أثار الاتفاق الذي تم الإعلان عنه بين السعودية وإيران في 10 مارس/آذار 2023، في العاصمة الصينية بكين، خلافات داخلية إيرانية، وعاد الصراع بين المؤسسات الحاكمة التي تتبع ما يطلق عليه اسم "الدولة العميقة"، في إيران للظهور مرة أخرى.
وعلم "عربي بوست" من مصادر إيرانية مطلعة، أن الحرس الثوري الإيراني، على خلاف مع المرشد الأعلى للبلاد، آية الله علي خامنئي، بسبب تهميش الأخير لدور الحرس الثوري في السياسة الخارجية الإيرانية، وإتمام المصالحة مع السعودية دون وجود لأي دور للحرس الثوري الإيراني، الذي ظل لسنوات طويلة مسيطراً على العلاقات الخارجية الإقليمية للجمهورية الإسلامية في إيران.
غضب الحرس الثوري
قام المرشد الأعلى الإيراني، علي خامنئي بتوكيل مهمة التصالح والاتفاق مع السعودية إلى سكرتير المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني، الأدميرال علي شمخاني، الذي نجح في مهمته بشكل جيد.
ويمثل علي شمخاني أحد أهم العناصر فيما يطلق عليه الدولة العميقة الإيرانية، أو ما يسميه الإيرانيون "الحكومة الخفية"، أي حكومة غير منتخبة موازية للحكومة المنتخبة، فالرجل مقرب للغاية من الدائرة الصغيرة القريبة من المرشد الأعلى، ويتمتع بدعم كبير من قبل خامنئي.
تظهر أهمية شمخاني ودعم خامنئي الكبير له، في السنوات الأخيرة على وجه التحديد؛ إذ تم تعيين علي شمخاني في منصب سكرتير المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني في عهد الرئيس المعتدل السابق، حسن روحاني، ولم تفلح محاولات أنصار حكومة إبراهيم رئيسي في إزاحة شمخاني من منصبه.
يقول مصدر مقرب من الحرس الثوري الإيراني، تحدث لـ"عربي بوست": "الدور الذي يلعبه شمخاني في الآونة الأخيرة، أثار غضب قادة الحرس الثوري، وتفاقم هذا الغضب مع توكيل خامنئي لشمخاني بإتمام المصالحة مع الرياض، ما يعني تهميش دور الحرس الثوري عن قصد".
في الآونة الأخيرة، ومع اعتماد المرشد الأعلى الإيراني علي خامنئي، على سكرتير المجلس الأعلى للأمن القومي علي شمخاني بكثرة في العديد من القضايا السياسية الداخلية والخارجية، زادت الهجمات الشرسة من قبل عدد كبير من المسؤولين والسياسيين الموالين لحكومة إبراهيم رئيسي والحرس الثوري الإيراني، والذين يشكلون الجناح الآخر من الدولة العميقة الإيرانية في مقابل جناح مكتب المرشد الأعلى.
يقول مسؤول حكومي إيراني مقرب من الحرس الثوري لـ"عربي بوست"، إن حكومة رئيسي كانت تسعى للإطاحة بشمخاني من منصبه، خاصة بعد أن أوكل المرشد الأعلى له مهمة الجلوس والتفاوض مع التيارات الاصلاحية أثناء الاحتجاجات التي ضربت البلاد، لكن خامنئي تصدى لهذه المحاولات.
كما أشار المصدر إلى أن "دور شمخاني الدبلوماسي الذي يأتي بتوكيل من مكتب المرشد، يتجاوز كل الصلاحيات، ويتجاوز دور حكومة رئيسي والحرس الثوري، وهذا أمر غير مقبول لدى العديد من أنصار القيادة في إيران".
كانت قد تحدثت مصادر سياسية إيرانية في وقت سابق لـ"عربي بوست"، عن اجتماع علي شمخاني ببعض الشخصيات السياسية الإصلاحية في إيران، إثر الاحتجاجات واسعة النطاق التي شهدتها إيران منذ سبتمبر/أيلول 2022، بعد وفاة الشابة "مهسا أميني"، بعد اعتقال دورية الإرشاد لها بزعم عدم ارتدائها الحجاب الإلزامي بشكل لائق.
