التداعيات الاقتصادية لأزمة السودان سوف تشعر بها العديد من الدول العربية وليس الشعب السوداني فقط، وقد تؤدي لارتفاع أسعار العديد من السلع، التي نرصدها في هذا التقرير الذي يعرض كذلك أكثر الدول العربية تأثراً بأزمة السودان من الناحية الاقتصادية.
ويعد السودان مصدراً مهماً للذهب واللحوم والسمسم، والصمغ العربي، ولكن اللحوم والسمسم والعديد من الحاصلات الزراعية، تحديداً يتم تصدير جزء كبير منها لدول الجوار العربي للسودان.
والسودان معروف بموارده الطبيعية غير المستغلة، حيث يمتلك مقومات زراعية هي الأكبر في المنطقة العربية، بواقع 175 مليون فدان صالحة، بجانب مساحة غابية تقدر بحوالي 52 مليون فدان (الفدان يعادل 4200 متر مربع).
في الشق الحيواني، لدى السودان 102 مليون رأس من الماشية، متحركة في مراعٍ طبيعية، تُقدر مساحتها بـ118 مليون فدان، فضلاً عن معدل أمطار سنوي يزيد عن 400 مليار متر مكعب.
يضاف لذلك، محاصيله الزراعية المتمثلة في الفول والذرة والكركديه والصمغ العربي والسمسم وغيرها من المحاصيل، التي تلقى طلباً عالمياً متزايداً.
ولكن في ظل استمرار الظروف الراهنة قد تفقد البلاد 15 ملياراً من الحركة التجارية، حسبما ورد في تقرير لصحيفة "الشرق الأوسط" السعودية.
التداعيات الاقتصادية لأزمة السودان سوف تؤدي لتخفيض التصنيف الائتماني لعدد من دول المنطقة
في عام 2017، كان أهم شركاء السودان التجاريين هم الإمارات بنسبة 12.7% (قد يكون جزء كبير من هذه التجارة ذهباً)، ثم مصر 10.6%، الهند 10.5%، تركيا 10.2%، اليابان 7.6%، المملكة العربية السعودية 6.0%، روسيا 4.6%.
أفادت وكالة موديز للتصنيف الائتماني أن امتداد الاشتباكات في السودان لفترة مطولة هو خطر متزايد وسيكون لديه تأثير ائتماني سلبي على البلدان المجاورة، وبنوك التنمية متعددة الأطراف المنكشفة على ديون هذه الدول.
وأضافت موديز أنه في حال تطور الاشتباكات في السودان إلى حرب أهلية طويلة ودمار البنية التحتية وتدهور الأوضاع الاجتماعية، سيؤدي ذلك إلى عواقب اقتصادية طويلة المدى وتراجع جودة أصول البنوك متعددة الأطراف في السودان، إلى جانب ارتفاع القروض المتعثرة والسيولة.
وأوضحت أن أي امتداد إلى البلدان المجاورة أو تدهور عام في البيئة الأمنية للمنطقة من شأنه أن يثير مخاوف أوسع بشأن جودة الأصول لبنوك التنمية متعددة الأطراف ذات التركيز الأعلى على قروض في تشاد وجنوب السودان وإثيوبيا ومصر.
وقال الخبير الاقتصادي المصري علاء عبد الحليم، في مقابلة مع قناة "العربية": "هناك مؤسسات مالية إقليمية مثل أفريكسيم بنك لديه نحو 930 مليون دولار قروضاً في السودان، ولديه تأمين على 220 مليون دولار فقط منها، ومع تأزم الأوضاع نتيجة الحرب ستتأثر أعمال البنوك ومؤسسات التمويل متعددة الأطراف ومدى قدرتها على تمويل المشاريع في المنطقة ككل".
مصر أكثر الدول العربية تضرراً
وتعد مصر من أكثر الدول العربية التي يحتمل أن تضرر من التداعيات الاقتصادية لأزمة السودان، لأن السودان شريك تجاري مهم لها، وجار مباشر.
وبحسب الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء المصري، فقد سجّلت قيمة التجارة بين مصر والسودان ارتفاعاً بنسبة 18.2% خلال عام 2022، لتبلغ 1.434 مليار دولار في مقابل 1.212 مليار دولار خلال عام 2021.
ويستحوذ السودان، على 13.2% من إجمالي قيمة التبادل التجاري بين مصر والقارة الإفريقية، حيث بلغت صادرات مصر للسودان نحو 929 مليون دولار، بينما وصلت صادرات السودان لمصر في 2022، لنحو 504.5 مليون دولار.
