأمريكية للتفاوض بين الجيش والدعم السريع عضو مجلس السيادة الانتقالي في السودان قال الفريق ياسر العطا: "نشكر السعودية والولايات المتحدة لاهتمامهما بأمرنا"، مضيفاً في حوار مع صحيفة الشرق الأوسط: "لكن هدفنا من الحوار هو فقط إخراج القوات المتمردة من العاصمة (يقصد الدعم السريع)، وتحديد معسكر واحد لما تبقى منها للانضمام لوحدات القوات المسلحة للمستوفين شروط الخدمة العسكرية، والمتبقي منهم يسلم لمفوضية التسريح لتأهيله للحياة العامة".
في الحديث نفسه، أكد العطا على أن قوات مجموعة "فاغنر" الروسية تقاتل في البلاد، وأن لديهم قناصاً قتيلاً من عناصرها، وحول التدخل الخارجي في النزاع بالبلاد، قال: "نحن لم نطلب من أي دولة شقيقة إسنادنا في الحرب لعلمنا بحساسية الموضوع، لكن لدينا قتيل قناص من فاغنر. وهناك معلومات ترد إلينا، لم نتأكد من صحتها، بأن هناك محاولات لدول شقيقة (دون تحديد الدولة) للبحث في مساعدة الميليشيا المتمردة (في إشارة إلى قوات الدعم السريع)، كما أن قواته (قائد الدعم السريع محمد حمدان دقلو) تحوي مرتزقة من تشاد والنيجر ومالي وغيرها".
الخلاصة هنا هي أن الاشتباكات في السودان باتت في طريقها للتحول إلى حرب أهلية ممتدة، تهدد بمزيد من التمزق، ولا أحد يمكنه التكهن بنهايتها، سواء تم الإعلان عن هدنة أم لم يتم.