كانت اجتماعات شمخاني مع السياسيين الإصلاحيين المنبوذين من القيادة الإيرانية في السنوات الأخيرة، تهدف إلى التوصل إلى حل وسط لتهدئة الشارع المحتج في إيران.
في هذا الصدد، يقول مصدر مقرب من علي شمخاني لـ"عربي بوست": "اقتراح الجلوس مع السياسيين الإصلاحيين ومناقشة الأوضاع الداخلية إثر الاحتجاجات، اقترحه شمخاني على المرشد الأعلى، الذي وافق عليه لثقته الكبيرة في علي شمخاني".
ترحيب "بارد" من الحرس الثوري بالاتفاق السعودي الإيراني
اعتبر الكثير من السياسيين والمسؤولين الأصوليين والإصلاحيين أن الاتفاق السعودي الإيراني، بادرة إيجابية لتقليل حدة الصراعات التي تخوضها طهران في المنطقة، وقد رحبت وسائل الإعلام الحكومة والمقربة من مكتب المرشد الأعلى الإيراني، علي خامنئي، بالمصالحة مع المملكة العربية السعودية، التي ظلت تحتل العناوين الأولى لعدد كبير من الصحف الإيرانية.
على الجانب الآخر، نجد أن وسائل الإعلام المقربة من الحرس الثوري، أبدت ترحيباً "بارداً" بهذه المصالحة، وذهبت بعض المراكز البحثية والفكرية المقربة من الحرس الثوري، إلى تحليل هذه المصالحة، ومناقشة النقاط والقضايا الأمنية التي لم تغطِّها، مستنتجة أن الاتفاق السعودي الإيراني، غير مضمون في نهاية المطاف.
في هذا الصدد، يقول مصدر ثانٍ مقرب من الحرس الثوري الإيراني لـ"عربي بوست": "الحرس الثوري لا يؤمن بإمكانية تحول السعودية من عدو لدود إلى صديق، ولا يؤمن بتحول الحرب الباردة بين طهران والرياض إلى حتى السلام البارد، وهذا الأمر راسخ في أيديولوجية الحرس الثوري".
وأضاف المصدر ذاته: "يرى قادة الحرس الثوري أن اعتماد المرشد الأعلى علي شمخاني في المصالحة مع السعودية، هي محاولة جادة منه للحد من وجود الحرس الثوري في السياسة الإقليمية لإيران".
علي الجانب الآخر، لم ينفِ المصدر المقرب من مكتب المرشد الأعلى الإيراني، اعتقاد الحرس الثوري السابق ذكره، فيقول لـ"عربي بوست": "في السنوات الأخيرة زاد نفوذ الحرس الثوري في السياسة الخارجية الإيرانية، ونتج عن هذا الأمر العديد من الإخفاقات، لذلك قرر المرشد الأعلى تقليص دور الحرس الثوري، والاعتماد على مكتبه في إدارة السياسة الخارجية في الفترة المقبلة، وكان الاتفاق السعودي الإيراني تتويجاً لنجاح هذه الرؤية".
تزايد الصراع بين الحرس الثوري ومكتب خامنئي
كانت ذروة الصراع بين الجهات الحاكمة داخل الدولة العميقة (مكتب خامنئي والحرس الثوري وأنصاره)، هي الاتفاق مع المملكة العربية السعودية، واعتماد خامنئي على سكرتير المجلس الأعلى للأمن القومي، شمخاني، المقرب من مكتب المرشد الأعلى ودائرة خامنئي الخاصة.
لكن قبل ذلك، كانت هناك العديد من الخلافات بين الطرفين أظهرت هذا الصراع، خاصة مع تنامي دور الحرس الثوري في السياسة الخارجية لإيران. على سبيل المثال لا الحصر، عندما قامت إدارة الرئيس الإيراني السابق حسن روحاني، بالمحادثات السرية مع الولايات المتحدة بشأن البرنامج النووي الإيراني، في سلطنة عمان عام 2013، وتم التوصل إلى الاتفاق النووي بشكله النهائي في عام 2015، كان يستلزم التوقيع عليه الحصول على موافقة نواب البرلمان الإيراني.
يقول مصدر مقرب من الحرس الثوري لـ"عربي بوست": "حينها كان الحرس الثوري غير موافق على الاتفاق النووي لأنه يرى أنه من الهراء التنازل عن التقدم النووي للبلاد مقابل حفنة من الأموال التي يمنحها رفع العقوبات للبلاد، لكنْ تدخَّل مكتب خامنئي في الأمر".