وأوضح عبد الحليم أن السودان يعد بوابة لنفاذ الصادرات المصرية إلى أسواق دول حوض النيل وشرق إفريقيا، ومع استمرار الحرب وانعدام الأمن، سيتأثر حجم التبادل التجاري بين البلدين، وهو ما ينعكس سلباً على الاقتصاد المصري الذي يعاني بعض الأزمات في الوقت الراهن.
والسوق السودانية تعد منفذاً مهماً للمصانع الصغرى في مصر، في ظل ما تعانيه السوق المحلية من آثار الركود، حسب الخبير الاقتصادي علاء عبد الحليم.
ومصر تُصدّر للسودان: مواد البناء والتشييد بمختلف أشكالها (أسمنت- حديد- سيراميك)، أجهزة كهربائية، كيماويات، دهانات، والأغذية المُصنعة.
السودان ومصر يشتركان في عدد كبير من المشروعات، على غرار القاهرة كيب تاون، وهو مشروع لبناء طريق بري بدأت مصر العمل عليه 2021، ليربط بين شمال القارة الأفريقية بجنوبها عبر 10 دول إفريقية، ومن المقرر أن يتم تنفيذه بنهاية عام 2024.
وهناك الربط الكهربائي بين البلدين بمقدار 300 ميجا تقريباً، كذلك تشترك مصر والسودان في شركة وادي النيل للنقل النهري، إضافة إلى وجود تصور للربط السككي بين البلدين، وإنشاء خط سكة حديد من أسوان إلى الخرطوم.
يرى خبراء أن الأزمة ستنعكس على أسعار السلع في مصر بشكل سلبي، خاصة المواد الخام التي يتم استيرادها من السودان، على غرار السمسم، والمنتجات الزيتية والصمغ، واللحوم بشكل أكبر، خاصة أن البلد يعاني أصلاً من تضخم حاد جراء ارتفاع أسعار الدولار مقابل الجنيه، وهو تضخم وصل في اللحوم إلى نحو 100% حسب تقارير البنك المركزي المصري.
وهناك ثلاثة أطر مؤسسية اقتصادية تربط بين مصر والسودان، وهي: منطقة التجارة الحرة العربية، ومنطقة التجارة الحرة للقارة الإفريقية، وكذلك اتفاقية الكوميسا.
كما أن السعودية من أبرز شركاء الخرطوم التجاريين، حيث بلغت صادرات السودان للسعودية 1.3 مليار ريال سعودي في عام 2021، وأبرزها الحيوانات الحية خاصة الخراف والماعز، مقابل واردات قدرها 2.6 مليار أبرزها السيارات (تأتي من خارج السعودية).
أبرز السلع التي قد تشهد نقصاً وارتفاعاً للأسعار بالمنطقة بسبب أزمة السودان
اللحوم: السودان أكبر مصدر للحيوانات الحية للسعودية والأزمة تأتي في وقت حرج للقاهرة
والسودان يعد مورداً رئيسياً للمواشي واللحوم الحية.
كشفت وزارة الثروة الحيوانية والسمكية في السودان عن تصدير 21.4 مليون طن من اللحوم خلال عام 2021.
وفى ديسمبر/كانون الأول 2022، أعلنت وزارة الثروة الحيوانية عن ارتفاع صادر الماشية الحية خلال العام 2021م بنسبة بلغت 30.8% عن العام الماضي بعائدات بلغت 531 مليون دولار.
واللحوم هي إحدى السلع الاستراتيجية لمصر، وبالفعل اللحوم تُشكِّل الهيكل الأساسي لواردات مصر من السودان، إضافة إلى بعض المنتجات الزراعية والمواد الزيتية، وتمد السودان مصر بنحو 10% من احتياجاتها من هذه السلع.
وبالتالي سوف يكون لأزمة السودان تداعيات على أسعار اللحوم في مصر خصوصاً مع اقتراب عيد الأضحى، وهو ما يزيد الضغط على أسعار اللحوم محلياً والتي ستنعكس على معدلات التضخم المرتفعة، حسب علاء عبد الحليم.
كما أن السعودية تعتمد على اللحوم السودانية إلى حد كبير، حيث يقدر حجم استيراد المملكة من المواشي الحية (أغنام، أبقار، إبل) بنحو 7 ملايين رأس في السنة، 65% منه كان يتم استيراده من السودان (نحو 4.5 مليون رأس) وفقاً لما نقله موقع "سودان تربيون" عن صحيفة عكاظ السعودية في نهاية 2021.