أرسل المرشد الأعلى الإيراني، ممثلاً له في جلسة تصويت البرلمان على توقيع الاتفاق النووي، والذي أنهى الجدل المثار حينها، وتم التصويت بموافقة الأغلبية في غضون 5 دقائق فقط.
يطلق المتشددون وأنصار الحرس الثوري الرافضون للاتفاق النووي الإيراني مع الولايات المتحدة والغرب، على هذه الجلسة البرلمانية اسم "حادثة الدقائق الخمس".
حتى بعد توقيع الاتفاق النووي الإيراني لعام 2015 أو ما يعرف بخطة العمل الشاملة المشتركة، بين إيران والولايات المتحدة والغرب (ألمانيا، فرنسا، المملكة المتحدة، بالإضافة إلى روسيا والصين)، ظل الحرس الثوري -بحسب المصادر المطلعة التي تحدثت لـ"عربي بوست"- رافضاً لهذا الاتفاق.
وبعد توقيع الاتفاق النووي بأيام قليلة قام الحرس الثوري الإيراني بتجربة صاروخية باليستية، مطلقاً عدداً من الصواريخ مكتوباً عليها "الموت لإسرائيل، الموت لأمريكا". وقد تواصلت إدارة الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما، مع وزارة الخارجية الإيرانية بقيادة محمد جواد ظريف، في ذلك الوقت لإبداء غضبها من هذا الأمر.
في هذا الصدد، يقول المصدر المقرب من مكتب المرشد الأعلى الإيراني لـ"عربي بوست": "كانت التجربة الصاروخية للحرس الثوري رفضاً معلناً وصريحاً للاتفاق النووي، وحينها أدركت حكومة روحاني أن الحرس الثوري سيعمل ضدها في إتمام هذه الصفقة، وحدث هذا الأمر بالفعل في العديد من المناسبات".
سوريا.. معركة أخرى بين أطراف الدولة العميقة في إيران
قبل الاتفاق النووي الإيراني، كانت هناك حادثة أخرى تدل على الصراع بين جناحي الدولة العميقة في إيران (مكتب المرشد الأعلى الإيراني، والحرس الثوري وأنصاره). خاصة مع بدء الصراع في سوريا.
في عهد الحكومة الثانية للرئيس الإيراني السابق، محمود أحمدي نجاد، قرر الحرس الثوري الإيراني دعم نظام بشار الأسد عسكرياً، من أجل حمايته من السقوط. حينها رفض علي أكبر ولايتي، مستشار السياسة الخارجية المرشد الأعلى الإيراني، والمقرب من مكتب خامنئي، هذا الاقتراح.
في حديثه لـ"عربي بوست"، يقول مصدر ثانٍ مقرب من مكتب المرشد الأعلى لـ"عربي بوست": "كان المرشد الأعلى يثق في آراء أكبر ولايتي، وكان قد اتخذ القرار بعدم دعم بشار الأسد عسكرياً، حتى جاء قاسم سليماني وألحَّ كثيراً على خامنئي في هذا الأمر، حتى وافق".
كما أشار المصدر ذاته إلى أن هذه الواقعة تعتبر بداية توسيع نفوذ الحرس الثوري في السياسة الخارجية الإيرانية، وتنامي دور قائد فيلق القدس، الجنرال الراحل قاسم سليماني.
في السياق نفسه، يقول مسؤول إيراني رفيع المستوى ومقرب من مكتب المرشد الأعلى الإيراني لـ"عربي بوست": "عندما تمت الإطاحة بعلي أكبر ولايتي، ووافق خامنئي على دعم بشار الأسد، بدأت نقطة انطلاق سيطرة الحرس الثوري على السياسة الإقليمية لإيران، وأصبح فيلق القدس هو اللاعب الأبرز في تشكيل سياسة طهران الخارجية، مطيحاً بالدور الدبلوماسي لمكتب خامنئي أو حتى وزارة الخارجية الإيرانية".
يواصل المصدر ذاته حديثه لـ"عربي بوست" قائلاً: "وصل نفوذ الحرس الثوري في السياسة الخارجية إلى تعيين وفصل السفراء الإيرانيين في مختلف البلدان، ولا تملك وزارة الخارجية حق تعيين أي سفير دون الرجوع للحرس الثوري. وسط هذا التنافس على قيادة السياسة الخارجية بين الحرس الثوري ومكتب خامنئي، غاب دور وزارة الخارجية الإيرانية تماماً، بل تم افشال جميع محاولاتها الدبلوماسية تحديداً فيما يخص المفاوضات النووية".
منذ سنوات طويلة ويتم تقاسم السلطات في الدولة الإيرانية بين المؤسسات الحاكمة التابعة للدولة العميقة، بعيداً عن الحكومة المنتخبة، ظل الأمر لسنوات مستقراً، حيث تولى مكتب المرشد الأعلى الإيراني السياسة الخارجية والقضايا الإقليمية، بالإضافة إلى الشؤون الداخلية للبلاد.
بينما تولى الحرس الثوري أجزاءً من البرنامج النووي، ومهمة البرنامج الصاروخي الباليستي بشكل كامل، بجانب إدارة الصراعات الإقليمية ودعم وكلاء إيران في المنطقة.
يقول المسؤول الحكومي المقرب من مكتب المرشد الأعلى الإيراني لـ"عربي بوست"، معلقاً على هذا الأمر: "كان تقاسم المسؤوليات والمهام بين مكتب خامنئي والحرس الثوري يسير بشكل جيد، إلى أن قرر قاسم سليماني توسيع نفوذ الحرس في السياسة الخارجية. من هنا ظهر الصراع، الذي أثر بشكل سلبي للغاية على السياسة الخارجية الإيرانية".
بيت/مكتب المرشد الأعلى.. أساس الدولة العميقة
لا يمكن إنكار تعقيد الهيكل السياسي في إيران، بسبب تعدد المنظمات والمؤسسات الحاكمة والدينية، وتقاسم السلطة بين السياسيين ورجال الدين، في كثير من المؤسسات.
رأس الهرم السياسي الإيراني هو المرشد الأعلى علي خامنئي، والذي يملك اليد العليا على جميع القرارات، سواء الصغيرة أم الكبيرة داخل البلاد.
لكن من الصعب تصور أن خامنئي يقود كل هذه المؤسسات بمفرده، فلابد من وجود كيان سياسي ذي سلطة ونفوذ، يساعده في الحكم، هذا الكيان هو "بيت رهبري" أو "منزل/ مكتب القيادة/ القائد" باللغة العربية.
"بيت رهبرى"، أو منزل القائد، أو مكتب المرشد الأعلى للبلاد، تمت تسميته باستخدام المفردة العربية "بيت"، بدلاً من مماثلتها الفارسية "خانة"، استناداً إلى القرآن الكريم في إشارة إلى الكعبة، أو البيت الحرام. كما أن له دلالة في الأدبيات الشيعية، فالبيت في الثقافة الشيعية يُشير إلى الدائرة المقربة من نبي الإسلام، الرسول محمد، "أهل البيت".
تتمركز أهمية بيت القائد، في أنه الكيان السياسي المتحكم في جميع المؤسسات الاقتصادية، السياسية، العسكرية والأمنية في البلاد، بالإضافة إلى انتشار ممثليه في جميع المؤسسات الحكومية في كل المحافظات الإيرانية.
لكن قبل التحدث باستفاضة عن دور بيت القائد أو مكتب المرشد الأعلى الإيراني، وتأسيسه للدولة العميقة في إيران، يجب الإشارة إلى مراحل تطور هذا الكيان السياسي الذي بدأ مع مؤسس الجمهورية الاسلامية في إيران، آية الله روح الله الخميني المرشد الأعلى الإيراني السابق.
بيت الخميني.. بسيط مع القليل من النفوذ
في مساء يوم 12 فبراير/شباط 1979، بعد أيام قليلة من الثورة الإسلامية في إيران، كان رجال الدين الموالون لآية الله الخميني، في انتظاره في مدرسة بنات ابتدائية تسمى "رفاه"، في شارع إيران بالعاصمة طهران، لعقد أول اجتماع للمجلس الثوري الاسلامي.
بعدها قرر الخميني أن يتم تحويل هذه المدرسة لتكون مكتبه الذي سيتابع منه بعض الأمور السياسية، والأمور الدينية كمرجع للتقليد (وهو منصب ديني بارز في الفقه الشيعي، يتبع الناس فتاوى وأحكام رجل الدين الذي يصل إلى المرجعية).