وقد يؤدي تراجع صادرات اللحوم والحيوانات الحية من السودان إلى ارتفاع الأسعار حتى في الدول العربية التي لا تستوردها من الخرطوم، لأنه سيكون هناك تكالب على المصادر البديلة مثل البرازيل والهند.
الذهب شريان الحياة للاقتصاد السوداني مهدد بالتوقف
الذهب أصبح منذ سنوات أكبر صادرات السودان ويشكل حوالي 50% منها.
ويعدّ السودان من الدول الأشد فقراً في العالم، في مفارقة واضحة مع حقيقة كونه ثالث أكبر منتج للذهب في إفريقيا، لكن إنتاجه من المعدن الأصفر يعتمد على قطاع التعدين الأهلي بنحو 80% وهذا القطاع غالباً ما يهرّب أكثر من 70% من إنتاجه للحصول على أسعار أعلى من الأسعار الحكومية، وفق تقرير لصحيفة الإندبندنت البريطانية.
في عام 2021، تم استخراج أكثر من 93 طناً من الذهب السوداني، وفقاً لصحيفة Le Monde الفرنسية، مقارنة بـ30 طناً قبل بضع سنوات، حسبما ورد في تقرير لصحيفة Wall Street Journal الأمريكية.
حسب تحقيق لشبكة CNN الأمريكية، فإن أجزاء من تقارير رسمية صورت خفية تفيد بأن الإنتاج الرسمي للذهب في السودان 49.7 طن، وهناك 32 طناً غير محسوبة من قِبل البنك المركزي السوداني، بينما قالت مصادر للشبكة إن الرقم الحقيقي يدور حول 220 طناً، أي إن 13 مليار دولار في العام تُسرق من السودان عبر استخراج وتهريب الذهب بشكل غير رسمي.
ويصدر 16 مليار دولار من الذهب السوداني إلى الإمارات كل عام، حسب تقرير لموقع the Africa Report نُشر في عام 2021.
ويعتمد أكثر من ثلاثة ملايين شخص في السودان على استخراج المعدن الثمين، الذي ارتفع سعره منذ بداية الحرب في أوكرانيا، حسبما ورد في تقرير لصحيفة Le Monde الفرنسية.
وأفقد خروج مطار الخرطوم من الخدمة، والذي عطل نسبة 5% من إجمالي الصادرات والواردات السودانية البالغة في مجملها 15 مليار دولار، الخزينة صادرات الذهب التي تعادل 50% من الصادرات بقيمة ملياري دولار، وفق تقديرات الخبير الاقتصادي السوداني الدكتور محمد الناير لصحيفة الشرق الأوسط.
إلا أنه لم يتوقع حدوث أثر كبير على الصادر والوارد بشكل عام، "إلا إذا اتسعت دائرة الحرب، وشملت مواقع أخرى مؤثرة، وامتد أجلها، إذ حينها سيتأثر الاقتصاد السوداني بصورة كبيرة". وأشار إلى أن أثر الحرب الأكبر يقع على المواطن السوداني "من حيث انقطاع سلاسل الإمداد الداخلية، مثل خدمات الكهرباء والطاقة والغذاء والصحة داخل العاصمة السودانية الخرطوم، فضلاً عن عدم تمكن الموظف والعامل السوداني من مباشرة دوامه وعمله منذ اندلاع الحرب".
لو تضررت صادرات الذهب بشكل كبير، فقد يؤدي ذلك لارتفاع أسعار المعدن الأصفر في المنطقة والعالم التي هي مرتفعة أصلاً.
غياب السمسم يهدد حلويات العرب
يمثل السمسم أهمية كبيرة في الثقافة والمائدة العربية، حيث يصنع منه العديد من الحلويات والأطعمة مثل الطحينة والحلاوة الطحينية، إضافة إلى الزيوت.
ويعد السمسم من أهم الحبوب الزيتية النباتية في السودان بعد الذرة والدخن وتأتي أهميته من كونه محصولاً غذائياً ومادة خاماً مهمة للصناعة وعلف للحيوان وهو محصول نقدي مهم للسودان.
ويصنف السودان الرابع وأحياناً الثالث عالمياً في إنتاج السمسم بعد الهند والصين، كما تشير إلى ذلك إحصاءات تجارته الدولية.
وينتج السودان 80% من السمسم الذي يزرعه العالم العربي و40% من السمسم المزروع في إفريقيا. ويستهلك منه ومن زيته محلياً حوالي 60% مما ينتجه سنوياً.