في حي جماران شمال العاصمة طهران، تأسس أول "بيت رهبري" أو مكتب القائد في إيران ما بعد الثورة، كان المكتب بسيطاً وصغيراً، متواضع الأثاث، لا يزيد على خمس أو ثلاث غرف، وكان يديره أحمد الخميني النجل الأكبر لآية الله الخميني مؤسس الجمهورية الإسلامية في إيران.
يقول سياسي إيراني أصولي، لـ"عربي بوست": "قرر الخميني أن تكون اهتمامات مكتبه سياسية ودينية فقط، أما باقي القضايا فتتولاه الحكومة التي سيتم انتخابها لاحقاً".
وبحسب المصدر ذاته، فإن مكتب الخميني كان لا يضم إلا عدداً قليلاً من الموظفين أغلبهم من المقربين من دائرة الخميني، فيقول: "كان عدد الموظفين والإداريين قليلاً جداً مقارنة بمكتب المرشد الحالي، في بعض الأحيان كانوا لا يتقاضون أجراً، لكن كان أحمد الخميني هو المتحكم الأول والرئيسي في هذا المكتب، لكن ظل هذا التحكم بشكل محدود".
من الناحية الفعلية، أحمد الخمينى هو المؤسس الأساسي لبيت الخميني، وهو صاحب فكرة تأسيس هذا الكيان السياسي، وبينما اهتم والده بمتابعة الشؤون الدينية وبعض القرارات السياسية، كان أحمد الخميني موجوداً في كل قرارات الحكومة حينها، وكان يلعب دور الوسيط بين المسؤولين والسياسيين في المؤسسات الحكومية.
خامنئي وبداية التوسع
عندما تولى منصب المرشد الأعلى الإيراني عام 1989، اقترح بعض المسؤولين على آية الله علي خامنئي، أن يستمر في العمل من المكتب السابق لآية الله الخميني، لكنه رفض الأمر، وأسس مكتباً خاصاً به.
في هذا الصدد، يقول السياسي الإيراني الأصولي لـ"عربي بوست": "خامنئي يؤمن بأهمية توسيع المؤسسات؛ لذلك عمل في السنوات الأولى في منصبه على تأسيس مبنى كامل ليصبح المكتب التابع له، مع تقسيم المكتب إلى هيئات ومكاتب إدارية متنوعة".
من عام 1989 حتى عام 2004، كان مكتب خامنئي يضم العديد من المستشارين المعتدلين والأصوليين، أمثال هاشمي رفسنجاني السياسي الإيراني المعتدل والرئيس الأسبق، ومحمد خاتمي السياسي الإصلاحي ورئيس الجمهورية الإيرانية الأسبق.
لكن شيئاً فشيئاً أخذ خامنئي في تطهير مكتبه ودائرته المقربة من جميع المسؤولين المقربين من مؤسس الجمهورية الإسلامية، آية الله روح الله الخميني.
في هذا الصدد، يقول السياسي الإيراني الاصولي لـ"عربي بوست": "بدأ يتولى المهام الأبرز في مكتب خامنئي، مسؤولون صنعهم هو وقرّبهم منه، ليصبحوا حلفاءه بعيداً عن الحلفاء القدامى للخميني، كما أنه تخلص من الدوائر المعارضة والمنتقدة لحكمه بين رجال الدين المؤثرين في الثورة الإسلامية".
ومنذ عام 2004 وحتى عام 2014، توسع مكتب خامنئي بشكل كبير، وأصبح يضم الآلاف من الموظفين والممثلين والإداريين، والمبني الواحد أصبح عدة مبانٍ. يقول المصدر السياسي الأصولي لـ"عربي بوست": "توسع مكتب خامنئي وسيطرته على صنع القرار داخل الحكومة المنتخبة، كانت نقطة البداية لتشكيل ما يعرف بالحكومة الخفية أو الموازية".
في هذه الرحلة، ضم علي خامنئي إلى حكومته الخفية، قادة الحرس الثوري، والدوائر المقربة منه من السياسيين والمسؤولين الأصوليين، ليشكلوا معاً الدولة العميقة في الجمهورية الاسلامية الإيرانية.
وأصبح "بيت رهبري" أو مكتب القائد يضم العديد من الإدارات الاقتصادية، السياسية، العسكرية، الأمنية والثقافية، وأصبح لديه المنافذ الاعلامية الخاصة به، حتى وصل نفوذه إلى مجال صناعة السينما.
في هذا السياق، يقول سياسي إصلاحي إيراني وكان مسؤولاً في حكومة حسن روحاني السابقة، لـ"عربي بوست": "توسع مكتب خامنئي ليصبح دولة داخل الدولة، معتمداً في ذلك على الاستعانة بالحرس الثوري، فلدى مكتب خامنئي كيانات اقتصادية هامة وكبيرة تعتبر جزءاً رئيسياً في الاقتصاد الإيراني".
وأضاف المصدر ذاته قائلاً: "لا تستطيع الحكومة المنتخبة ولا البرلمان المنتخب أن يتخذ أي قرار دون مناقشته مع ممثلي مكتب خامنئي في مختلف المؤسسات الحكومية، لدرجة أن مكتب خامنئي لديه ما يشبه وزارة التخطيط والميزانية، تضع تصوراتها للموازنة العامة للبلاد وتعرضها على وزارة التخطيط والميزانية التابعة للحكومة المنتخبة، توسع نفوذ مكتب خامنئي لا حدود له".
أهم الشخصيات في مكتب خامنئي
بالطبع هذه الامبراطورية السياسية والاقتصادية والعسكرية المتمثلة في مكتب المرشد الأعلى الإيراني، تحتاج إلى شخصيات قوية وموثوقة لإدارتها، فهذه الشبكة المعقدة متعددة الطبقات، تضم مئات من المكاتب الإدارية، والأمنية، والاقتصادية، والعسكرية الخاصة، ويديرها مستشارون مقربون من علي خامنئي.
يقول السياسي الإصلاحي الإيراني، لـ"عربي بوست": "الهيكل الإداري لمكتب خامنئي يتمتع بالكثير من الغموض، وعدم اليقين بشكل محدد، وهذا شيء مقصود من قبل المرشد الأعلى ودائرته المقربة. لكن هناك حقائق مثل الشخصيات التي تُدير هذه الشبكة المعقدة، يسيطر حوالي 10 أشخاص على رأسها مجتبى خامنئي على هذه الشبكة".
بحسب المصادر الإيرانية المطلعة التي تحدثت لـ"عربي بوست" في هذا التقرير، فإن الابن الأوسط لخامنئي، مجتبى خامنئي، يلعب دوراً رئيسياً وهاماً في إدارة مكتب والده، كما كان الحال مع نجل الخميني، أحمد الخميني.
لكن مسؤولاً أمنياً مقرباً من مكتب خامنئي يقول لـ"عربي بوست": "هناك فارق كبير بين الدور الذي لعبه أحمد الخميني، والدور الذي يلعبة مجتبى خامنئي الآن. الأخير هو متحكم في كل شيء في مكتب أبيه، هو الذي يُعين ويُقيل المسؤولين في المكتب، لا تمر صغيرة أو كبيرة داخل المكتب إلا بعد اطلاعه عليها".
بالإضافة إلى مجتبى خامنئي، هناك ما يقرب من 15 شخصية تلعب دوراً كبيراً في مكتب المرشد الأعلى الإيراني، سنسرد الأهم بينهم.
غلام علي حداد عادل
يشغل غلام علي حداد عادل، منصب مستشار المرشد الأعلى للشؤون السياسية والثقافية، وهو صهر مجتبى خامنئي، وقد لعب هذا الارتباط الأسري دوراً كبيراً في تثبيت أقدامه داخل الهيكل السياسي لمكتب المرشد الأعلى.
تم تعيينه عضواً في مجلس تشخيص مصلحة النظام والمجلس الأعلى للثورة الثقافية بمرسوم صادر عن علي خامنئي مباشرة، حداد عادل دائم الظهور بجانب المرشد الأعلى في أغلب المناسبات الثقافية والدينية والادبية، فهو يتمتع بدعم كبير من خامنئي، ودليه تأثير واسع النطاق داخل عدد من المؤسسات الحكومية.
علي آقا محمدي
يعتبر علي آقا محمدي هو الذراع الاقتصادية لمكتب المرشد الأعلى الإيراني، فهو يدير عدداً كبيراً من المؤسسات الاقتصادية التابعة لمكتب خامنئي، ويشارك في صناعة السياسات الاقتصادية للكيانات الاقتصادية التابعة لخامنئي أو الحكومة، يطلق عليه البعض وزير الاقتصاد الحقيقي في إيران.