وتأتي عائدات تصدير السمسم في المرتبة الثانية بعد عائدات الذهب، ولكن بفارق كبيرٍ جداً، لصالح صادرات الذهب (الرسمية)، حسبما ورد في تقرير لوكالة الأنباء السودانية.
وبلغت صادرات السودان من السمسم من خلال الستة أشهر الأولى من العام 2022 أكثر من 314 مليون دولار أمريكي، وقدرت كمياتها بـ277.048 ألف طن، بحسب الموجز الإحصائي لتجارة السودان الخارجية.
وأكبر المستوردين للسمسم السوداني في فترة هذه، هم جمهورية الصين الشعبية، حيث استوردت ما قيمته 107.9 مليون دولار أمريكي، تليها مصر بقيمة 74.3 مليون دولار ثم دولة الإمارات بقيمة 23.5 مليون دولار أمريكي ثم السعودية بقيمة 16.1 مليون دولار، ثم الهند بقيمة 14.5 مليون دولار، ثم لبنان بقيمة 14.2 مليون دولار أمريكي.
العالم كله سيتضرر إذا توقف توريد الصمغ العربي من السودان
السودان، أكبر منتج للصمغ في العالم، وهو أحد أكثر المنتجات في البلاد المرغوبة من قبل سلاسل التوريد العالمية، لأنه مكون رئيسي في كل شيء تقريباً، بداية من المشروبات الغازية، وصولاً إلى الحلوى ومستحضرات التجميل.
ويأتي نحو 70% من إمدادات العالم من الصمغ العربي من أشجار الأكاسيا في منطقة الساحل الإفريقي التي يعد السودان بلداً رئيسياً فيها.
ويدخل الصمغ العربي كعنصر أساسي في تصنيع الشوكولاتة والحلويات، ولكن الأهم من ذلك هو الدور الذي يلعبه في صناعة المشروبات الغازية، فهو يربط السكر بالمشروب، ومن بين استخداماته العديدة، يتواجد هذا المستحضر في تلميع الأحذية ويجعل طباعة الصحف أكثر تماسكاً.
في عام 1997، فرضت الحكومة الأمريكية عقوبات على السودان بدعوى منحه ملاذاً للإرهابيين الإسلاميين.
لكن بعدما احتجت جماعات الضغط العالمية المستفيدة، كان المنتج الوحيد المستثنى من حظر التصدير هو الصمغ العربي، حيث قالت الولايات المتحدة إن مثل هذا الحظر كان سيضر بصناعة الأغذية في البلاد، وخوفاً من خلق سوق سوداء بديلة.
وفي مؤتمر صحفي عام 2007، رد السفير السوداني في واشنطن على العقوبات التي كانت لا تزال مفروضة على بلاده، مندداً بتدخل الولايات المتحدة في الحرب الأهلية السودانية آنذاك قائلاً: "يمكنني إيقاف الصمغ العربي وكل واحد منا سوف يفقد هذا"، ورفع زجاجة كوكاكولا بيده.
بسبب التوترات على الأرض في السودان المصدّر الأكبر لهذا المكون من بين دول حزام الصمغ، قال 12 مصدّراً ومورّداً وموزّعاً، وفقاً لوكالة رويترز، إن التجارة في المنتج الضروري للعديد من صناعات الطعام والشراب والمواد الاستهلاكية، توقفت بالكامل الآن.
إذ بات "من المستحيل" الآن الحصول على مزيد من الصمغ العربي من المناطق الريفية في السودان بسبب الاضطرابات وانسداد الطرق، بحسب العاملين في المجال، كما أن ميناء بورتسودان -حيث يتم شحن المنتج- بات يعطي الأولوية لعمليات إجلاء المدنيين لا التجارة.
وتوضيحاً لأهمية الصمغ العربي عالمياً، يقول داني حداد، مدير التسويق والتطوير بشركة أجريجوم، أحد أكبر 10 موردين عالميين للمنتج، بحسب الوكالة: "بالنسبة لشركات مثل بيبسي وكوكاكولا، لا يمكن أن يستمر وجودها بدون وجود الصمغ العربي في تركيباتها".
صحيح أن هناك مصادر من المادة التي يمكن الحصول عليها من خارج السودان في الوقت الراهن، لكنها أقل جودة، فالمكون الأفضل موجود فقط في أشجار الأكاسيا في السودان وجنوب السودان وتشاد، بحسب حدّاد.