محمد شيرازي
محمد شيرازي يُدير المكتب العسكري داخل مكتب خامنئي، وهو المؤسسة الإدارية التي تتوسط بين خامنئي والمؤسسات العسكرية والقوات المسلحة، يتولى شيرازي مسؤولية تعيين القادة العسكريين والتواصل بينهم وبين خامنئي، بعبارة أخرى، يعتبر محمد شيرازي هو وزير الدفاع في الحكومة الموازية التابعة لمكتب المرشد الأعلى.
علي سعيدي
علي سعيدي مسؤول إدارة العقيدة السياسية لمكتب خامنئي، يلعب دوراً كبيراً في نمو الشبكات الأمنية والعسكرية في السياسة الإيرانية، والعمل على الترويج لأيديولوجية القيادة العليا داخل هذه المؤسسات.
كما يتحكم علي سعيدي في إدارة جزء من ملفات السياسة الإقليمية لإيران، وبالتحديد التعامل مع دول الخليج، وعلى رأسها المملكة العربية السعودية.
حسين فدائي
يتولى حسين فدائي، واحدة من أهم الإدارات داخل مكتب المرشد الأعلى، وهي إدارة التفتيش، هذه المؤسسة المهمة، تتعامل مباشرة مع القضايا التي تقلق المرشد الأعلى علي خامنئي بشكل مباشر، فهي التي تتابع الحالات الخاصة التي يطلبها خامنئي، كما أنها تراقب أنشطة النشطاء السياسيين والمسؤولين من كافة التيارات السياسية.
في عام 2016 عمل المرشد الأعلى على زيادة المكاتب التابعة لهذه الإدارة، لتشمل مكاتبها أربع مجموعات: "الثقافة، الاقتصاد، القضاء، والسياسة الداخلية"، لتقوم بإعداد التقارير عن أغلب المؤسسات الحكومية ودراستها وتقديمها إلى المرشد الأعلى.
علي أصغر حجازي
وهو رجل دين تربطه علاقة طويلة وممتدة بالمرشد الأعلى، فكانوا زملاء قبل الثورة الإسلامية في إيران، يعتبر حجازي هو المسؤول الأمني الأبرز في مكتب خامنئي، منذ بداية تأسيسه.
يعتبر حجازي هو القناة الوحيدة لتواصل خامنئي مع المؤسسات الأمنية والاستخباراتية في البلاد، كما أنه المسؤول عن مراقبة هذه المؤسسات، أي إنه بدرجة وزير الاستخبارات في مكتب المرشد الأعلى.
وحيد حقانيان
وحيد حقانيان من أبرز المسؤولين الأمنيين داخل مكتب المرشد الأعلى، وهو مسؤول الشؤون الخاصة في مكتب خامنئي، والمسؤول عن تنظيم العلاقات بين المكتب والسلطات الثلاث (التنفيذية، التشريعية، القضائية).
لعب حقانيان دوراً كبيراً في السياسة الداخلية في الجمهورية الإسلامية، خاصة فيما يتعلق بالانتخابات الرئاسية، فيُشار إليه بأنه القوة الدافعة لفوز الرئيس الإيراني السابق، محمود أحمدي نجاد، لفترتين رئاسيتين مثيرتين للجدل.
يقول السياسي الإصلاحي والمسؤول الحكومي السابق في عهد حسن روحاني لـ"عربي بوست": "مكتب خامنئي، هو أساس الدولة العميقة في إيران، وبمرور الوقت يزداد نفوذه وقوته، حتى إنه لن ينهار بعد وفاة خامنئي، كما حدث مع مكتب الخميني".
ويضيف قائلاً: "لم يكن أمام مكتب الخميني الوقت الكافي لتقوية نفوذه، أو كانت رغبة الخميني نفسه، لكن مكتب خامنئي الذي يحكم البلاد منذ أكثر من 30 عاماً نجح في بناء شبكة نفوذ معقدة ومتداخلة مع كافة المؤسسات الحكومية، لذلك ففرص استمراره بعد وفاة خامنئي قوية جداً، وسيكون شوكة في ظهر المرشد الأعلى القادم، إذا لم يكن متوافقاً مع الشخصيات المسيطرة على المكتب".